طارق فهمي
تشير مجمل المواقف الرسمية ما بين كل الإدارات السابقة والإدارة الراهنة إلى إبداء غالب المسؤولين النية لإنشاء كيان فلسطيني منفصل عن الكيان الإسرائيلي
تتفاوت التصريحات الرسمية الأميركية في تأكيد خيار حل الدولتين والدعوة إلى ضرورة قيام دولة فلسطينية من آنٍ لآخر، إذ يلاحظ في كلام الرؤساء الأميركيين منذ بدايات عهد الرئيس الأسبق جورج بوش الابن إلى الرئيس الحالي جو بايدن، مع الفارق في الطرح والرؤية ما بين كل رئيس على حدة، وكذلك التعامل مع وزراء الخارجية الذين يطلقون هذه التصريحات من آنٍ لآخر، وفي ظروف محددة أو من خلال لرؤية شاملة للحل، مما يؤكد أن إطلاق الإدارة الأميركية لخيار حل الدولتين في الوقت الراهن ليس جديداً أو منحة أميركية لافتة في الوقت الراهن، وليس مرتبطاً حتى بالحرب الدائرة في غزة حالياً.
تباينات كبرى
يشير مجمل المواقف الرسمية في شأن الدولة الفلسطينية وتبني خيار حل الدولتين، وإن بدت موحدة ما بين كل الإدارات السابقة والإدارة الراهنة، إلى وجود قواسم مشتركة أهمها إبداء غالب المسؤولين النية لإيجاد كيان فلسطيني منفصل عن الكيان الإسرائيلي، وهو ما يؤكد وجود قناعة أميركية بضرورة الحل، أو في الأقل المضي في مساره كحد أدنى، وإن هذا الأمر محل اتفاق جمعي بين كل الإدارات السابقة، وإن كان الأمر يمضي في سياق مختلف، إذ لم تطرح الإدارات الأميركية السابقة، أو تلك الحالية، خطة عمل حقيقية يمكن البناء عليها أو ترجمتها. وظلت الأمور في إطار عام من الطرح السياسي والدبلوماسي، وارتبطت بتصاعد معدلات العنف والمواجهات الفلسطينية – الإسرائيلية أثناء وبعد الانتفاضتين الأولى والثانية.
وفي الوقت الراهن، ودون الشروع بصورة جدية بتحرك للتوصل إلى الحل الحقيقي على مستوى الإجراءات كالعوة لمؤتمر دولي للحل أو تقديم خريطة طريق حقيقية للمضي في مسارها، مما يؤكد أن الولايات المتحدة اكتفت بالطرح العام دون تدابير حقيقية، بخاصة أن الموقف الإسرائيلي ظل على حاله، رافضاً لفكرة حل الدولتين بالمعنى المتعارف عليه سياسياً أو قانونياً، بخاصة أن إسرائيل ذاتها هي الدولة الوحيدة في العالم التي نشأت بمقتضى نص القرار الدولي الشهير رقم 181، والقاضي بإعلان دولتين على الأرض حين أنشئت الدولة اليهودية، وبقي موقع الدولة العربية المفترض أن تنشأ، كما هو، ومن ثم ظلت إسرائيل حتى اليوم تتهرب وترفض تماماً أية خطوات أميركية على أي مستوى في إطار التجاوب مع طرح خيار حل الدولتين، ولم تطرح بدائل في هذا السياق للرد على الدعاوى الدولية المهمة، بما في ذلك الطرح الخاص بإيجاد كيان فلسطيني مستقل عاصمته القدس الشرقية.
واعتبر إقرار رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو بتقبل فكرة خيار حل الدولتين والدولة الفلسطينية حدثاً كبيراً ومهماً ولافتاً في ظل ما كان يجري، وأقر نتنياهو رسمياً في لقاء في جامعة “بار إيلان” منذ سنوات، بحق الجانب الفلسطيني في دولة منزوعة السلاح، لا تملك جيشاً بالمعنى المعروف، وتبقى في حدودها المتعارف عليها، مع وجود الجدار العازل، المحدد للدولة الفلسطينية في ما وراء الخط الأخضر. وتراجعت الحكومة الراهنة عن أي مخطط أو إجراءات حقيقية يمكن أن تقود إلى هذا الأمر، بل وتنصلت تماماً مما ذكره نتنياهو مسبقاً، واعتبرت أن الأحداث تجاوزته.
