أحمد الشمام
اعتدنا في ألمانيا على القنابل القديمة المدفونة منذ الحرب العالمية الثانية، والتي لا يمر شهر على مدينة أو ولاية إلا ويتم اكتشاف قنبلة في مكان ما؛ فتجتمع الشرطة والحراس لعزل المنطقة، ويتفرغ المختصون لتفكيكها. وهي عادة أصبحت من مسلمات الحياة في ألمانيا، وينبني هذا السرد على ثلاثة ركائز يدعم بعضها بعضا كما وردت في العنوان:
الغرب بوجهه الآخر أو الحقيقي الذي عُمّينا عنه؛ الذي لا يمكن لأتباعه ومنبطحيه من مثقفين ومرداء وكتبة أن يبرروا مواقفه تحت مسمى المصالح الدولية، فالغرب المسيحي الهوية مسنودا بمركزية غربية وحداثة كولونيالية وعولمة وتفوق صناعي؛ هو صليبي تماما عندما يضطر لمواجهة مشكلة مع دولة إسلامية وهو ما ظهر في خطاب بوش قبل حربه على العراق 2003م، في حين أن هذا الغرب يصمت عندما يبصق متطرفو الكيان الصهيوني على الكنائس في فلسطين وعلى روادها من الأوربيين أنفسهم، لاشك أن الغرب الذي نتحدث عنه هو غرب القوة والهيمنة والسطوة الكولونيالية الجديدة إذ تخرج البرازيل والأرجنتين وباقي دول أمريكا اللاتينية بعيدا عن دوامته خطأ أو صوابا، في حين لا تخرج دول شرقي أوربا التي كانت تابعة للمعسكر الشيوعي عن تلك الرؤية النازية؛ بسبب ثقافتها لا بسبب حرب المصالح الدولية التي لا ناقة لها فيها ولا جمل، سوى أنها تقتات من دول أوربا القوية وتحتمي بها وتتبعها، كما ظهر هذا الغرب عبر مفهوم عصبة الأمم المتحدة التي أسسها المنتصرون في الحرب العالمية الثانية حتى لتبدو قيادة للعالم شكلت عصبة ومؤسسات لتأمين من يتبعها تحت مسمى شرعة دولية، منها قوات اليونيفيل التي تركت مسلمي البوسنة بعد تسليم سلاحهم لتلك القوة الدولية عزلا لتفتك بهم كتائب الجيش الصربي وتقتل 8000 من الأطفال والشيوخ في سيبرنيتشا في يوليوا 1995م، ولعله من الجميل جدا أن تؤسس الأمم المتحدة مؤسسات سلام تكذب بها على على موظفين أو متطوعين صدق بعضهم كذبتها فصاروا نشطاء سلميين يقولون الحقيقة ويخسرون وظائفهم في بلدانهم الغربية الديمقراطية، هذا الغرب الذي يتابع كل هذا الدمار ويغمض عينه، يسقط بكل قيمه البراقة دفعة واحدة عندما تقول عضو الكنيست العربية الطفل هو الطفل سواء بغزة أو إسرائيل؛ وتعترض أخرى صهيونية بأن الأطفال ليسوا سواء.
وقد قدر أن تخطئ ال بي بي سي وهي توجه مراسلتها بالتحرك يمينا وشمالا وتنبطح أرضا وتدعي الخوف قبل أن تبدأ ويظهر كل ذلك على الهواء، مثلما انبطحت مراسلة التلفزيون الروماني في حين تسير الدراجات خلفها والمدنيون بكل حرية، وينبطح وزير ألماني في المطار وخلفه الحياة تسير عادية كما في بلاده؛ ليبدو أن لا أمان لهؤلاء المستوطنين بسبب الإرهاب، وتطويع ثقافة شعوبهم بما تقتضيه المصلحة، وتطول قائمة لا يذكر فيها دم ولا صراخ طفلة تحت الأنقاض لئلا تجرح، لكن السرد في ذلك يفضي لمواجهة أنفسنا بأن الغرب له هويته؛ وللشرق هويته النقيضة المفارقة بحكم سياقات إمبريالية مازالت تفعل فعلها فينا وفي بلداننا، ولندرك أنه بات على هذا الشرق أن يحترف المقاومة ووضع الحواجز والغرابيل لتصفية كل نأمة أو تغريدة أو شعار حقوقي يصدره، والشد قليلا على لجام موجة التغيير التي طفحت بالكثير منا تمثلا به، الذي قال الفيلسوف كارل يونغ عنه “الغرب عمالقة التقنية وأقزام في الأخلاق” والمؤسف أن كثيرا منا اتبعوه فيما هو قزم فيه وتركوه فيما هو عملاق؛ ولعل مهمة أنظمتنا الدكتاتورية كانت تقضي بأن يخنق أي توجه علمي رزين ليهاجر مبدعونا للغرب ويسندوا دراساته العلمية وجامعاته.
