أيمن الشوفي
سرعان ما تراجع وزير التراث الإسرائيلي، عميحاي إلياهو، عن تصريحه المُغرق بإثارة الجدل، حين دعا الحكومة التي ينتسب إليها إلى إلقاء قنبلة ذريّة على قطاع غزّة، أراد في وقتٍ لاحق لكلامه ذاك أن يشذّب من درجة حرارته قليلاً، فاعتبر أن ما قاله جاء من باب الاستعارة والمجاز ليس إلا! ولكن إسرائيل تريد بالفعل إتلاف وجود غزّة في الحيّز المكاني، تريد محوها من أوصاف خريطة فلسطين، تريدها جزءاً غير ضار من التراث الفلسطيني المسافر في تغريبته القصوى، بالرغم من أن تصريح إلياهو جُوبهَ بسحابة استنكار ترامت أطرافها على مساحة واسعة من ألسنة وزراء في حكومة الكيان الإسرائيلي. غير أن الجانب الهستيري في تصريح وزير التراث مرتبطٌ على نحوٍ وثيق بعجز جيش الاحتلال على صياغة مفردات نصرٍ عسكري بعد اجتياح القطاع بريّاً، وفشله في حسم المعركة على الأرض، بعد كل القتل الذي أوقده في القطاع المنكوب، حيث تجاوز عدد من فارق الحياة هناك عشرة آلاف فلسطيني، أكثر من ثلثهم أطفالٌ ونساء، إضافةً إلى أكثر من 24 ألف جريح، وتلك أرقامٌ نازفة بحق، جرى تحصيلها خلال شهر واحد، وهي مربكة إن لاحقناها من دلالات فهمها، ذلك أن شهراً إضافياً على استرسال جيش الاحتلال بتصفيّة قطاع غزّة سيضاعف أرقام الموت هناك بالحدّ الأدنى، عدا عن تنامي نسبة النزوح، حيث بات أكثر من ثلثيّ سكان قطاع غزّة يعيشون نزوحاً قسريّاً بعيداً عن أماكن سكنهم، بعدما استطردت إسرائيل كثيراً في توثيق غزّة مكانا غير صالح للحياة، أو البقاء فيه، هكذا يُمنهجون الترحيل، ويدفعون الناس هناك دفعاً باتجاهه.
أما العملية العسكرية الإسرائيلية، فتبدو طويلة، لا ضفاف لها لتجعلها مرئية، حتى وإن صرّح نتنياهو بأن نهايتها مرتبطةٌ بإطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين المحتجزين لدى حركة حماس، لكننا نجد، في المقابل، رهاناً مضادّاً تشتغل عليه الحركة، وغيرها من تنظيمات دخلت عملية طوفان الأقصى من بابه الواسع مثل سرايا القدس، الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، إذ بدا محمد الهندي نائب أمينها العام في تصريح له متأكداً من حتمية رضوخ إسرائيل لعملية تبادلٍ للأسرى، وربما يشفع لمثل هذا التفاؤل ما أصاب الاجتياح البريّ الإسرائيلي غزّة من ارتباك وتوعّك جاءاها من حرب الأنفاق والشوارع واللذيْن تورّط بهما جيش الاحتلال، عدا عن خسائره غير المتوقّعة جرّاء استخدام المقاومة الفلسطينيّة هناك مضادّات الدروع في مواجهاتها البريّة مع “الميركافا”.
ثم إن إسرائيل لا تستسيغ مرارة المشهد الذي يعاندها في غزّة، مذاقه يُشعرها بمزيدٍ من العار أمام المجتمع الإسرائيلي بصورةٍ خاصة، وهي، وإن تذوقت ذلك، فهذا يجعلها حريصةً على عدم الانخراط بحرب أوسع مع النفوذ الإيراني في الجنوب اللبناني، والجنوب السوري، تريد تلك الحرب بإصرار، لكنها تؤجل خوضها إلى حين، أقلّه أنْ تطمئن على حسم معركتها في غزة، وهذا الذي يطول أكثر مما ينبغي، ويتخطّى حساباتها كلّ يوم.
أما في جبهة الجنوب السوري، فلا يتلكّأ الوجود الإيراني هناك في فرض سطوته على الجميع، سواء في ريف درعا الغربي، أم في القنيطرة المتعبة من إقامته فيها، وكأنها أرضُه الموعودة، والتي باتت إيران تحتلّها بالكامل، حيث تزرع داخلها تحصينات جديدة كل يوم، وتنتظرها لتنبت، ولأجل ذلك اخترعت ما يسمّى الحرس الثوري السوري، على غرار ما يسمّى الحرس الثوري الإيراني، وجعلته مرتبطاً تنظيمياً به.