أطروحات موثقة
إن المقاربات الأميركية السابقة واردة، ومنها أن الولايات المتحدة طرحت في مساعيها لحل النزاع، كلياً أو جزئياً، الاتفاقات الثنائية (مشروع روجرز، واتفاق كامب ديفيد)، والترتيبات الانتقالية الثنائية (اتفاقات فصل القوات الإسرائيلية – المصرية، والإسرائيلية – السورية، ومقترحات بيكر)، والاتفاقات الشاملة (مؤتمر جنيف عام 1973، ومؤتمر السلام الإقليمي في مدريد، الذي عقد في 30 أكتوبر/ تشرين الأول 1991).
في هذا السياق من التطورات الداخلية في إسرائيل ومع اندلاع أحداث غزة واستمرارها وانفتاح المشهدين السياسي والعسكري على كثير من التطورات المهمة فإن الطرح الأميركي الراهن يكتسب أهمية كبيرة، وإن كانت تنقصه بالفعل مراحل التنفيذ، بخاصة مع تصعيد قطعان المستوطنين في الداخل الفلسطيني، وفي الضفة الغربية، وقرب المقدسات الإسلامية، وإعادة السردية الإسرائيلية المتعلقة بحسم الصراع وليس إدارته في المشهد العام، مما سيرتبط بضرورة الانتقال من الاجرائي إلى الجوهري، بخاصة أن الوقت لن يسعف الإدارة الأميركية لاتخاذ خطوات حقيقية في الضغط على إسرائيل للمضي قدماً في مسار حقيقي وفاعل نحو تنفيذ فكرة حل الدولتين لاعتبارات متعلقة بالداخل الإسرائيلي، وباللوبي اليهودي الكبير في واشنطن، والذي يروج لفكرة الدولة الواحدة.
خيارات محددة
إن ما يجري على الأرض في الضفة يلغي عملياً فكرة حل الدولتين، ويدفع إلى البحث مجدداً عن بدائل قد تكون مقبولة في هذا الإطار، أو في الأقل إعادة تدوير فكرة الدولة ثنائية القومية أو الدولة متعددة الأعراق والإثنيات علي سبيل المثال، ومن ثم فإن الإدارة الأميركية ليس لديها رفاهة الوقت للعمل على مقاربة أيديولوجية في توقيت بالغ الأهمية، وفي ظل انشغالات الأمة الأميركية في حدث الانتخابات الرئاسية المقبلة، وعدم ووجود آليات للتعامل، أو في الأقل، البناء على ما قد يتم وفي ظل ما تواجهه إسرائيل من الداخل من تحديات حقيقية مؤثرة ومكلفة، مما قد يدفع الإدارة الأميركية لتأجيل أي طرح. وفي ظل وجود تلال من الإشكاليات التي تواجه الإدارة الأميركية الحالية لإعادة تدوير خيار حل الدولتين، وفي ظل تحركات إسرائيل لفرض استراتيجية الأمر الواقع وعدم تقبل أي طرح، كان للسلوك الأميركي دور لافت في هذا الإطار اعتماداً على عدم السماح لأي طرف دولي مثل روسيا أو فرنسا بالعمل مجدداً في هذا الإطار.
