عمار ديوب
أهدر الاستبداد قيمة فلسطين لدى السوريين؛ لقد جعل منها أداة أيديولوجية بامتياز (كذب)، وقبل ذاك، سحق المجتمع سياسياً، ونهبه اقتصادياً، وأفقر أكثريّته، وبدا للمجتمع أن كلّ مشكلاته السابقة بسبب القضية المركزية، أي فلسطين، وعدا فلسطين، فالقومية والاشتراكية كذب بكذب.
يقود هذا المنطق إلى القول: فلتظل دولة الاحتلال إذاً، ولتُعط للفلسطينيين دولة إلى جانبها؛ الوعي العام، المُبتلى بالديكتاتورية، لا يتابع التسلسل الواقعي أو المنطقي للأحداث، وحساسيته النقدية ضعيفة للغاية؛ تعنيه قضاياه الخاصة فقط. وبالتالي، يُحمِّلُ أصحاب الحقّ مسؤولية الكارثة التي هم فيها. وهنا لا بد أن نتذكّر المقولة التي كان يعمّمها النظام عبر خطابه غير العلني: لقد باعوا أرضهم، وأتوا لمنافسة السوريين على مواردهم! نتيجة ذلك كله، ورغم كارثيّة العدوان على غزّة لم يتحرّك السوريون ضدّه، واقتصر الأمر على بعض المظاهرات في المناطق الخارجة عن سلطة النظام، ولافتات في السويداء. وأمّا مناطق النظام، فقد صمتت كما النظام عمّا يحدُث في غزّة، واعتقل بعض الذين حاولوا التظاهر من الفلسطينيين السوريين، وهو ما يسمح بالقول إن ادّعاءات النظام، دفاعاً عن القضية المركزية، كانت وما زالت أداةً لتأبيد السلطة والنهب، وورقة سياسية للتفاوض مع أميركا وإسرائيل، وللسماح له بالاستمرارية بالحكم.
تعقّدت أحوال السوريين بعد 2011، والآن. هم، مقسّمون في أربع سوريات، النظام، و”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، وهيئة تحرير الشام، والفصائل، عدا عن المنافي، وأُغرِقُوا في القضايا المحلية، وقبل ذلك، عانوا الأمرّيْن، بالعقد الأخير: اعتقالات وقتل وتهجير وحصار وتجويع وتدمير لمنازلهم وغيره كثير، كما يحدُث في غزّة تماماً، وبالتالي، ولأنّهم ضحايا، يخشون أيّ تضحية جديدة، وإن عبر تظاهرة، وأوضاعهم في غاية السوء، اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً. وبالطبع، ثقافة وتعليماً. وهنا، نتساءل: هل أبقى الاستبداد شيئاً من دمشق كقلبٍ للعروبة، وهل تعامل بالفعل مع دمشق كذلك، منذ الحركة التصحيحية؟
أهدر الاستبداد كل القيم الأخلاقية والسياسية والوطنية والقومية، فبدا السوريون غير قادرين على تشكيل مرجعياتٍ لهم في هذه القضايا. ولهذا تعالى التشكيك المعرفي والسياسي بوجود هوية واحدة، ولا سيما العربيّة واستُبدِلت بالسورية أو الإسلامية أو بالمواطنة، وهناك الهويات ما قبل الوطنية. وبغضّ النظر عن مبالغات المتشائمين، تراجعت المشتركات بين السوريين بشكلٍ حادّ. وبالتالي، من الطبيعي أن تتراجع مكانة فلسطين وحقّ أهل غزّة بالمقاومة في تصوّراتهم، رغم عدالة القضية لكل من يمتلك عقلاً أو عينين أو قلباً. لم يحرّك الرفض العالمي للعدوان على غزّة السوريين، واكتفوا بالمراقبة الضعيفة لكل ما يحدُث، ولم يدفعهم الألم على أهوال غزّة إلى إبداء الاحتجاجات القوية.
استعادة السوريين دورهم الوطني أو القومي لم يعد ممكناً قبل استعادة المشاريع الوطنية والقومية، وعلى أسسٍ تَحترم شعور الأفراد بحقوقهم الخاصّة والعامة. تجاربهم سلبية للغاية مع الاستبداد الذي استَغلّ قضية فلسطين، ولن يندفعوا نحو تأييد القضايا العادلة أو قيم التحرّر من دون أن تتحقق قيم الحرية والكرامة في بلادهم، والانتقال إلى الدولة المنصفة، والعادلة، كدولة ديمقراطية.
