د.عبد الناصر سكرية
لم يعد مقبولا بعد اليوم الحديث عن صراع ديني بين المسلمين واليهود يجري على أرض فلسطين..لم يكن صراعا دينيا في الأصل والأساس ..فمنذ إنشاء المنظمة الصهيونية العالمية والأهداف الإستعمارية الموجهة ضد الوطن العربي وبلاده ؛ تتخفى بالغطاء الديني لإضفاء شيء من القدسية الدينية على مطامعها وأهدافها الخبيثة والتي لا تمت للدين بصلة..وقد أشاعت الدوائر الإستعمارية ومنذ مرحلة مبكرة ؛ فكرة الطبيعة الدينية للصراع العربي – الصهيوني..وذلك لتحقيق عدة أهداف في وقت واحد :
١ – تبرير اغتصاب فلسطين بزعم أحقية اليهود في أرضها بحكم تواجد بني إسرائيل عليها قبل آلاف السنين.. ومع أن الصهاينة المعاصرين لا يمتون بصلة إلى بني إسرائيل الوارد ذكرهم في القرآن الكريم ..إلا أن أرض فلسطين عربية وشعبها عربي منذ ألف وخمسمئة عام وتزيد ، بمن فيها من مسلمين ومسيحيين ويهود من أبناء الهوية العربية..
٢ – وعلى مدار مئات السنين لم تحدث مشكلة بين أبناء فلسطين المسلمين مع أبنائها من اليهود وجميعهم عرب..إلى أن ظهرت الحركة الصهيونية إطارا لتحقيق عدة أهداف إستعمارية في بلادنا العربية ؛ في ذات الوقت..
٣ – إن تغليف المطامع الإستعمارية الخبيثة بالغطاءات الدينية من شأنه أن يجعل الصراع حولها لا ينتهي ؛ فضلا عن إخفاء حقيقتها وتضليل العالمين عنها..
٤ – تجنيد أكبر عدد ممكن من اليهود في العالم لإستجلابهم إلى فلسطين ليكونوا قاعدة للدولة الإستعمارية المراد إنشاؤها ..وهم يمتلكون إمكانيات ضخمة مالية وإقتصادية وإعلامية من شأنها المساهمة في إنجاح المشروع ..
٥ – إختراع ” شعب يهودي “:
وحيث أن اليهود ينتمون إلى مجتمعات قومية مختلفة ومتنوعة ؛ فلا يمكن قبول دعوة الصهيونية لتجميعهم في فلسطين إلا إذا كانت دعوة دينية فتتخذ أساسا لدولة قومية جديدة مزعومة..
وهكذا كان من مصلحة الصهيونية والقوى الإستعمارية معا ؛ إظهار مشروع اغتصاب فلسطين وكأنه هدف ديني ليتمكن من النجاح والإستمرار..
ومن المعروف أن اغتصاب فلسطين تحديدا لم يتبلور إلا عقب مؤتمر كامبل بانرمان المنعقد سنة 1907 وتباحثت خلاله القوى الإستعمارية تلك في مصير المنطقة العربية بعد سقوط الدولة العثمانية المتوقع حيث كانت مريضة تعاني من مشكلات داخلية كثيرة ؛ وكانت حركة القومية العربية والدعوة إلى دولة عربية واحدة منفصلة عن تركيا ؛ في تصاعد ؛ الأمر الذي أرعب تلك القوى من قيام الدولة العربية ..وفي ذلك المؤتمر حصل التزاوج بين الصهيونية والقوى الإستعمارية والتوافق على اغتصاب فلسطين لتكون جسما بشريا غريبا يمنع تواصل وتفاعل ووحدة العرب المخيفة بالنسبة إليهم..
وخلال العقود الثلاثة الأولى من عمر الصراع إثر تأسيس دولة ” إسرائيل ” ؛ كان واضحا لكل العرب أن هذه الدولة الناشئة تشكل خطرا وجوديا عليهم جميعا..والصراع وجودي حضاري شامل ، لا يحتمل خيارات أخرى : فإما فلسطين عربية تنتمي إلى أمتها العربية وإما صهيونية معادية ومرتبطة بشدة بالحلف الإستعماري العالمي..