تحركات منضبطة
لهذا أفشلت الولايات المتحدة التحرك الفرنسي ممثلاً بـ”مؤتمر باريس للسلام في الشرق الأوسط” كما رفضت عقد “مؤتمر موسكو للسلام في المنطقة” استناداً إلى ما يجري من تطورات، بل وعطلت عمداً “الرباعية الدولية”، لتنفرد بدور الوسيط المعني والمهم في هذا السياق من التطورات الكاشفة، والتي تعطي دلالات أن الولايات المتحدة تتبنى الموقف الإسرائيلي مع الاكتفاء بالطرح العام لحل الدولتين من دون مضمون حقيقي يمكن البناء عليه، مما سيبقي أي طرح في شأن الدعوة إلى إقامة دولة فلسطينية مجمداً، ومن خلال رواية مفادها أن الطرف المعني لا يريد التجاوب مع أي طرح، بل على العكس يمضي في سياق محدد، رافضاً أي مواقف أولية مع التوجيه بالتحرك في مسارات متعددة، مما قد يؤكد أن إسرائيل ليست جادة في تقبل أي طرح راهن، ولو على مستوى الاتصالات السياسية للتمهيد للخطوة اللاحقة المتعلقة باستئناف الاتصالات الرسمية والمفاوضات الجادة التي يمكن أن تقود إلى تحديد مستقبل الكيان الفلسطيني المستقل، وليس البقاء في دائرة السلطة الفلسطينية التي توجد على جزء من أرض فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر، وفي إشارة إلى أن الواقع الفلسطيني الراهن ما زال منقسماً ما بين قطاع غزة ورام الله، مما قد يؤدي إلى استبعاد، ولو جزئي لفكرة كيان فلسطيني مستقل في الوقت الراهن.
مراجعات مهمة
إن ما طرحه الجانب الأميركي في شأن خيار حل الدولتين مكرر ويمضي في سياقات تاريخية، ولعل التصريح الذي صدر عن إدارة الرئيس الأسبق جيمي كارتر في شأن تقرير المصير للفلسطينيين، كان ذلك الذي أدلى به الرئيس كارتر في أسوان في 4 يناير (كانون الثاني) 1978، حيث تحدث عن حل المشكلة الفلسطينية بوجوهها كافة، ولا بد للمشكلة من أن تقر بالحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني، ومن أن تمكن الفلسطينيين من المشاركة في تقرير مصيرهم الخاص كما أشار الرئيس الأسبق رونالد ريغان في سبتمبر (أيلول) 1982 عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. وتحدث الرئيس جورج بوش الأب، في خطابه أمام اللجنة المشتركة للكونغرس في السادس من مارس (آذار) 1991، عن حقوق الفلسطينيين السياسية المشروعة، ومع حدوث تطورات مفصلية مهمة تتعلق بالواقع السياسي والتاريخي لتأكيد خيار حل الدولتين كأساس للحل في المديين المتوسط والطويل الأجل، وذلك لإنهاء حالة التوتر الراهن في الشرق الأوسط، وأنه من دون حل حقيقي وجامع للواقع الفلسطيني الراهن لن يكون هناك استقرار سياسي يعم دول الإقليم بأكملها، ولعل هذا ما أكده الطرح المصري بأن الدولة الفلسطينية المستقبلية يمكن أن تكون منزوعة السلاح، مع وجود قوات أمن دولية موقتة لتحقيق الأمن لها ولإسرائيل.
الخلاصات الأخيرة
سيظل الموقف الفلسطيني من رؤية الدولة الفلسطينية مرتبطاً في الأصل برؤية تقوم على أن التصريحات في ما يتعلق بالسياسة الأميركية إزاء القضية الفلسطينية تتناقض باستمرار مع السياسة الأميركية الفعلية، فالولايات المتحدة تعارض المستوطنات اليهودية في الأراضي المحتلة، لكنها تمول بناءها، وهي تسلم بأن للفلسطينيين حقوقاً سياسية مشروعة، لكنها ترفض أبسط حقوقهم، وليس فقط الدولة الفلسطينية، أو أي كيان مستقل، وعلى رغم ذلك لن يكون في وسع إدارة بايدن أن تمضي إلى ما لا نهاية في منع الشعب الفلسطيني من إقامة دولته، ولا يمكن لإسرائيل أن تتمتع بالأهمية الاستراتيجية نفسها بالنسبة إلى مصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط بعد نهاية الحرب الحالية في غزة، كما أن اعتراف “منظمة التحرير” بحق إسرائيل في الوجود، وقبولها قرار مجلس الأمن 242، ونبذها الإرهاب، صعب على الولايات المتحدة الإمعان في تأييد إسرائيل على طول الخط، ولكن مع استمرار الحرب في غزة فإن الأمر سيختلف، وسيتطلب مراجعة لمجمل السياسات الأميركية بما في ذلك الشروع في تبني موقف راسخ قد يترجم ما تم إقراره في الخطاب الرسمي للولايات المتحدة في شأن الدولة الفلسطينية.
المصدر: اندبندنت عربية