أحمد وديع العبسي
زيدون الزعبي: كاتب وباحث يحمل شهادة الدكتوراه في إدارة نظم المعلومات. خبير في مجالات الحوكمة بالإضافة إلى عمله على عدد من القضايا الدستورية كالهوية الوطنية واللامركزية. يعمل مستشاراً وميسراً لدى عدد من الهيئات الدولية من ضمنها سابقاً مكتب المبعوث الخاص لسوريا، عمل سابقًا أيضاً أستاذًا جامعيًا في سورية، وكان الرئيس السابق لاتّحاد منظمات الإغاثة والرعاية الطبية (UOSSM). أصدر منذ أيام مع مجموعة من الباحثين بحثاً عن الهوية السورية، هو ما يدور حوله هذا اللقاء …
1- بداية نرحب بك دكتور زيدون، هذا اللقاء على هامش، أو لنقل على إثر البحث الذي عملت عليه مع مجموعة من الباحثين والذي حمل عنوان (الهويات المحلية والتقسيمات الإدارية – المناطقية ليست الخطر) والنقاشات التي أجريت حوله، وما أثاره من تساؤلات عديدة واعتراضات أحياناً من بعض (النخب) ومجموعات السوريين وأفرادهم
يتضح من خلال تصفح البحث أنه يحاول أن يجد حلاً لضرورة تبني الهوية الوطنية السورية، دون الضغط على الهويات المحلية ومنتجاتها بعد الحرب، وكأنه يقول: سورية لا ترغب بإقصائكم، ولكن لا تتخلوا عنها، في حديث بين هويتين تبدو فيه الهوية الوطنية هي العنصر الأضعف، فكيف تلخص الهدف الأساسي من هذا البحث وما أهم النقاط التي ترى أنه تناولها
بدايةً ملاحظتك صحيحة فالهوية الوطنية السورية تبدو ضعيفة وذلك نتيجة عوامل كثيرة ذكرت في البحث. الآن المطلوب تقويتها، بل وإعادة بنائها كونها تعرضت للكثير من التشويه بفعل الحرب وبفعل السلطات المتعاقبة على سوريا منذ الاستقلال. وأهم عناصر إضعافها هو وضع الهوية الوطنية السورية بمواجهة هويات أعلى كالهوية العربية، أو إذا أردت بشكل أدق الهوية العروبية، بدلاً من أن تعيش معها، وكأنك إذا كنت عربياً فلست سورياً، وإذا كنت سورياً فلا يمكن أن تكون عربياً. لذلك سعى البحث أن يفهم حال الهوية الوطنية السورية اليوم، ما هي عناصر قوتها وما هي عناصر ضعفه، منطلقا من افتراض أن هناك علاقة بين الهويات المحلية والهوية الوطنية، ومحاولاً استكشاف طبيعة هذه العلاقة، ولكوننا نهدف إلى تقوية الهوية الوطنية السورية، فنحن رأينا أن أحد أهم المداخل هو النظر إلى الهوية المحلية، ومن ثم إذا كانت تقوية الهوية المحلية ستؤدي إلى تقوية الهوية الوطنية فمرحبا بالهوية المحلية، وإذا كان الهوية المحلية تضعف الهوية الوطنية السورية فعلينا أن نعيد النظر بشكل الهوية المحلية. كما أردنا أن نعرف علاقة التقسيمات الإدارية بالهوية المحلية، وبالتالي ما هو التقسيم الإداري الأمثل الذي يساعد في تقوية الهوية الوطنية في نهاية المطاف.
