أيمن أبوهاشم
فيما كنت أتابع على قناة الجزيرة، أخبار العدوان الإسرائيلي على غزة، أظهرت لقطة سريعة حجم الدمار الهائل الذي أصاب الشارع الرئيسي بحي الشيخ رضوان، وتكسّر واجهة تلك البقالية الكائنة على زاوية الشارع، حيث كنت أشتري منها سجائري وبعض الحاجيات الأخرى، وأتبادل مع صاحبها أحاديث في شواغل وهموم تلك المرحلة، حينما رمتني وأسرتي أقدار النكبة السورية، لزيارة غزة عن طريق معبر رفح في أوكتوبر من عام 2012. وقتذاك سمح الرئيس المغدور (مرسي) دخول حملة الوثيقة الفلسطينية السورية إلى مصر، وإلى غزة لمن يرغب بذلك من خلال المعبر، أو عن طريق التهريب الميسور بالأنفاق لمن لا يريد انتظار الإجراءات البيروقراطية على الجانب المصري من الحدود. في سابقة غير معهودة منذ عقود سمحت حتى لسوريين متزوجين من فلسطينيات بدخول القطاع مع أولادهم، والإقامة فيه هرباً من الجحيم السوري. تداعت إلى مخيلتي تلك الأسئلة التي كان يمطرني بها صاحب البقالية حال ترددي عليه، والتي تدور عمّا جرى في سورية..؟ ومن المسؤول عن المآسي التي تحدث فيها..؟ ولماذا لا يتدخل العرب والمسلمون والمجتمع الدولي لوقفها..؟ نفس الأسئلة وأكثر استطراداً في تفاصيلها، كادت أن تكون محور الجلسات والنقاشات مع الأقارب والأصدقاء، الذين غمرونا خلال تلك الزيارة بحرارة وفادتهم وحسن كرمهم. في إجاباتي على ذاك النوع من أسئلة وشواغل تلك الفترة، التي أطلقها ربيع الثورات العربية، قبل أن يستحيل خريفاً للدم والموت والتهجير، كان يقيني بانتصار الثورة السورية وثورات الشعوب العربية بدلالة التجربة المصرية، مما لا يأخذ بحسباني حجم التحديات والصعوبات التي ستواجه مسارات الحرية والتغيير في واقعنا العربي، وقدر من الجهل بأدوار غير منظورة لأبالسة تشويه الثورات وحرفها عن أهدافها والتلاعب بها.
لا شيء يعزز من اليقين بتحقيق ما نرغب ونأمل به، كمعايشتنا لأحداث ومواقف بعينها تصب في طاحونة أحلامنا، فبعد شهرين ونيّف على إقامتنا في غزة، وبعد أن عزمنا على الاستقرار فيها بدلاً من القاهرة، وقمنا بتسجيل ولدينا في مدارس الأونروا المعروفة بتعليمها المتميّز، اندلعت بصورة مفاجئة الحرب على غزة في شهر كانون الأول/ديسمبر من عام 2012، وكنت حينها في القاهرة لتسليم بيتنا المستأجر لمالكه، وقضاء حوائج الانتقال النهائي، مما اضطرني لقطع زيارتي والعودة إلى غزة لأكون مع زوجتي وأولادي. وصلت إلى معبر رفح وأنا أسمع صوت انفجارات الصواريخ الإسرائيلية تنهال على غزة، وقد رأيت بأم العين استهداف بعضها لمنطقة لا تبعد عن المعبر أكثر من 300 متر. لكن الموقف الأبرز الذي ضخ في كياني جرعة كبيرة من الطمأنينة والأمل، تبدّى في مشاهدتي آلاف المصريين المجتمعين عند المعبر، من شباب وصبايا ثورة يناير المصرية، وهم يلبون نداء ومناشدة الغزيين لأشقاء العروبة والإسلام، ويقومون والغضب يعتلي قسمات وجوهم باقتحام الحدود، ومرافقة سيارات الإسعاف التي دخلت القطاع لجلب الجرحى إلى المشافي المصرية، بينما تتعالي هتافات حناجرهم نصرةً لفلسطين، وقد كادت أن تغطي على أصوات الانفجارات العنيفة.
كان هذا الموقف الشعبي المناصر لغزة في تلك الأيام، من جنس الموقف الرسمي للرئيس المنتخب بعد الثورة، والذي قام بإرسال وزير الصحة المصري إلى غزة في خضم الحرب المشتعلة فيها. وقتذاك ومع انشغالي بالخطر الذي داهم أسرتي، ونحن الذين هربنا من الحرب إلى الحرب، لاسيما بعد أن تعرض بيت صديقي وعديلي الذي كنّا بضيافته بالقرب من أبراج الكرامة، إلى أضرار كبيرة بسبب القصف الصهيوني على تلك المنطقة، مما جعله غير صالح للسكن. كنت أشعر رغم كل ذلك بغبطة كبيرة، فلم تعد غزة وحيدة، وهي تواجه همجية المحتل الذي لم يغب عن أرضها وسمائها وبحرها، بهمة مصر الطالعة للحرية قبل أن يعود الاستبداد ويخنق أنفاسها.
