لميس أندوني
يهدف الضغط الأميركي على الدول العربية لمناقشة خطّة “ما بعد الحرب” على قطاع غزّة إلى القفز عن المجازر، وضمان موافقة أو مشاركة عربية في تحويل القطاع المنكوب إلى ثكنة عسكرية إسرائيلية، في ما يبدو مرحلة انتقالية لإدارة عربية – إسرائيلية للقطاع. ولكن واشنطن لم تستطع التوافق مع تل أبيب على مخطّط مستقبلي، لأن هناك تباينا من حيث الأهداف، فبينما يتفق الطرفان على أن غزّة مصدر خطر وعبء يجب التخلص منه، يختلفان على تفاصيل مهمة في”تحييد” القطاع، وإحكام السيطرة بعد تهجير جزء من أهل غزّة أو بأكملهم إلى سيناء. وهذه أيضا نقطة خلاف؛ فإسرائيل لا تريد أن يبقى ما يمكن أن يكوّن نواة مجتمع صغير، فيما واشنطن تريد الإبقاء على وجود فلسطيني “غير كثيف”، لا يسمح بظهور قيادات حركة مقاومة أو أن يكون امتدادا للشعب الفلسطيني. وهناك تصوّر، بل خطة أميركية معلنة لإبعادهم إلى مصر، وتضغط واشنطن علنا على القاهرة لقبولها، وهي تنوي وضعهم في معسكرات في سيناء، وهو الاحتمال المرجّح، أو محاولة تذويب هذه الكتلة البشرية نهائيا في الكثافة الديمغرافية المصرية، ولا يبقى شبح الهوية الفلسطينية ووجود جزء مهم من الفلسطينيين يراود الإسرائيليين على مقربة من جنوب فلسطين.
إسرائيلياً، لا تريد الحكومة اليمينية الحالية هيئةً أو كياناً، حتى مثل السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، فوجود السلطة لم يمنع من استمرار هبّات شعبية ومجموعات مقاومة. لا تريد أن ترى هيئة في غزة، مهما كانت ضعيفة، لها علاقات خارجية وحضور، أي أنها تريد تدمير الهوية الفلسطينية لمن تسمح له البقاء في غزّة.
وفيما تسعى واشنطن إلى إيجاد إدارة، قد تكون فلسطينية، تحت إشراف وضمانات عربية، وهو ما لا تستطيع قبوله الدول العربية، وبخاصة الأردن ومصر، لما يرتّبه ذلك من تداعيات داخلية في البلدين، خصوصا أن ذلك مرتهنٌ بقبول مصر تحويل جزءٍ من سيناء إلى مخيّم، يكون معسكر اعتقال كبير للفلسطينيين المهجّرين قسراً من القطاع. وإجبار مصر على قبول التهجير القسري للفلسطينيين يعني أن الخطوة المقبلة ستكون الضغط على الأردن لقبول تهجير قسري لفلسطينيي الضفة الغربية، وهي خطّة قيد التنفيذ، فليست عمليات القتل والتنظيف في الضفة أحداثا متفرّقة، فعصابات الحكومة اليمينية تعلن ذلك جهارا، وتهدّد قولا وعملا وتوزّع مؤشرات على أبواب منازل الفلسطينيين تعدهم بـ”نكبة جديدة”.
وهذا السيناريو وكل السيناريوات المشابهة، أو القريبة منها في الطرح، مرفوضة تاريخيا في الأردن؛ فهو أردنيا يشكّل تهديدا حقيقيا للأمن القومي الأردني، ويتّفق الجميع في الأردن على أنه تصفية للقضية على حساب الشعبين، الأردني والفلسطيني. وكان آخر الطروحات المتعلقة بهذا السيناريو ما سميت “صفقة القرن” التي رفضها الأردن والسلطة الفلسطينية بشدّة، رغم جميع الضغوط التي مورست عليهما من إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب.