يريد حزب الله اللبناني، مُقنّعاً بالنفوذ الإيراني الجَلِفْ، أن يجعل القنيطرة السورية قاعدةً عسكرية كبيرة يراوغ من خلالها، ويدير منها معاركه المحتملة، وأيضاً ليبتزَّ سياسياً إسرائيل، نظراً إلى أنها محافظة سورية حدوديّة مع دولة الكيان. وأخيرا، نظّمت المليشيات الإيرانية التي تحتلّ القنيطرة السورية حملة اعتقالات واسعة، شملت أكثر من 30 ضابطاً في أجهزة الأمن السورية، من بينهم رئيس فرع سعسع، لأنهم من المرتبطين بعلاقات وثيقة مع الجانب الروسي. تريد إيران القنيطرةَ بمن فيها خالصي الولاء لها، وكأنها تتحدث عن أرضٍ إيرانية، لا عن أرضٍ سوريّة تحتلها.
وتدير إيران المُتحذلقة باحتلالها الساذج للقنيطرة السورية ظهرها إلى الاحتضان الاجتماعي لها في الجنوب السوري، وكأنه أمرٌ لا يعنيها إلى هذا الحدّ، فتبدو عاريةً من مكانها ذاك، عاريةً أكثر ممّا ينبغي، وكلّما ابتعدنا شرقاً باتجاه درعا، والسويداء ازدادت النقمة والعداء الاجتماعي على الاحتلال الإيراني، ليصل أشدّه في السويداء، التي رفعت انتفاضتُها القائمةُ حتى الآن الكثيرَ من الشعارات المعادية لوجود المليشيات الإيرانية على الأراضي السورية، وبهذا لن تزيح معركة إسرائيل المقبلة مع الوجود الإيراني في الجنوب السوري عن محافظة القنيطرة، وقد تمتد بأحسن الأحوال إلى أجزاء من الريف الغربي لمحافظة درعا، ولن تجد المليشيات الإيرانية، ومن يدعمها من مليشيات سوريّة مأجورة أيّ عمقٍ استراتيجيّ قد تلجأ إليه في الجنوب السوري إن قرّرت طهران فتح جبهة حربٍ مع إسرائيل من هناك، بل سيكون ريف دمشق وجهتهم الوحيدة والمتاحة حالما يضطرّون إلى إجراء انسحابات تكتيكيّة، أو إجبارية، لا يهم.
أخيرا، قصفت إسرائيل موقعين للرادار السوري في السويداء، أحدهما في تلّ قليب، والآخر في تلّ المسيح، وهذه ليست المرّة الأولى التي تقصف إسرائيل هذين الموقعين بالتحديد، وهما وإن كانا نظرياً يتبعان لجيش النظام السوري، لكنهما وعملياً يقعان تحت الإشراف الإيراني المباشر، أي تحت سلطةِ وصايته، بالرغم من أن إيران لا تمتلك وجوداً عسكرياً ملحوظاً ومرئيّاً داخل السويداء، أو حتى داخل ريفها، لكن هذا لا يمنع من أن يكون بعضُه موجوداً ومدسوساً، ولو بصورةٍ غير فصيحةٍ أو باديةٍ للعيان.
ولأن النظام السوري برأسه الأحمق وأطرافه المشلولة قد تنازلوا مراراً عن ثروات البلاد وسيادتها لإيران وروسيا، نجد كيف أن بشّار الأسد ونظامه لا ينطقون إن قصفت إسرائيل غزّة، أو السويداء، إذ الأمر سيان، فالعقود الإيرانية والروسية لاستثمار السيادة السورية لا تقلّ مدّتها عن 50 عاماً، وخلال كلّ تلك السنوات المقبلة سيكون بمقدور بشّار الأسد أن يناورَ النومَ بالنوم مثل بِطْريقٍ لا يتناسل، أو أن يظلّ فاقداً لحواسّه وسيادتها كأيّ أبلهٍ مطرودٍ من مواخير مدينةٍ تنبذه، يكمل سيرة اختفائه المتعجرفة كأنه سمسار عقارات مفلس ومريض، فيما يقتسم الغرباءُ البلادَ، ويعيشون فيها حروبهم الصغيرة والكبيرة، أو يوشكون، من دون أن يأبه أحدٌ منهم بذاكرة من بقوا من قاطنيها متفرّجاً، مثلما لا يأبه أحدٌ الآن بذاكرة الفلسطينيين الناجين من المقبرة، حين قرّرت غزّة أن تعيش كل صنوف حربها الكبرى، والتي لن تتكرّر إطلاقاً.
المصدر: العربي الجديد