انقسم العرب في العقود الأخيرة إلى محورين؛ المقاومة والاعتدال. وابتعدت بعض الدول عن ذلك التصنيف، ولكن المحورين لم يتقبلا ذلك، وهذا ما عزّز الانقسام العربي! لقد شكّل تصدّر محور المقاومة للقضية الفلسطينية، مثالاً سلبياً للغاية، سيما بعد اصطفاف حزب الله بالتحديد إلى جانب النظام السوري، ووقوف بعض القوى الفلسطينية معه، وبالشراكة مع إيران، فبدا للسوريين أن كل الفلسطينيين مع النظام، ومحور المقاومة ضدّهم. وبالتالي، لماذا ينصرون فلسطين؟
من مشكلات السوريين، أنهم لم يتكاشفوا، ولم يعبّروا عمّا حدث، منذ عقودٍ، ولا في العقد الأخير ونيّف. هم لم يمتلكوا معرفة موضوعية بواقعهم، ولا بما جرى بدقة في تلك العقود سيما بعد الثورة؛ فمثلاً لم تقف حركة حماس مع النظام السوري منذ 2011 وهو لم يغفر لها ذلك، وما زال على موقفه رغم المصالحة معه! بينما سلطة رام الله هي من وقفت معه، وكذلك، وقفت معه فصائل مرفوضة من الأغلبية الفلسطينية في سورية وقبل الثورة. وأيضاً، احتمى ثوار سوريون كثيرون في المخيّمات الفلسطينية في دمشق ودرعا وسواهما. ولم يغفر النظام بدوره للمخيّمات تأييدها الثورة، فدمّرها وهجّر أهلها، كما فعل مع بقية المدن السورية الثائرة.
أوهام بعض السوريين إن علينا الاكتفاء بالوضع السوري، وهو في غاية البؤس، ونُسقط من تحليلنا من اصطفّ مع دولة الاحتلال أو تبنّى خطابها؛ إن لسورية أرضاً محتلّة وهي الجولان، ودولة الاحتلال لا ترى فلسطين (وبالطبع الجولان) إلّا أرضاً عربية، وهي محقّة بذلك، ولهذا عملت، وبكل السبل، على فصل الأنظمة العربية عن القضية الفلسطينية، وتهميش حقوق الفلسطينيين، التاريخية وما بعد “أوسلو”، وهذا هو بالتحديد ما كان سبباً لكل أشكال المقاومة الفلسطينية، ومنها عملية طوفان الأقصى، فهل كانت فلسطين سبباً لمأساة السوريين؟
انقسمت الفئات المثقّفة السورية بين عينة صغيرة تناصر فلسطين وغزّة، وهي بدورها منقسمة بين فئةٍ صمتت إزاء النظام، عقودا، وصرخت بأعلى الصوت واغزّاه، وبين فئة، رفضت الاستبداد والاحتلال معاً وعانت الأمرّين؛ وهناك فئة انساقت وراء موقفٍ رثٍ للغاية، يرى المشكلة في حركة حماس وعلاقتها بإيران، ولا يرى الاحتلال والحصار ونظام الأبارتهايد، ولا يرى الاصطفاف الأميركي الأوروبي دعماً لدولة الاحتلال، ولا يشغل باله كيفية مواجهة العدوان وكل الإجرام الذي يفعله بغزّة أو بالضفّة الغربية أو بالقدس؛ كل تفكيره ضد “حماس” (الإسلاموفوبيا)، وهو يتلاقى مع رؤية بعض الدول العربية التي لم تُوقف اتفاقيات التطبيع مع دولة الكيان، وعرقلت أيّة مواقف جادّة لإيقاف العدوان. وهناك من السوريين من صَمَت عمّا يحدث، وصمت آخرون طوال السنوات السابقة إزاء استبداد النظام. وبالتأكيد، ليس الصمت موقفا حياديّا، بل هو، وبعد كل الدمار والتهجير والقتل، انحيازٌ للقتلة، وصاحبه بذلك قليل الأخلاق والضمير. وهذا بخلاف الناس العاديين، فهؤلاء لديهم أسر وتفكير بسيط والخوف والرعب من الاستبداد، وهذا قد يفسّر لنا صمتهم ويعذُرهم، وبالتأكيد من العقلانية بمكان رفض فكرة أنّهم عبيد؛ إن أفعال البشر، ومواقفهم، أعقد من أن تصنَف وتنمذج لسببٍ واحد فقط.
تغيير الوعي السائد، والتخلّص من اعتبار فلسطين وغزّة هي سبب مشكلات السوريين، نحو وعي قومي وإنساني بعدالتها، كما تفعل كل شعوب العالم وبعض الشعوب العربية، يتطلب، من دون شك، انتقال سورية إلى نظامٍ ديمقراطي، وبحث الموقف من دولة الاحتلال، والعودة إلى نقاش قضية استعادة الجولان، وحينها ستتشكّل المرجعيات القومية والوطنية والأخلاقية من جديد، وبالتأكيد ستسقط الكثير من الأفكار الانعزالية الخاصة بالهوية.
نعم، لقد دمّر الاستبداد كل المشتركات بين السوريين وبينهم ومع العرب، ومنها الموقف القومي تجاه فلسطين وغزّة بالطبع، ولم تستطع المعارضة استبدالها بمشتركاتٍ جديدة، وهذا حديثٌ آخر.
المصدر: العربي الجديد