ولم تظهر التفسيرات الدينية للصراع في طلائع الخطاب السياسي ؛ إلا منذ بداية ثمانينات القرن العشرين حينما برزت أحزاب دينية إسلامية متخذة العداء لليهود معيارا ومنطلقا للمواجهة ضد العدو الإسرائيلي..وذلك بعد أن خفت صوت القومية العربية وتراجعت حركة التحرر العربية..وهكذا أطلقت تسميات المقاومة الإسلامية واتسع الخطاب السياسي لكل الآفاق والأبعاد الدينية إقحاما لها في طبيعة الصراع..
وقد كانت لهذا التفسير مبررات شبه موضوعية تستند إلى أن أصواتا يهودية ذات شأن لم ترتفع اعتراضا على سياسات الكيان الصهيوني ولا مناصرة لحقوق شعب فلسطين..
إلا أن ذلك التفسير الديني كان يحمل في طياته خطأين أساسيين :
أ – نقص معرفي بحقائق التاريخ وطبيعة الصراع والأهداف المرسومة له ..
ب – والأخطر من ذلك أنه يقر بأن صهاينة ” إسرائيل ” الذين اغتصبوا فلسطين ويشنون عدوانا متواصلا على فلسطين والوجود العربي ؛ إنما هم أحفاد بني إسرائيل مع ما يستتبع ذلك من حوارات ساخنة عقيمة حول حقهم في العودة إلى فلسطين حيث عاش أنبياؤهم من موسى إلى سليمان الذي أسس هيكله في القدس وأقام دولته اليهودية فيها ؛ كما يزعمون..
وقد كان ممكنا ولازما تجنب مثل هذا التراشق الحواري بالمعطيات التاريخية والدينية بين طرفي الصراع ؛ توفيرا لجهود ضائعة عبثا ، وتحديدا لحقائق الأمور كما هي واقعيا..
وتتجلى خطورة هذا التفسير في عدة جوانب هامة :
أ – مكن الحركة الصهيونية من تحشيد أكبر عدد من يهود العالم إلى جانبها ؛ كما قمع وإخفاء أصوات كثير من اليهود المناقضين لها أو الرافضين لسياستها ومنعهم من الظهور وامتلاك دور فاعل ؛ تحث تأثير المشاعر الدينية المتأججة..
ب – أزاح قطاعا مهما وتاريخيا من تكوين الشعب الفلسطيني والعربي ونعني المسيحيين العرب..وهم مواطنون أصلاء سبقوا حتى المسلمين العرب في الولاء لهذه الأرض والدفاع عنها وعن هويتها العربية..وهو ما ليس في مصلحة النضال العربي ضد المشروع الصهيوني..
ج – يعطي صفة الديمومة على الصراع فلا يستطيع أحد الإنتصار فيه ..وهذا ما يقوله رب العالمين في كتابه الكريم أنه هو الذين يفصل يوم القيامة بين أبناء الديانات المختلفة..
د – ولكونه صراعا دينيا فإنه ينفي الأخطار على مقومات الأوطان ويلغي صفة الإنتماء إلى وطن وبالتالي فلا مكان فيه لما يسمى وطنية فهي تدخل في باب العصبية الممقوتة دينيا..وهذا ما أوقع الأحزاب الدينية في كثير من المواقف المغلوطة أو المغالطة للواقع..
وعلى الرغم من أن الإيمان الديني هو المحرك الأهم لمقاومة شعب فلسطين ولقدرته الهائلة على التضحية والتحمل والصبر وقبول الإستشهاد بضمير يقظ ونفس راضية ؛ إلا أنه يبقى صراعا وجوديا يشمل كل شيء على الأرض من بشر وحجر وشجر وكل مظاهر الحياة..ولعل الوقائع الميدانية تثبت هذا الصراع الوجودي فتخرجه من دائرة الصراع الديني وأفقه أحادي الجانب..والإسلاميون أنفسهم يخوضون دفاعا بطوليا إستثنائيا عن أرضهم وعرضهم ووطنهم فلسطين متجاوزين الجانب الديني وحده في الصراع..
