سمير سعيفان
بعد أن خفّت شدّة العمليات العسكرية في سورية، أخذ السؤال عن إمكانية عودة اللاجئين السوريين إلى بيوتهم يُطرح كثيرًا، على المستويين الرسمي والاجتماعي، ولا سيّما في الدول المجاورة لسورية -تركيا ولبنان والأردن- التي لجأ إليها أعداد كبيرة من السوريين هربًا من الموت، خلال سنوات الحرب السورية، ويطرح السؤال بقوة في لبنان (831 ألف لاجئ)، حيث تشنّ قوى محلية حملات عنصرية ضد اللاجئين السوريين، وكذلك في الأردن (675 الف لاجئ)، حيث تضغط الحكومة الأردنية على نظام الأسد لفتح الباب لعودة اللاجئين، حتى إن بعض الأطراف المصرية بدأت، في الآونة الأخيرة، تثير قضية وجود اللاجئين السوريين في مصر، وتطالبهم بالعودة إلى سورية، بعد أن كان الطابع العام في مصر هو الترحيب بالسوريين، على المستويين الحكومي والشعبي.
أما في تركيا فقد أخذت قضية اللاجئين السوريين أبعادًا أخرى، حيث جُعلت قضيتهم (3.3 مليون لاجئ في تركيا[1]) موضوعًا في سياق الصراعات الانتخابية، بين الائتلاف الحاكم والمعارضة، وعلى الرغم من أن ملف اللاجئين هو ملف إنساني بامتياز، فإنه صار يُستخدم لأغراض سياسية، وأنتج ذلك ضغوطًا اجتماعية وإدارية ونفسية على اللاجئين السوريين، بسبب حملات عنصرية نظّمتها بعض الأوساط، وقد أطلقت الشائعات، وشوّهت الحقائق، وعزَت الأزماتِ الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في تركيا إلى وجود السوريين فيها. ومن ثمَّ قامت الحكومة بتشديد الإجراءات القانونية على اللاجئين السوريين وغير السوريين. وعلى الرغم من أن هناك دراسات وتحليلات عديدة أثبتت إيجابية وجود اللاجئين، ظلّت المعارضة التركية تردّد أن سورية أصبحت “آمنة”، بحجة أن موجبات وجود السوريين في تركيا زالت، وجهرت بالدعوة إلى ضرورة إعادة اللاجئين السوريين إلى بيوتهم، بدعوى تجنيب المجتمع التركي مزيدًا من الانقسام.
وإذا أردنا الإجابة عن هذه المسألة وتفنيد هذه الحجّة، فإن الجواب ببساطة أنّ هذا الطرح يكون سليمًا، حين تتوفّر شروط عودة طوعية آمنة للاجئين السوريين إلى بيوتهم التي هُجّروا منها، ولا يكون ذلك إلا بعد زوال موجبات اللجوء التي ما زالت قائمة.
نناقش في هذه الورقة موضوع مدى توفّر إمكانية عودة اللاجئين السوريين في تركيا، أو في غيرها من بلدان، إلى بيوتهم، وشروط العودة الطوعيّة الآمنة.
- حجم المشكلة:
لو كانت أعداد اللاجئين السوريين في بلدان العالم بالآلاف، لكان الأمر يسيرًا، لكن الحرب السورية أدت إلى لجوء ما يقارب ثمانية ملايين لاجئ من سورية، إلى 45 دولة في العالم، منذ عام 2011.
توزع اللاجئين السوريين في العالم (أعداد تقريبية)
ولا شك أن هذا العدد الكبير يحتاج إلى كثير من الشروط المادية والسياسية، وكثير من الاستثمارات، ليتمكن اللاجئون من العودة الطوعية الآمنة، ولا سيّما أن الحرب قد دمّرت الجزء الأكبر من قدرات سورية على كل الأصعدة.
وبالرغم من وجود بعض الاختلافات في دوافع النزوح واللجوء، فإن عنف النظام وممارسته التدمير وملاحقاته الأمنية كانت السبب الرئيس للجوء، وهذا يعني أن عودة هؤلاء اللاجئين ترتبط إلى حد بعيد بزوال الأسباب التي اضطرتهم إلى اللجوء.
