عبد الباسط سيدا
موضوع استخدام الأماكن المقدسة مادة للتجييش والتعبئة والتسويغ والشرعنة ليس بالأمر الطارئ الجديد في بقاع كثيرة من العالم، خاصة في شرقنا حيث مهد الديانات السماوية الثلاث التي توافقت على اعتبار القدس من أهم مقدساتها على المستويين المكاني والزماني؛ استمدت منها الشرعنة، واستخدمتها السلطات السياسية التي اتخذت من الدين ايديولوجية أداة فعالة لشد العصب وإسباغ هالة من القداسة على الحروب التي كانت، وما زالت أدوات في مشاريع توسعية، سوّقت تحت شعارات التحرير والخلاص والتخليص باسم تحقيق مشيئة الله.
فالشرق، وبالتحديد الشرق الأوسط، الذي يشمل سوريا وفلسطين والأردن ولبنان ومصر، كان، وما زال، منطقة جاذبة للقوى الدولية والإقليمية التي ترى فيها مجالاً حيوياً استراتيجياً يتوسط العالم القديم. كما تتسم هذه المنطقة بمناخها المعتدل، وشواطئها الدافئة، وثرواتها المتجددة، إلى جانب وقوعها على الطرق التجارية الأهم في العالم. ولهذا كله كانت باستمرار هدفاً للسيطرة والتحكّم من جانب القوى الدولية والإقليمية. ويُشار هنا على وجه التحديد إلى الأكاديين والبابليين والآشوريين، والحثيين والحوريين، والفرس، واليونان والرومان، والعرب لا سيما بعد انتصار الإسلام في شبه الجزيرة العربية. فقد اتخذ الإسلام من المسجد الأقصى في القدس قبلته الأولى؛ هذا في حين أن المسيحية تعتبر المدينة ومحيطها مهد السيد المسيح، وساحة رسالته، وموقع محاكمته وقتله وقيامته، بينما وجد اليهود في الأرض المقدسة، أرض الميعاد، ويعتبرون أنهم الأقدم والأكثر شرعية، وأصحاب الحق في أرض منحها الرب لهم.
أما حكام دول أوروبا المسيحية في العصور الوسطى الذين كانوا يستمدون شرعيتهم من الكنيسة المهيمنة، فقد وجدوا في موضوع تحرير القدس والأرض المقدسة مادة حيوية للتجييش بغية توجيه الأنظار نحو الخارج، وتثبيت القواعد في منطقة واعدة على صعيد الخبرات والثروات.
وكان وعد بلفور في 2 تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1917 الخاص بتأسيس وطني قومي لليهود في فلسطين. وفي أعقاب انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الأولى 1914-1918 كانت الجهود البريطانية مركزة لتنفيذ الوعد المشار إليه، وهو الأمر الذي تحقق بموجب قرار التقسيم الذي اتخذته الأمم المتحدة عام 1947 بعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية 1939-1945.
وبعد التقسيم وإلاعلان عن دولة إسرائيل، كانت الحروب المتعاقبة بين الدول العربية والأخيرة بدءا من حرب 1948 مرورا بحرب 1967 وحرب تشرين الأول (كتوبر) 1973، وصولاً إلى حرب لبنان عام 1982، التي كان من بين نتائجها إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، وتعزيز سلطة حافظ الأسد على مفاصل الدولة والمجتمع اللبنانيين عبر قواته وأجهزته الأمنية التي ما كان لها أن تدخل إلى لبنان من دون ضوء أخضر أمريكي وإسرائيلي. والجدير بالذكر هنا أن هذه المرحلة حرب مذابح صبرا وشاتيلا في ايلول (سبتمبر)1982، وهي المذابح التي كانت وراءها القوات الإسرائيلية بمساعدة حلفائها من اللبنانيين؛ كما كانت حرب المخيمات التي قادتها القوات السورية بمشاركة حركة أمل والفصائل الفلسطينية المرتبطة بالأجهزة الأمنية السورية؛ ويشار هنا على وجه التحديد إلى منظمة الصاعقة، والجبهة الشعبية – القيادة العامة، وفتح الثورة، وقوى أخرى فلسطينية ولبنانية أصطفت مع نظام حافظ الأسد ضد منظمة التحرير الفلسطينية ورئيسها ياسر عرفات.
ومع ترسخ العلاقات بين النظام الإيراني ونظام حافظ الأسد، ومساندة الأخير لنظام الخميني في الحرب مع العراق 1980-1988 تحت شعار المحافظة على التوازنات، ومنع الأوضاع من التوجه نحو المزيد من التدهور، تم التوافق بين النظامين المذكورين على تأسيس حزب الله في لبنان، ليصبح مستقبلاً متعهد ملف «المقاومة» بعد إزاحة الفصائل والقوى اللبنانية والفلسطينية الأخرى بمختلف الأساليب. كما تم التوافق بين الطرفين على تبني حزب العمال الكردستاني- التركي ليكون المتحكّم بالورقة الكردية في كل من إيران وتركيا وسوريا؛ وخلق المشكلات للقوى الكردية الأساسية في كردستان العراق، خاصة الحزب الديمقراطي الكردستاني.
ومع الوقت حاول حافظ الأسد، عن طريق فصائل فلسطينية موازية كان قد أوجدها بين الفلسطينيين في لبنان وسوريا، وذلك لإبعاد منظمة التحرير عن ملف التفاوض مع إسرائيل، حتى يبقى هذا الملف المهم المؤثر هو الآخر ورقة من بين أوراقه الإقليمية التي كان يستخدمها لتعزيز دور نظامه الإقليمي.