الوضع مختلف في غزّة، فإسرائيل مستمرة بالتدمير بالقذائف والصواريخ، عملية إبادة معلنة، تدمير معلن، تهجير جماعي داخلي معلن، فلا مستوطنين يمكن أن تقع عليهم قذيفة ولا أماكن مقدّسة مهمة لـ”أسطرة حق اليهود”. وبالتالي، من منظورها في كل فلسطين، تستغل مساعيها لـ”شيطنة” حركة حماس، وواشنطن معها، لسلب الفلسطينيين من إنسانيّتهم وحقهم في العيش. أما البديل الآخر المطروح أميركيا، وهو أن تتسلّم السلطة الفلسطينية الأمور، فهو لا يقترب من المنطق أو الواقع الموجود عمليا على الساحة الفلسطينية، أكان في الضفة الغربية المحتلة أو في غزّة، فعدا عن أنه غير مقبول إسرائيليا، وعلى رغم تصريحات الرئيس محمود عبّاس، عقب لقائه وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، برغبة السلطة بإدارة غزّة وفق تسوية سياسية، وكذلك تصريح أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية حسين الشيخ بأن السلطة جاهزة لإدارة القطاع بعد مرحلة حماس، إلا أن السلطة، على ضعفها، لن تستطيع الدخول إلى غزّة بهذه الطريقة، فحتى قواعد السلطة وكوادر حركة فتح لن يقبلوا هذا، وستواجه السلطة غضبا يفجر تمرّدا وانتفاضة ضدها، وسترفضها غزة بشدّة.
المثير للاستهجان أن أميركا وإسرائيل والشركاء الغربيين وبعض العرب يتباحثون في ما سيفعلونه اليوم التالي. وكأن إقصاء “حماس” والفصائل المتحالفة معها والقضاء عليهم أمر محسوم ومفروغ منه، وكأن المقاومة في غزّة لا حاضنة شعبية ولا تأييد لها فلسطينيا ولا عربيا! مع أن الظاهر أن آلة التدمير الصهيو- أميركية لم تنجز على الأرض سوى حرق الأرض وإبادة آلاف المدنيين، ولم نسمع عن أسر مقاتل واحد من “حماس”.
والأدهى أن أميركا، التي تدّعي أنها هي، والغرب الأوروبي في ركابها، “حامية الديمقراطية والحرّيات وحقوق الإنسان” في العالم، تتحدّث عن مصير قطاع غزّة غير ملتفتة إلى حقّ أهل غزّة في تقرير المصير، ومن دون أن يكون لهم الحقّ في التعبير عن رأيهم في من يدير شؤونهم. فلا حديث عن انتخابات ولا خيار ديمقراطياً، وإنما فرض الأمر الواقع على أكثر من مليوني إنسان بإرادة خارجية، حتى إن هيئة الأمم المتحدة غير موجودة ولا كينونة لها في هذه القضية التي يتفق الجميع على أنها أساس الصراعات في الإقليم وسببها. وزيف ادّعاء أميركا بالالتزام بالديمقراطية ليس جديدا، ولا يشكّل مفاجأة؛ رأينا ذلك في الانقلابات التي دبّرتها في دول أميركا اللاتينية وفي إيران منذ خمسينيات القرن الماضي، وما فعلته ضد أفغانستان والعراق، لكنها هنا بلغت درجة جديدة من الوقاحة.
وعلى الرغم من أن تيارات عريضة في الشارع العربي لا تعوّل على النظام الرسمي العربي، إلا أنه ليس صحيحا أن الدول العربية لا تستطيع فعل شيء، فكما تحتاج بعض الأنظمة الولايات المتحدة، فإن الأخيرة أيضا تحتاج هذه الأنظمة، فوزير الخارجية أنطوني بلينكن لم يقاطع الملك عبد الله الثاني حين ألغى (الملك) لقاء عمّان الرباعي ولم يجتمع مع الرئيس الأميركي جو بايدن، ولم يقاطع أي حكومة عربية، رغم رفضها إدانة حركة حماس والاتفاق على مستقبل غزّة، منتظرة من الجميع السكوت عن جريمة أميركا وإسرائيل. ولكن عدم القبول بما تريده أميركا ليس له معنى عملياً، ما دامت مصالح إسرائيل الاقتصادية مُصانة، والاتفاقيات التطبيعية باقية، لأن الأقوال يجب أن ترافقها أفعال، في مقدمتها قطع العلاقات مع الدولة المجرمة، ووقف التطبيع معها بمختلف أشكاله.. وإلا فستبقى أي بيانات رسمية وما يتلوها أقوالا في الهواء.
المصدر: العربي الجديد