جمال الشوفي
مئة يوم مرت، ومسيرة السويداء في موجتها الثورية الثانية من الثورة السورية، تزداد إصرارا على تحقيق أهدافها رغم ما تخللها من مراهنات لسلطة نظام القمع والقهر والعسكر على ملل ناسها وتراجعها وخبوها. فهدف السويداء الواضح والمعلن لا لبس فيه وهو تحقيق التغيير السياسي الوطني على المستوى السوري. التغيير السياسي الذي يحقق العدالة والكرامة والحرية لكل السوريين، وينصف القلوب السورية المتعبة والمرهقة من شدة هول الكوارث التي لحقت بنا الأعوام السابقة من اعتقال وقتل وتهجير ودمار.
مئة يوم مرت تخللتها الحوارات والجدالات المتعددة، سواء حول إمكانية استمرار السويداء بالتظاهر أو انكفائها، إصرارها على مطالب التغيير السياسي المعنون بالقرار 2254 أو تراجعها لمطالب معاشية حياتية على قدر يوم وحسب؛ وفرضيات متعددة تتخللها أهمها الإدارة الذاتية والحل السوري العام وما بينها من مسافات!
في هذا السياق، وبغية تثبيت معطيات وإمكانيات السويداء الوطنية العامة في محتواها الوطني السوري، لا بد من وضع القليل من الأرقام ذات الدلالة المهمة على تبديد أوهام الإدارة الذاتية التي يتم الترويج لها دون دراسة أو تدقيق. فرغم أن القاعدة الشعبية العريضة لأبناء السويداء تصر بشكل واضح على سوريتها والحل السوري العام، لكن ثمة من يحاول تثبيط همة ناسها بالتساؤل المخاتل: ماذا حققتم؟ وما دام النظام والمعادلات الدولية لا تستجيب مع تفعيل الحل السوري لليوم، فَلِمَ لا لنذهب لفرض إدارة ذاتية بالسويداء؟
بعيدًا عن الإجابات التي طالما كُررت في مقالات ومواقع سابقة والمؤكدة على أهمية وضرورة التظاهر السلمي الذي يعيد طرح المسألة السورية وإحياءها من جديد، وبعيدًا عن المعادلات الإقليمية المتحركة منذ بدء عملية طوفان الأقصى وحرب غزة، والتي تنذر بانعكاسات سلبية على سوريا وملفها السياسي؛ من الضرورة بآن الخوض في حيز من الأرقام والمعطيات الكمية المتعلقة بمحافظة السويداء، علها تساعد على امتلاك وعي بضرورة الاستمرار بالتظاهر السلمي والتمسك بالحل الوطني والذي سينعكس على كل السوريين بالسلام والاستقرار والأمان. في حين ستكتفي هذه السطور برصد بعض من الأرقام المادية التي تمتلكها السويداء لتبديد وهم الإدارة الذاتية حين تكون بلا مقومات مادية، رغم أنها حتى وإن وجدت ستبقى مرفوضة شعبيًا، هذا مع اليقين العام من ضرورة فردها في دراسات تخصصية لا تتسع لها مقالة رأي، والتي يمكن رصدها تباعًا:
- تحتاج محافظة السويداء يوميًا لما يقارب لـ 60 طنا من الطحين لتغطية الاحتياج اليومي من الخبز، ما يقدر بـ 22 ألف طن سنوي لا تغطي عشرها السوق المحلية. وزراعة القمح فيها تعتمد على الزراعة البعلية التي تراجعت بالسنوات الأخيرة لأسباب متعددة، لم يكن انحباس المطر سببها الوحيد، بل عجز الفلاح عن خدمة أرضه من ناحية الكلف المرتفعة للفلاحة المتعلقة بالمحروقات وتحكم السلطة بأسعار منتج القمح.
- لا تمتلك السويداء أي مقومات مادية للبترول ومشتقاته، وهي تخضع لسياسة السلطة العامة فيها كما في كل سوريا.
- تحتاج السويداء يوميًا لما يعادل 160 ميغاواط من الكهرباء، لا يتأمن منهم بشكل دوري ومنذ سنوات أكثر من 60 ميغاواط في أحسن حالاتها، ولا تنتج منها السويداء شيئًا.
- تعاني السويداء من العطش النسبي رغم أنها تعوم فوق بحر من المياه الجوفية، فالآبار الـ 92 المحفورة لتغطية مياه الشرب في السويداء لا يعمل منها أكثر من 25 بئرًا. فالأعطال المتكررة وانقطاع الكهرباء والفساد العام الذي يغطي عقود الصيانة والتلاعب بالمحروقات المخصصة لتشغيل المولدات، تجعل السويداء في حاجة مستمرة لمياه الشرب فكيف للري والزراعة.
- رغم وجود 3 معامل في السويداء والقليل من المشاريع الخاصة، لكن جميعها مجتمعة لا تغطي أكثر من بضع مئات من الطاقة العمالية، في حين أن غالبية أبناء المنطقة موزعون بين موظف مدني وعسكري يتقاضون الراتب الحكومي، وهذا لا يتجاوز الـ 20 دولار شهريًا رغم الزيادات المتتالية عليه، في حين سعر الليرة بانهيار متتالٍ وصل لـ 14000 ليرة مقابل الدولار.