ومع ظهور حماس على الساحة الفلسطينية، لا سيما في غزة عام 1987، وجد حافظ الأسد فرصة لممارسة المزيد من الضغط على منظمة التحرير، خاصة في مؤتمر مدريد، عام 1991، الذي انعقد بعد حرب تحرير الكويت، شباط (فبراير) عام 1991، ولم يُسمح لمنظمة التحرير المشاركة باسمها. إلا أن ياسر عرفات حسم الموضوع هذه المرة عبر مفاوضات أوسلو السرية مع إسرائيل؛ وكان التوصل إلى اتفاقية سلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وهي الاتفاقية التي تم التوقيع عليها في واشنطن برعاية الرئيس الأمريكي بيل كلينتون في 13 ايلول (سبتمبر) عام 1993.
وبعد ذلك، كان اغتيال رابين في 4 تشرين الثاني (نوفمبر) 1995، وهو ما اعتُبر مؤشراً لتنامي قوة اليمين الإسرائيلي الشعبوي المتشدد الذي يحكم إسرائيل حالياً. وهو اليمين الذي لم يؤمن بمشروع حل الدولتين، بل أفرغه عملياً من محتواه عبر دعم سياسة الاستيطان الشمولي، والتضييق على السلطة الفلسطينية، واتخاذ ورقة حماس ذريعة لتهديد المجتمع الإسرائيلي بها لتسويغ تشدده، والتغطية على سياساته العنصرية. وما مكّن هذا اليمين أكثر هو الموقف الأمريكي غير الحاسم في ميدان محاولات ايجاد حل لمشكلة النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، وانعكاسات هذا التوجه على مواقف الأوروبيين أيضاً، الذين يبدو أن دورهم في هذا الملف يقتصر على الهوامش التي تسمح بها الولايات المتحدة الأمريكية.
وكان من اللافت عزم الإدارة الأمريكية في عهد ترامب على حسم الموضوع لصالح اليمين الإسرائيلي المتشدد من خلال القضاء على فكرة مشروع حل الدولتين عبر الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على المناطق المختلف عليها، ومنها القدس الشرقية؛ إلى جانب غض النظر عن النزوع الإسرائيلي نحو توسيع نطاق سياسة بناء المستوطنات ومصادرة الأراضي الفلسطينية؛ وتشجيع التطبيع الثنائي بين الدول العربية وإسرائيل، وذلك في مواجهة صارخة مع مشروع السلام العربي الذي اقترحه الملك السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز أيام ولايته للعهد، هو المشروع الذي تم تبنيه من القمة العربية التي انعقدت في بيروت عام 2002.
وفي أجواء التحركات والاتصالات وصدور تصريحات حول امكانية التوصل إلى تطبيع في العلاقات بين إسرائيل والسعودية، مقابل شروط سعودية تخص الحقوق الفلسطينية، مع ضمانات أمريكية، وبعد موافقة السلطة الفلسطينية في رام الله، أحس النظام الإيراني أن الورقة الفلسطينية هي في طريقها إلى الخروج من يده، الأمر الذي كان سيفقده امكانية توظيف قضية الأقصى التي طالما دغدغ بها المشاعر في العالمين الإسلامي والعربي لصالح مشروعه التوسعي الإقليمي؛ فجاءت الهجمة الحمساوية غير المتوقعة وغير المسبوقة لتخلط الأوراق مجددا، وتقطع الطريق على مشروع التطبيع السعودي الإسرائيلي، ووضع المنطقة أمام مختلف الخيارات الصعبة، وذلك في أجواء إقليمية ودولية وفلسطينية داخلية ليست في صالح الفلسطينيين وقضيتهم العادلة بامتياز.
من الصعب التكهن حاليا، بناء على المعطيات المتوفرة، بمسار الأحداث في المستقبل القريب، ولكن الأمر المؤكد هو أن ما حدث قد وضع العالم مجددا أمام ضرورة الاعتراف بوجود قضية تستوجب حلاً، وهي قضية تخص شعبا سُلبت أرضه، ومُنع عنه كل شكل من أشكال التعبير عن شخصيته الوطنية والقومية عبر مؤسسات سيادية تكون صمام الأمن في سلام متوازن عادل مستدام بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وهو سلام إذا ما تحقق ستكون له تبعاته الإيجابية على واقع المنطقة بأسرها، وسيساهم في حل الكثير من القضايا الأخرى التي تثقل كاهل المنطقة على مستوى الأفراد والجماعات والشعوب، ومن أهم هذه القضايا: السورية والكردية واللبنانية واليمنية والعراقية، وقضايا أخرى كثيرة أصبح عددها يساوي تقريبا عدد دول المنطقة وشعوبها.
ولكن الحكومة الإسرائيلية الحالية ليست مستعدة اليوم للاعتراف بالحق الفلسطيني، وقد تجسد هذا الأمر بآخر صوره في رد فعلها السلبي القوي على ما دعا إليه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش حول ضرورة الاعتراف بالظلم الذي يعيشه الفلسطينيون وتأثير ذلك في تنامي نزعة التطرف لديهم.
وفي ظروف كهذه، وفي غياب العقلانية الحكيمة البعيدة النظر الباحثة عن الحلول الواقعية العادلة، من الطبيعي أن تكون المنطقة مهددة بكل الخيارات السيئة ما لم تحدث معجزة في زمن يفتقر إلى الأنبياء والمصلحين.
*كاتب وأكاديمي سوري
المصدر: القدس العربي