إحدى عشر عاماً على تلك الواقعة التي عايشناها عن كثب، جرت خلالها أنهار من دماء ودموع ضحايا البحث عن الحرية والخلاص، ومن ارتكاس وفشل لمشاريع الثورات العربية في موجتيها الأولى والثانية، وهي تسربل أرواحنا باليأس والانكسار؛ بعد أن استعادت الأنظمة العربية توافقها الوحيد، على تكبيل إرادة الشعوب وقتل روحها الحرة. من أقسى دروس غزة التي تقف اليوم وحيدةً في وجه البرابرة الجدد، بعد أن ذهبت أدراج الرياح نداءات وصرخات أطفالها ونسائها، ذلك الخذلان الطافح بالقهر والآسى، من أوهام التعويل على شعوب محكومة بأنظمة تدور في الفلك الأميركي والإسرائيلي، وتشارك بعجز بعضها وتواطؤ بعضها الآخر في تسهيل حرب الإبادة الجماعية على غزة. اليوم كلما سمعت امرأة غزيّة تصرخ من صميم قلبها المُدمّى” أين أنتم ياعرب، أين أنتم يا مسلمون ؟ ” أتذكر صرخات أمهات سورية الثكلى، وهنّ يصرخن دون مجيب على امتداد سنوات المقتلة السورية.
تشاء غزة أن لا تبقى أسيرة انتظار استجابة أو إشارة إنقاذ لن تأتي، وكأنها أدركت في لا شعورها الجمعي، إن سر قدرتها على الصمود والبقاء، وهي تواجه وحشاً مسلحًا بكل عالم القوة والمال والتضليل، يكمن فعليًا في التلاحم العضوي بين فكرة دفاعها المشروع عن وجودها، وقوتها الذاتية في التحكم بقرارها وسلاحها. يغدو السر في مقاومة غزة المحاصرة، لغزاً بشرياً عصياً على الانكشاف أمام أحدث تقنيات الرصد والتجسس والنفاد إلى أعماق الأرض. لهذا تُسطّر غزة صورة غير نمطية، لاتندرج في كلاسيكيات حرب العصابات التي شهدها تاريخ المعارك البشرية، وإنما تقدم تجربة فريدة في قدرة الفدائيين المحليين، على التحرك في منطقة محاصرة ومرصودة كلياً، وتمكّنهم من تحجيم مفاعيل القدرات الهائلة للعدو، وإرباكه في دوامة من شبكات الأنفاق المموهة، وخداعه بأساليب غير متوقعة، ومباغتته بأكثر الأماكن والجهات تحصيناً لقواته وتجمعاته، مما زاد من خسائره البشرية أكثر من تقديراته بأضعاف، وأوهن الروح المعنوية لجنوده وأصابها في مقتل.
رغم اللاتكافؤ واللاتناظر المخيفين في معادلات القوة العسكرية، بين المقاومة في غزة، مع قوة هائلة بحجم الجيش الإسرائيلي، فإن منهجية جز العشب التي اتبعها الاحتلال في تدمير غزة من شمالها إلى جنوبها، وما نجم عنها من مجازر ومآسي ومخاسر بشرية ومادية تفوق حدود الخيال، لم تحقق تلك المنهجية التدميرية الرهيبة، إنهاء المقاومة التي تواصل معركتها بلا هوادة، ولا استطاعت إحداث شرخ لتأليب المجتمع الغزاوي عليها. شهدنا طيلة يوميات حرب الإبادة على غزة، أصوات لصهاينة عرب وكرد راهنوا على استسلام غزة، ومن المخزي أن بعضها لم يكن يرى ضيراً أن تنتهي حماس ولو كان الثمن دفن غزة تحت الأنقاض، غير أن إجابات الواقع جاءت مخيبةً لآمالهم.
لا يعود ذلك فحسب إلى ردود المقاومة على جسارتها وقوة شكيمتها، وإنما إلى مجتمع اختبر سنوات الحصار الطويلة والحروب المتعاقبة، وهندس علاقته بالحياة في ظل ظروف استثنائية قاهرة، زاد من قسوتها محطات الانقسام الداخلي المرير، وخروجه إثر كل حرب ودمار ومأساة، أكثر تشبثاً بهويته الوطنية كآلية معنوية دفاعية، ومشروع خلاصي عابر للتناقضات الثانوية. لطالما حلم وصبر مجتمع غزة، كي يعيش حياة طبيعية كبقية البشر، غير أن مخططات كسره وقهره في سجن كبير، واستدارة العالم عن معاناة أجياله المزمنة، فرضت على أجياله الناشئة أن تكون شديدة المراس في دفاعها عن حق شعبها بالحياة والحرية، وجعلت من أطياف المجتمع حاضنة لمن لا يحيدون عن بوصلة الثورة، في مواجهة المسؤول الأول والأكبر عن مسلسل نكباتهم، منذ أن استحالت غزة في غالبيتها مجتمع لاجئين بعد هزيمة العرب في عام 1967.