كما تبين الأحداث المتلاحقة منذ سنوات غير قليلة خروج أعداد متزايدة من يهود العالم عن طوع الصهيونية والخضوع لها فينددون بممارسات دولة ” إسرائيل ” ويطالبون بإعطاء الفلسطينيين حقوقهم حتى أن تيارا أصبح فاعلا بينهم لا يعترف بتلك الدولة المصطنعة ويعتبرها خطرا على اليهود أنفسهم..إضافة إلى عشرات الكتاب والمثقفين اليهود الذين باتوا يكشفون زيف إدعاءات الصهيونية حول تاريخ ما يسمى الشعب اليهودي..وعلى رأسهم المؤرخ المقيم في تل أبيب د.شلومو ساند مؤلف كتاب إختراع الشعب اليهودي..
فالقول بتفسير الصراع دينيا يلغي دور هؤلاء بل يسكتهم أمام أكاذيب الكيان الغاصب وربما يدفعهم دفعا للخضوع إلى منطق الصهيونية وتأويلاتها المزيفة الكاذبة.. ويفقد القضية شواهد حق وشهادات حية تاريخية وإنسانية تزيد أهميتها لأنها تصدر عن يهود فيما تدعي ” إسرائيل ” أنها دولة قومية لليهود..
وطالما يقول البعض بالصراع الديني فإنه يبرر للإسرائيلي دعوته لتجميع يهود العالم في دولة واحدة على أرض فلسطين دفاعا عن أنفسهم وعن دينهم..
كما أنه يسقط الجانب الإنساني من قضية فلسطين حيث هي في أحد جوانبها ، دفاع عن الحق بوجه عقيدة عنصرية إجرامية الأمر الذي يجعل أحرار العالم يؤيدون نضال شعب فلسطين لدوافع إنسانية وقد لا يكونون لا مسلمين ولا يهود وليسوا معنيين بأي صراع ديني من أي نوع..
بقي أن نقول أن آلافا مؤلفة من المسلمين والعرب قد أصبحوا صهاينة أو تصهينوا بفعل المصالح أو الإبتزاز أو الجهل أو الإرتهان لقوى النفوذ الأجنبي..فهم في صف الصهاينة ويبررون لهم إجرامهم وعدوانهم الوحشي ويحملون الضحية نتيجة أفعال المجرم..
فكيف يكون صراعا دينيا بين اليهود والمسلمين ؟؟
جميع هذه الوقائع الميدانية والتاريخية تجعل من القول بالصراع الديني في غير مصلحة القضية عدا عن كونه مخالفا تماما للوقائع والحقيقة..وعليه فإن إطلاق صفة ” الإسلامية ” على المقاومة إنما هو إنتقاص من دورها ومفهومها ومضمونها الوطني والقومي المحدد..فضلا عن أنه يعطي أية أطراف إسلامية غير عربية إمكانية الوصاية على القضية أو المزايدة عليها أو حتى المتاجرة بها وإستثمارها لخدمة مشاريعها الخاصة.. كما أنه يعطي مبررات لمشاريع تقسيمية على أسس دينية أو طائفية أو مذهبية..وهذا كله أو بعضه خطر على القضية ذاتها ؛ وفي أحد أشكاله يصب في طاحونة العدو ومشاريعه التخريبية التدميرية..
إن مقاومتنا مقاومة شعبية وطنية عربية عروبية وليست بحال إسلامية..فلسطين عربية كانت ولن تكون إلا عربية..نحررها لتعود جزءا غاليا من الأمة العربية ذات المصير الواحد رغما عن كل التخاذل والإدعاء.