2- سأتحدث عن البحث وعن اللقاءات التي جرت على إثره وكأنهما منتج واحد خلال طرح الأسئلة باعتبارك أحد المنتجين والمتحدث الرئيسي باسم البحث، لذلك سأجعل الأسئلة موجهة لك بشكل مباشر. قلتَ إن الهوية الوطنية غير واضحة وغير ناجزة، ونحن في مرحلة حرب، وربما إعادة تشكل برأيك ما الذي يحمل السوريين على تحمل عبء (نظري) غير واضح ولا يملك سياق تطبيقي، لماذا لا يقبلون عملية الاستبدال والتخلي عن الهوية؟
سأعيد قراءة سؤالك على الشكل التالي لماذا يتعين على السوريين أن يسعوا إلى هوية وطنية جامعة؟ ما الفائدة من ذلك؟ حقيقة هذا سؤال مشروع للغاية، بل مهم، وهو أحد أسباب العمل على هذا البحث. بمعنى هل يتعيّن على السوريين إعادة بناء هويتهم أم الانكفاء إلى هويات فرعية؟ حقيقة الجواب واضح بالنسبة لنا، لا حياة في هذا الوطن في حال تقسّم أو تعرض لانفصال أحد أجزائه، ليس لأن الأرض مقدسة، بل لأن مثل هذا الانقسام أو التقسيم هو كارثة على المجتمع، لن تؤدي إلى نشوء دويلات متحاربة ومجتمعات مفقَرة فحسب، وإنما ستمتد إلى أزمات أوسع، ونحن كلنا نعرف أنه في هذا الشرق التقسيم و الانفصال مولد لكوارث متتابعة، والسودان مثال واضح على ذلك.
إذاً فسعي السوريين إلى بناء هوية وطنية جامعة هو شكل من أشكال الخروج من الحرب، لأن أحد أوجه الحرب الآن هو الانقسام المجتمعي وخطاب الكراهية وغياب الهوية الجامعة، وعليه فإن إنتاج هوية وطنية سورية هو مصلحة للسوريين بغض النظر عن الشعارات والوطنية. أنا أتحدث فقط الآن عن منطق المصلحة ومنطق المصلحة يفترض على السوريين أن يعيدوا بناء مجتمع متماسك في كل الجغرافيا وهذا بحد ذاته واحد من أوجه الحل السياسي إن شئت.
3- استشهدت في أكثر من مرة بقول لشاعر إيطالي: “إننا صنعنا إيطاليا والآن نصنع الإيطاليين”، هذه جملة أساسية ومفتاحية، هل تعتقد أن المحدد الرئيسي للهوية هو الجغرافيا، وبشكل أدق هي الحدود السياسية؟
الجغرافيا محدّد أساسي من محددات الهوية الوطنية بالتأكيد. دعني أقول الآن لو أن المفاوضات بين الإنجليز والفرنسيين جعلت من الموصل ضمن سوريا، لكانت هوية أهل الموصل سورية، ولو أن الرمثا كانت داخل الخط الذي رسمه سايكس بيكو بالصدفة لكانت الرمثا الآن سورية، ولو أن هذا الخط بالصدفة ارتفع قليلا فوق درعا لكانت درعا في الأردن وبهوية أردنية. لكن الجغرافيا ليس المحدد الوحيد وهناك عوامل أخرى كالثقافة واللغة والدين والتنظيم المجتمعي ومؤسسات الدولة، كلها تؤثر في هذه الهوية.
4- في نفس السياق تقول إن إيطاليا وألمانيا توحدتا بالقوة رغم وجود اللغة المشتركة والثقافة المشتركة، فلماذا القوة؟ وهل السلطة تلعب دوراً أساسياً أيضاً في تشكيل الهوية، فلا هوية دون سلطة تفرضها وتحميها؟
سؤال مهم لماذا القوة، لأن أمراء المدن الألمانية والمدن الإيطالية كانوا يريدون أن يبقوا ملوكاً على مدنهم لا ينازعهم في ذلك أحد. فهم كانوا يريدون المحافظة على ملكهم (قارن الآن مع ما يحدث في سوريا ومع واقع سلطات الأمر الواقع فيها) وبالتالي نعم السلطة تلعب دوراً أساسياً في تشكيل الهوية، وتعمل على حمايتها، ولها دور بارز في تغييرها، وقد يكون ذلك لغايات عليا أو لغايات سيئة لهذه السلطات.