من مفارقات الزمن العربي الضائع بين قمم وصفقات التطبيع، وساحات المتاجرة بفلسطين!! أن تكون غزة المحاصرة والمنكوبة والجريحة، وحدها درسنا الملحمي في الرهان على الذات الواعية والفاعلة والمقاومة، قبل أي رهان على توخي الخلاص من أنظمة عربية معادية للحرية والكرامة، وقوى دولية تحمي عروش المستبدين وجيوش المحتلين، لم يأتِ منها سوى إفساد أنبل الثورات والقضايا العادلة، وتشويه مضامينها التحررية.
في حين مازالت معركة الدفاع عن الوجود والبقاء في غزة، في أشرس أيامها الدموية والقاسية، مع دخولها الأسبوع الثاني بعد شهرين من المقتلة المستمرة، قد يقول أحد المشككين وما أكثرهم، وماذا لو حقق الاحتلال كل أهدافه من وراء هذه الحرب؟ فاستعاد أسراه وقضى على المقاومة؟ وقام بتهجير أهالي غزة؟ وأعاد احتلالها والتمركز في مناطقها ؟؟
لا أجوبة قاطعة يمكن أن تطفئ من لهيب تلك الأسئلة، ومن لظى مخاوفنا على مصير غزة، والذي بات مصيرنا الفلسطيني برمته متوقف على مقاومتها الأسطورية بحق، والتي أثبتت بأنها أمثولة كفاحية يصنعها بدمائهم الذكية مقاتلون شجعان من أجل الحرية، وتضامن شعبي عالمي في الدفاع عن رواية الحق الفلسطيني، وفضح أباطيل رواية المُعتدي الغاشم، وإسقاط الأقنعة عن حكومات الغرب وازدواجية معاييرها فيما يخص قضايانا العادلة.
من ارتدادات عملية طوفان الأقصى، وصمود أهل غزة فوق بيوتهم المدمرة، عودة فلسطين قضية مركزية في الوعي والوجدان الإنساني، تحتم على الكل الفلسطيني، تغييرات بنيوية في كيفية إعادة ترتيب الأولويات الوطنية، بما يستجيب لإدارة الصراع مع الاحتلال، ببرنامج كفاحي متكامل وضامن لحقوق الفلسطينيين كافة. من مقلبٍ آخر، تكشف تحولات الصراع الجارية في فلسطين، من حيث المضامين والقيم التحررية، إن الخطر الصهيوني يطال كل شعوب المنطقة، وإن مواجهة هذا الخطر الأشر، مصلحة وضرورة في آن لكل الأحرار، وطلاّب الخلاص من أنظمة الاستبداد والتدجين والاستتباع، لأن تلك الأنظمة هي الدرع الحامي لكيان الآبارتهايد كما كشفت عنه اليوم غزة حتى لأعمى البصيرة. بالمقابل فإن إضعاف وضرب مشروعه العدواني والعنصري والتفتيتي سواء بحق الفلسطينيين أو الشعوب العربية، هو في جوهره ضرب وتفكيك لبنية الاستبداد في بلادنا التي تتذوت من وجوده ورعايته لها.
ثمة الكثير من الحقائق التي توضحت جلياً، على واقع طوفان الدم والآلام والبطولة في غزة، وهي من يصفع المنطق المأفون لدعاة إدانة مقاومة غزة، وشيطنتها سياسياً وجنائياً بوضع الضحية والجلاد على قدم المساواة، وهي من ترد على تخرصات المهووسين بعقدة الإسلاموفوبيا، ونزع كل طابع وطني مُحق عن المقاومة بذريعة طابعها الإسلامي، وهي كذلك تفضح محور المتاجرين بدماء غزة بعد أن سفكوا دماء السوريين، كي يكون طريق القدس سالكاً أمام جحافلهم، فإذ بهم حين أزفت ساعة الدفاع عن فلسطين، أصبحوا دعاة حكمة وواقعية سياسية وتلاعب بالشعارات والساحات. في حضرة تلك الحقائق الثاوية، ليس مقبولاً وطنياً وأخلاقياً قيام أيٍ كان بإهداء منجزات المقاومة، لمن يرومون السمسرة بدماء وتضحيات أهل غزة. إنها ملحمة فلسطينية خالصة، وهي أكبر من الفصائل وحساباتها، ولا كرامة ولا مصداقية لمن أساء لها عن سوء طوية أو قصر نظر. لا مبالغة أو تهويل في وصفها بالملحمة، فقد ترسخت يومياتها المضمخة بالظلم والخذلان والقهر والصمود والفداء، في ضمائر كل أحرار العالم، ممن رفضوا سياسات الترهيب والتكميم والخضوع، فكانوا شركاء فيها بحق، وبما سيتداعى عنها من تغييرات كبيرة قادمة بدأت تلوح في الأفق.