د- عبدالله تركماني
مرّت الذكرى الخامسة والسبعين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان من دون اهتمام كبير من الرأي العام العالمي، خاصة تزامن الذكرى مع ” محرقة غزة ” التي تحدثها قوات الجيش الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني، إضافة إلى ما يشهده العالم من مشكلات وتحديات، وما عرفه المجتمع الدولي من تحوّلات، خاصة صعود التيارات اليمينية بتوجهاتها العنصرية، مروراً بتنامي ظاهرة القادة الشعبويين وسياساتهم القومية الضيقة، إلى الإحباط الشديد الذي عمّ شعوب الدول الواقعة تحت حكم أنظمة تسلطية وفاسدة، بسبب تعرّضها للانتهاكات وغياب حماية حقيقية لحقوقها. وفي هذا السياق، تبدو مخاطر إكساب الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي طبعاً دينياً إسلامياً – يهودياً.
وفي هذه الذكرى نعيش الجيل الثالث من هذه الحقوق: الأول بدأ مع الإعلان في 10 ديسمبر/كانون الأول 1948، والثاني في الستينيات من القرن الماضي بالتركيز على العهدين الدوليين بخصوص الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، أما الثالث فهو ينادي بالحقوق الجماعية لكل الشعوب والأمم. ولكن يبدو واضحاً أنّ الطريق إلى تعزيز هذه الحقوق، في عالمنا المعاصر، مازال طويلاً وشاقاً وصعباً.
لقد كان الإعلان أول ميثاق دولي هام يجمع عليه العالم بعد الميثاق التأسيسي للأمم المتحدة، ومن يطّلع على هذا الإعلان يجد فيه الكثير من حقوق الإنسان الأساسية: الحق في الحياة، والأمن، والحرية، والصحة، والتعليم، والعمل، والكرامة الإنسانية. ويعتبر وثيقة تاريخية أعلنت حقوقاً غير قابلة للتصرف، يُفترض أن يتمتع الإنسان بها، بغض النظر عن العرق أو اللون أو الدين أو الجنس أو اللغة أو الرأي السياسي أو غيره، أو الأصل القومي أو الاجتماعي أو الثروة أو المولد أو أي وضع آخر.
وفي الذكرى الخامسة والسبعين لصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يجدر التأكيد على كونية وشمولية هذه الحقوق، فكونية حقوق الإنسان تعني أنّ تبلور هذه الحقوق أو تضمينها في الشرعة العالمية هو ثمرة لكفاح الإنسانية عبر التاريخ في مواجهة جميع أشكال الظلم، ونتاج لتلاقح وتفاعل الثقافات الكبرى عبر الزمان، بما في ذلك الحضارة العربية – الإسلامية، كما تعني أيضاً أنه لا يجوز استثناء أحد، في أية منطقة أو في أي نظام ثقافي، من التمتع بهذه الحقوق، فهي كونية لأنها ترتبط بمعنى الإنسان ذاته وبغض النظر عن أي اعتبار.
لقد مثّل صدوره (10 ديسمبر/كانون الأول 1948) لحظةً تاريخيةً وتأسيسيةً في تطور المنظومة الدولية لحقوق الإنسان، فقد كان بمثابة صحوة ضمير كونية، في ظل ما خلّفته الحربان العالميتان، الأولى والثانية، من مآسٍ وويلات، وفي الوقت نفسه، جسّد تطلع الإنسانية إلى أفقٍ جديدٍ، يُصان فيه السلم والأمن الدوليان، انسجاماً مع ميثاق الأمم المتحدة، حديث العهد آنذاك.
ولكن، في الوقت الذي تبلورت فيه منظومة حقوق الإنسان، فإنّ الواقع الملموس يكشف عن هوة واسعة بين هذا التبلور النظري، وبين الصعوبات والعراقيل المناهضة لهذه الحقوق. فقد كانت المجموعة الدولية شاهدة خلال السنوات الأخيرة على حقيقة أنّ حماية كرامة الإنسان وحرمته الجسدية والمعنوية مرتهنة إلى حد بعيد بأولويات السياسة الدولية. وفي هذا السياق، نتساءل كيف يمكن أن تتقبل الإنسانية الدعم الأميركي للعدوان الإسرائيلي المتواصل منذ 65 يوم؟
وفي الواقع، إنّ ما يحدث في غزة، هو صورة نموذجية للمجازر التي دأب المستعمرون على التفنن في ارتكابها، على امتداد التاريخ الاستعماري الرهيب. ومن المؤكد أن هذه المقارنة تشير إلى كل المآسي التي يعاينها العالم قاطبة في جحيم غزة، تضعنا بشكل مباشر في أحراش الطبيعة المتوحشة للاحتلال الإسرائيلي، التي لا تمنعها السمات الإنسانية والحضارية، المعبّر عنها بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
ولعلَّ الكارثة السورية التي لم يشهد العالم مثيلاً لها منذ الحرب العالمية الثانية، طبقاً لتوصيف هيئة الأمم المتحدة، أبرز دليل على حجم الانتهاكات، التي وصلت إلى مستوى انتهاكات ضد الإنسانية، بعد أن استخدم النظام السوري الكيماوي ضد شعبه، وكذلك البراميل المتفجرة التي كانت تُلقى بشكل عشوائي على المدنيين في الأسواق الشعبية والأحياء السكنية والمستشفيات والمدارس.