5- قلت إن سبب انفصال الهوية العربية عن الهوية العثمانية هو طغيان المركز على الثقافات المحيطة وسياسة التتريك، وهذا ما أدى إلى ضعف الشعور بالانتماء وبروز الهوية المحلية ومحاولتها صنع كيان سياسي لهوية وطنية مستقلة، في نفس الوقت يذكر البحث أن المركز والسلطة، (والقوة كما في تجربة إيطاليا) تلعب دوراً رئيسياً في صناعة الهوية، كيف يستقيم الأمر؟ ألا ترى أنه بهذه الأوصاف تصبح الهوية أداة (للقمع) وهي تجربة تنجح أو تفشل، وليست حالة انتماء مستقرة؟
نعم الهوية قد تكون أداة قمع، بالتأكيد عندما أفرض عليك هوية لا تنسجم مع هويتك ومع شعورك ستكون الهوية أداة قمع، وأداة قاسية، وربما تجربة الكثير من الكورد والتيار المحافظ في سورية إبان حكم البعث دليل على ذلك …
إذاً ليس هناك قوانين نهائية في هذا الأمر، لكن ما يقوله الواقع إنك إذا لم تحترم الهويات الفرعية فإنها ستحاربك، إلا إذا استطعت إلغاءها بالمطلق، وفي هذا العصر في القرن الواحد والعشرين يبدو الحديث عن إلغاء هويات بالكامل هو ضرب من المستحيل أو الخيال، وفوق كل ذلك هو جريمة دون شك. مثلاً هل نجحت الولايات المتحدة بإلغاء هوية الهنود الحمر وخلق هوية أمريكية بديلة جامعة ؟ نعم لقد نجحت، ولكن هذا الفعل لا أخلاقي وجريمة كبرى …
6- ذكرت في معرض كلامك وفي البحث إن الهوية الفلسطينية تشكلت رغم عدم وجود جغرافيا مُحدِدة لها. برأيك ما الذي حمى الهوية الفلسطينية من الاندثار، كما حدث مع الاندلسية، أو مع هوية الهنود الحمر، لماذا لا تزال قائمة كحقيقة وليس كفلكلور في المتاحف؟ ألا تعتقد أن تمسكها بهوية أكبر عربية إسلامية أمّن الحماية لهذه الهوية، وأسس لوظيفتها ومركزيتها، ودورها في حماية مقدسات أمّة؟
دعني أصحح، نحن لم نقل إنه ليس هناك جغرافيا فلسطينية! هناك جغرافيا فلسطينية وواضحة، نحن قلنا إنه ليس هناك دولة فلسطينية معترف بها، وما حمى الهوية الفلسطينية من الاندثار هو المقاومة، وقدرة أهلها على مقاومة الإلغاء الذي يمارسه الكيان الصهيوني. وبالتأكيد تمسّك الفلسطينيين بهوية عربية وإسلامية وفّر حماية إضافية لهذه الهوية.
7- ألا ترى من خلال محددات الهوية التي ذكرتها، الجغرافيا، الشعب المحدد بالجغرافيا، السلطة، أنها محددات متغيرة، وبالتالي لا تعطي أي رسوخ لقيمة الهوية، لأن الهوية ستصبح بالتالي (حدثاً طارئاً) قابلاً للتغير فلماذا أجازف بالدفاع عنها وتبنيها، بينما أستطيع أن أحارب من أجل هوية مفصلة على قياسي، وتلبي مصالحي الحالية ولتتغير في وقت آخر؟
ثمّ ألا تشعر أنه من خلال تعريف الهوية كحدث متغير أنني أفتح الباب للصراع حولها ولجعل القوة محددها الرئيسي، ألا يجب أن أعرفها بمحددات راسخة لأحميها من العبث ومحاولات التغيير؟
سيولة وتحول الهوية، لا يسمح لك أن تقول لا داعي لها. الهوية شعور لا يمكن التخلي عنه. كل الناس في العالم منذ أن خُلقت البشرية وحتى يومنا هذا لديها هوية، إمّا أن تكون هوية مكان أو عشيرة أو دين أو .. أو.. شعب إلخ. الهوية ضرورة لأنها تمثل تماسك المجتمع، وهي متطورة لأنها تطوّر المجتمع وبالتالي فإن تغييرات كثيرة تطرأ على الهوية … بسبب مثلاً التواصل الاجتماعي أو الهروب أو الأحداث الكبرى، أو بسبب النزوح، الهجرة، الظروف الاقتصادية … تتطور الهوية وتتغير وتتعدل، لكنها تبقى هوية وطنية، وعلينا أن نحافظ عليها لأنها شكل من أشكال التماسك، وهذا التغيّر والتحوّل لا يناقض التماسك.
