مروان قبلان
لم أتوقّع أن يأتي يومٌ يضطر فيه المرء إلى خوض نقاش بشأن مركزية القضية الفلسطينية في الفكر والوجدان العربي (السوري تحديدًا)، فهذا أمرٌ مسلَّمٌ به مثل قوانين الطبيعة، لا يحتاج المرء إلى نقاشها، هو يدرك كنهها فقط ويسلّم بها. لكن من الواضح أن الكارثة التي ألمّت بسورية خلال العقد الماضي، ولعبت إيران وحزب الله دوراً رئيساً فيها، أربكت تفكير بعضهم، فصاروا يروْن تماهيًا بين دعم القضية الفلسطينية ودعم المشروع الإيراني القائم في جزءٍ منه على استغلالها. وقد ظهر هذا التوجّه خصوصًا في الموقف من الحرب الإسرائيلية على غزّة، وفي تفسير قرار حركة حماس خوضها بأنه قرار إيراني، وفي هذا تحوّل خطير في نهج التفكير، يخدم المصلحتين، الإسرائيلية والإيرانية، بمقدار ما يؤذّي القضيتين السورية والفلسطينية معًا، ويضعهما في تناقض مصطَنع، في حين أنهما قضية واحدة، حيث يستمدّ الاحتلال والاستبداد كلٌّ منهما قوّته من الآخر ومن وجوده واستمراره.
لا ضير في أن نؤكّد ونذكّر، قبل كل شيء، بحقيقة أن القضية الفلسطينية سوريةٌ بامتياز، وهي كذلك قبل أن تكون عربية. دع جانبًا مسألة أنها لم تكُن، ولن تكون، قضية إيرانية. وهذا ليس موقفًا إيديولوجيًا مرتبطًا بأفكار القومية العربية، التي برزت في سورية منذ أواخر القرن التاسع عشر، بل هي حقيقة تاريخية وجغرافية وسياسية. فحتى عام 1864 كانت القدس تتبع إداريًّا لولاية دمشق، إلى أن فُصلَت عنها، إضافة إلى جبل لبنان (سمّي متصرّفية) بموجب قانون الولايات العثماني الجديد، وحُوِّلَت (القدس) إلى “سنجق” مستقلّ يتبع مباشرة لإستانبول (أو إسطنبول). وقد حصل ذلك نتيجة أحداث 1860 الطائفية في دمشق ومخاوف الباب العالي من استغلال القوى الأوروبية لها للتدخل في شؤون الدولة العثمانية. وفي المؤتمر السوري العام (1919 – 1920) الذي يعد أول برلمان وطني لسوريا الكبرى، كان الحضور الفلسطيني طاغيًا. وقد تركّزت مداولات المؤتمر، الذي ترأسه هاشم الاتاسي، حول رفض المشروع الصهيوني في فلسطين ورفض فصل فلسطين ولبنان عن الوطن الأم (سورية) وقُدِّمَت توصيات بهذا الخصوص إلى لجنة كنغ – كرين الأميركية التي انبثقت من مؤتمر السلام في باريس (1919)، للنظر في مستقبل الولايات العربية التي انفصلت عن الدولة العثمانية. وقد أوصت اللجنة حينها بالحفاظ على وحدة سورية. لا حاجة للخوض أكثر في التاريخ، ولا في مشاركة السوريين في مقاومة المشروع الصهيوني والانتداب البريطاني قبل إنشاء دولة إسرائيل وبعدها، باعتباره جزءًا من نضالهم الوطني ضد الاحتلال، فهذا كلّه موثّق ومعروف، بل ننتقل مباشرة إلى الحاضر لإيضاح ثلاث قضايا هامة مرتبطة بما يجري اليوم في غزّة:
أولاً: أنه، وكما أن القضية الفلسطينية ليست إيرانية، فإن “حماس” ليست جزءًا من المشروع الإيراني في المنطقة، ومشروعها إزالة الاحتلال، وليس الدفاع عن إيران، وخيارها خيار عربي بامتياز، بدليل أنها لم تتردّد في إدارة ظهرها لإيران والوقوف إلى جانب ثورة الشعب السوري عام 2012 عندما توافر لها ظهير عربي بديل (مصر). لقد اضطرّت “حماس” العودة إلى “الحضن الإيراني” فقط، بعد أن حاصرها أكثر العرب وأعلنوا الحرب عليها، علمًا أن الحركة تدرك أن إيران تستغلّ القضية الفلسطينية، وتستغلها هي أيضًا لإخفاء الوجه الطائفي لمشروعها الإقليمي، لكنها تجد نفسها في غياب البدائل مضطرّة إلى ذلك.
ثانيًا، تدرك “حماس” أن عضويتها في “محور المقاومة” لا تؤهلها لقيام بقية أعضاء المحور بالدفاع عنها أو الدخول في مواجهة مع إسرائيل من أجلها، أو من أجل فلسطين، ببساطةٍ لأنها ليست قضية إيران ولا المهمّة التي نشأ من أجلها حزب الله. ينتج من هذا: ثالثاً، أن قرار الحرب في غزة لم يتّخذ في طهران ولا في بيروت، بل اتخذته منفردة، ومن دون مشاورات، القيادة العسكرية لـ”حماس” في غزّة ممثلة بكتائب عز الدين القسّام، حتى إن القيادة السياسية لحماس في الخارج لم تعلم به، لأسباب بعضها أمني وبعضها مرتبط، على الأرجح، بوجود تبايناتٍ بين الداخل والخارج، بين السياسيين والعسكريين. فوق ذلك، يبدو أن إيران فوجئت بعملية “طوفان الأقصى” وبمداها وحجمها، كما تفاجأ حزب الله الذي استاء من وضعه على الهامش، ومن عدم استشارته في قرار حربٍ قد ينجرّ إليها مرغمًا، علاوة على أن ما فعلته “حماس” يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 يجعل “إنجازاته” في حرب تموز 2006 “هامشية”. أخيراً، ينبغي لفت الانتباه إلى أن المظاهرات المندّدة بالعدوان الإسرائيلي على غزّة، والتي امتدّت من جاكرتا إلى لوس أنجلوس، لم تمرّ بطهران.
المصدر: العربي الجديد