يمكن لأي دراسة منهجية أن تفرد بشكل واسع هذه الأرقام والمعطيات وتحدد بناءً عليها حاجات السويداء وأمنها الغذائي العام، هذا إذا ما كانت السلطة القائمة سلطة مهتمة بالمواطن وكرامته. وتبدو هذه النقطة هي مثار الجدل حول الإدارة الذاتية، إذ يتردد التساؤل المحق: ما دامت سلطة النظام لا تستجيب لطلبات التغيير السياسي، وينخرها الفساد من كل جنباتها، فلما لا نقيم بإدارة ذاتية فيها؟! وحين تتساءل عن كيفية تأمين الإمكانيات المادية المذكورة أعلاه، تبدأ الفرضيات المتتالية. فالبعض يقول نستجر البترول من مناطق شرقي الفرات، ونبيع التفاح والعنب المشهورة به السويداء ونجلب بدلًا عنه القمح، ونستجلب الكهرباء بالطاقة الشمسية، وأيضًا سيقوم مغتربي السويداء ببناء المشاريع التنموية فيها..
يبدو هذا السيناريو وردياً بالمبدأ ويداعب الأحلام، ولكن كيف يمكن استجرار المشتقات البترولية من شرقي الفرات؟ ومن سيقطع تلك المسافات من البادية؟ ومن سيحميها؟ لا إجابة….
ما هي كلفة الطاقة الشمسية البديلة المنزلية؟ ماذا عن الصناعية؟ وما هي القيمة الرقمية المحسوبة لحجم رواتب المعلمين والوظائف الحكومية؟ وما هي القيمة الرقمية لثمن القمح مقابل التفاح؟ ومن ليس لديه بستان من التفاح كيف سيؤمن له القمح؟
أسئلة عديدة تبدأ ولا تنتهي، والأهم تدخل في مستويات الفرضيات غير المدققة، بل سياسات الوهم وتسويقه، والتي تفيد بعضها بوجود آبار البترول في محافظة السويداء، والسليكون النقي في باديتها! والإجابة البسيطة: أين هي الدراسات التي تفيد هذه الفرضية؟ خاصة وأن سوريا بكاملها تقع تحت منظار الدول ودراساتها لكل شبر منها، فلو كانت موجودة لماذا لم يأتوا للبحث عنها والمنطقة مفتوحة أمامهم على وسعها؟ أم يمكن حل الموضوع بمنشور على الفيس!
تمتلك السويداء مقومات لا يريد أن يراها أصحاب الفرضيات تلك. السويداء تمتلك رصيدًا واسعًا من المدنية والعلمانية، ومساحة واسعة من التاريخ والحاضر القائم من قيمة حرمة الدم السوري ومن الخوض في مقتلتها السلطوية والطائفية. وتمتلك حالة دينية غير تبشيرية ولا تكفيرية قابلة لتحقيق التسامح الديني وحرية الإيمان والمعتقد. وتملك فوق هذا اليوم مئة يوم من التظاهر المدني السلمي، لم تشهد ساحاتها خلالها حالة نشاز ما. والأهم أنها تعلن بوضوح وثبات عن هدفها العام بتغيير السلطة القائمة، مدركة بقرارة وعيها الجمعي ضرورة تماسكها واستمرارها، وأن تراجعها أو انكفائها مقتلة كبرى، سواء بعودة النظام للتغول فيها، أو الارتهان لمشروع إدارة ذاتية تولد ميتة. فإن كانت النقطة الأولى قد قطعت السويداء فيها الخيط مع السلطة، فإنها في الثانية وبوعي شعبي ونخبوي بآن تردد: الإدارة الذاتية ليست مجموعة من المشاريع لصالح جهة مدنية أو سياسية لصالح مجموعة من المستفيدين منها ومن بحكمهم، مئة أو ألف وألفين، وليست فقط إدارة على مستوى القوى البشرية التي يجب أن تكون نزيهة وذات مصداقية، وهذا أمر ضروري بكل حال، بل هو إدارة الموارد المادية دون أن تخضع لابتزازات ومساومات سياسية. فماذا ستدفع مقابل القمح؟ وماذا ستقدم مقابل المحروقات والكهرباء؟ هذا مع التأكيد على أن وجود مشاريع تنموية مهم وحيوي لا يعطل الحل السوري ولا يجب أن يكون أكبر من حجمه على مستوى إدارة ذاتية!
السويداء اليوم بوصلة سورية عامة، وتدفع السوريين لضرورة الاستحقاق الوطني متجاوزة ضيق الأفق ووهم المشاريع الضيقة، وهو رصيدها الكبير الذي لا ينضب، حتى وإن ساقتها مجريات أحداثها لما ترفضه ولا تقبل به أو قد يفرض عليها..
المصدر: موقع تلفزيون سوريا