8- برأيك ألا يجب أن يكون المحدد الرئيسي للهوية هو بُعد تاريخي مستمر متطور، وليس متغيّر؟ وبالتالي أكثر الهويات قدرة على المضي قدماً هي أكثر الهويات التي يتم تفسيرها وإيجادها عميقاً في سيرورة التاريخ، وتكتسب شرعيتها من استمرارها.
أجبتك عن هذا السؤال سابقاً، وأظن أن سؤالك نفسه يتضمن الإجابة فالتحول للتاريخ عبر زمن طويل يقول بأن هوياتنا اليوم كسوريين مختلفة عن هويتنا قبل قرن وستكون مختلفة بعد قرنين، لكن هذا لا يعني أبداً أن لا تُكرَّس وأن تتطور بآن معاً.
9- لماذا يصرّ البحث على عدم جعل المعتقد هو البعد المركزي والأكثر أساسية في الهوية، طالما هو البعد الذي حمل ولا يزال أكثر الهويات استمرارية، وما يزال يجمع أبناء الهويات المتعددة على قضاياه، والمعتقد بفضائيه الديني والإيديولوجي
لا يمكن للمعتقد أن يكون هو البعد المركزي في الهوية. المعتقد هو بعد مركزي في الهوية بدون الـ التعريف بمعنى الأرض مثلا حاسمة في بناء هوية وطنية وفي بناء هوية محلية وإلا فإن السوري المسيحي سيكون معنيا بالمسيحي الإيطالي أكثر مما هو معني بشقيقه السوري، وسيكون المسلم السوري معنيا بالمسلم الأندلسي أكثر مما هو معني بالمسيحي السوري إذا المعتقد هو عامل وعامل مهم ومركزي لكنه ليس “العامل المركزي” فالجغرافيا والمعتقد والثقافة واللغة كلها عناصر أساسية تبني الهوية الوطنية.
10- في النهاية سأعود للتعريف حيث طرح البحث تعريفات متعددة، غالبيتها لا تعطي تحديداً دقيقاً للهوية، وعرض البحث التعريفات بطريقة تقول إنه لا يريد أصلاً أن يحدد، فطرح محددات متعدد ليست حاسمة ولا نهائية، ووصل في النهاية إلى فكرة سيولة الهوية، ما الفائدة من تبني انتماء لمفهوم سائل، أنا غير قادر على تحديده، ألا يُشعر هذا إن جزء من الانتماء هو انتماء للفوضى، أو لجزء يحوي فراغاً غير واضح المعالم، خاصة أن غالبية التعريفات تقول إن الهوية حاجة الانتماء!
الهوية سائلة لكنّك أحمد العبسي الذي يشعر أنه حلبي وأنه مسلم وأنه سوري وأنه عربي وأنه معارض وأنه صحفي إلخ. ربما تتغير بعض هذه العناصر. ربما تترك الصحافة مثلاً، وربما تحصل على جنسية جديدة وربما يضعف عنصر من عناصر هذه الهوية أو يقوى، لكنها جميعاً أجزاء أساسية وستبقى دائما أحمد العبسي السوري الحلبي الرجل المسلم، إلخ إلخ إلخ.
المصدر: حبر
Can you be more specific about the content of your article? After reading it, I still have some doubts. Hope you can help me.
5fl1kd
Your point of view caught my eye and was very interesting. Thanks. I have a question for you.