قنابل حماس: نشرت صحف ألمانية تصريحات للشرطة المستنفرة عن قنبلة مزروعة في إحدى المدارس وبعد أعمال بحث مضنية وانهيارات عصبية وتحولات نفسية للطلاب والمعلمين تم الحديث عنها في الإعلام – رغم اعتياديتها كما أسلفنا- لم تجد شيئا علما أنها صرحت أنها تلقت تحذيرات عبر البريد الإلكتروني بوجود قنابل في أماكن ثبت كذبها، وأن جهة دولية أخرى قد أوصلت المعلومة لجهاز المخابرات الألماني، ورغم احتمالية حدوث ذلك من أعضاء في داعش لكن السردية تعيدنا لسردية نظام الأسد عندما كان يضع الإرهاب في الوسط عند الحديث عن أي اعتراض على سياسته، تبدو تلك السردية متهافتة لدرجة تثير الاشمئزاز حيث يمكننا التساؤل ماذا لو كانت تلك الدولة هي إسرائيل المقدسة فهل تستطيع المؤسسات الألمانية أن تعلن ذلك وتكشف كذبها؟ ستصطدم الحقيقة فيما لو استطاع أحد المحققين في ذلك بقانون معاداة السامية في ألمانيا، ألمانيا التي منعت مظاهرات التآزر لأجل مدنيي غزة تخوفا على الأمن العام؛ في حين سمحت بالعكس، وحيث تتواجد فيها نخبة يهودية تمتلك مؤسسات وإمكانات وخبرة يخدمها الألمان أنفسهم ويتملقون لها، وتستطيع أن تخترع آلاف الأسباب القانونية للتغول على من يعترضها، كما أن تعليمات صدرت بحق من يظهر موقفا يؤيد فلسطين في المدراس، ومنع لبس الشال الفلسطيني، أو علم فلسطين ولعل ذلك ينسف مقولات الاندماج ومحاولات تعليم الأطفال قيما ثبت أنها مزدوجة، لتسقط إغواءات الحرية الكاذبة ليخرج من بين جيلهم الغض من يؤمن بحق الفلسطيني في الحياة ،وينمو بافتراق واضح مع المنظومة الثقافية الغربية تلك.
حمى التكفير: لعل مفردة التكفير وقرت في ذهنيات الكثير عن الإسلام والتكفير فيه، ذلك الذي تضمنته كتب الديانات السماوية الثلاث بل وصلت تعاليم توراتية و تلمودية إلى ذبح الأطفال وقتل البشر والشجر والحجر، لكن الوجه الآخر للتفكير ويدفع الفلسطيني ثمنه الآن هو رغبة التكفير عن الذنب تلك التي تحولت إلى ذهنية ومؤسسات وسياسات تتبعها ألمانيا، بعد ارتكابها جرائم المحارق النازية فيها ضد اليهود، وبات عليها أن تكفر عن ذنبها ذاك بأن تقدم الفلسطينيين على مذبح التبرؤ والتفكير لذاك الإثم، وفي حين تقول المسيحية أن المسيح قد افتدى من يؤمنون به فصلب ليكفر عن خطاياهم، يبدو الألمان مستعدون لصلب المسيح الفلسطيني للتكفير عن ذنب ارتكبه أجدادهم بحق يهود عاشوا بينهم، في حين آوى المسلمون والعرب اليهود الذي هاجروا من حمى التكفير الديني التي مورست بحقهم إبان محاكم التفتيش في الأندلس، تقول ناشطة سلام أمريكية، إن الدين المدني الأمريكي هو “إسرائيل”، أي أن تكون صهيونيا مثلما صرح جو بايدن في إحدى خطبه المتلفزة أن أباه قد قال له ليس بالضرورة أن تكون يهوديا لتكون صهيونيا، في خضم ذلك يجب علينا قراءة الشعوب الغربية لجهة جهلها وثقافتها المؤطَّرة، وإدراك ما يلزم لإيصال صوت الحقيقة لها؛ وقراءة الموقف الرسمي لحكومات الغرب التي لا تقل صهيونية عن الكيان الصهيوني في فلسطين، حتى ليبدو أن المستوطنين لو هربوا خوفا من المقاومة الفلسطينية وكأن الغرب سيدفع بقواته للمرابطة هناك للإبقاء على قلعة وخنجر في خاصرة الشرق.