وقد أجرى مركز حرمون للدراسات المعاصرة دراسات عدة سنة 2021، حول المحددات السياسية[2]، والأمنية والعسكرية[3]، والاقتصادية والاجتماعية[4]، والقانونية والتشريعية[5]، لعودة اللاجئين السوريين، وأجرت الدراسات تحليلًا منهجيًا لأجوبة عيّنة من السوريين المقيمين في تركيا، حول أسباب لجوئهم. ويبيّن الشكل الآتي[6] إجابات عيّنة من اللاجئين عن تلك الأسباب:
- رغبة اللاجئين السوريين في العودة:
يكثر طرح السؤال في الأوساط التركية عن مدى رغبة اللاجئين السوريين في تركيا في العودة إلى ديارهم. ومن حيث المحاكمة المنطقية، يمكن الاستنتاج أن غالبية اللاجئين السوريين في تركيا يرغبون في العودة إلى ديارهم، إذا توفّرت شروط عودة طوعية آمنة تضمن لهم الحد المقبول من شروط العيش بكرامة؛ ذلك بأن ظروف عيش معظم السوريين في تركيا هي ظروف طاردة لا تُحقق لغالبية السوريين ظروف عيش مريحة، من حيث مستوى الدخل، ومن حيث طبيعة المهن والوظائف التي يعملون فيها، ومن حيث ساعات العمل الطويلة وشروط العمل غير العادلة، فضلًا عن مناخات التحريض التي تتجلى بمظاهر التنمّر في المدارس على أطفالهم، والتمييز في التعامل في دوائر الشرطة ودوائر الدولة، والتوتر الاجتماعي في مناطق عيشهم، كل هذه الشروط تجعل نوعية حياة السوريين في تركيا أدنى من نوعيّة حياتهم حين كانوا في سورية. وإذا توفرت شروط العودة المقبولة (التي سنبيّنها لاحقًا)، فإنّ العودة إلى بيوتهم تجعلهم يعيشون في منازلهم وأرضهم وبين أهلهم وأقربائهم ومحيطهم وثقافتهم ودولتهم، ولا سيما أن 53% من اللاجئين السوريين في تركيا لديهم أملاك في سورية، ولا يملك اللاجئون السوريون أي أملاك في تركيا[7]، عدا فئة رجال الأعمال، وهي نسبة ضئيلة من حيث العدد.
أظهر استطلاع أجراه مركز حرمون للدراسات المعاصرة، حول رغبة اللاجئين السوريين بتركيا في العودة، ونشر في موقع المركز سنة 2021، أن “النسبة العظمى من أفراد العينة (75.6%) يوافقون على العودة إلى سورية، في حال تغيير النظام الحاكم الحالي، وتوقّف الملاحقات الأمنية التي تشكل تهديدًا حقيقيًا لكل شخص يفكر بالعودة، ولا سيّما أن هناك تجارب وحالات لأشخاص عادوا على اعتبار أنهم ليسوا مطلوبين، ثم كان مصيرهم الاعتقال أو التصفية والقتل”[8].وتبيّنَ أن غالبية السوريين سيعودون في حال تأمين مستلزمات العيش، مثل العمل وتوفر الخدمات ومستلزمات الحياة المادية والخدمية، وهي أمور لا تتوفر الآن.
بالمقابل، ثمة فئة، وهي الأصغر، قد لا ترغب في العودة، فبعد أكثر من عقد من العيش في تركيا، أسّس كثير من اللاجئين السوريين حياة جديدة في تركيا، ووضعوا أولادهم في المدارس والجامعات التركية، وغدا هؤلاء يتكلمون التركية كلغة أمّ، وليس من السهل نقل حياتهم إلى مكان آخر، ولا سيما الذين دُمّرت بيوتهم، وليس لديهم أملاك في سورية، فضلًا عن وجود مئات الآلاف من المطلوبين للأجهزة الأمنية، لمجرد أنهم عارضوا النظام وشاركوا في تظاهرات سلمية، ويخشى هؤلاء من الاعتقال والتغييب القسري، وأجهزة الأمن السورية شهيرة بذلك. ثم يوجد آلاف من رجال الأعمال الذين أسسوا أعمالهم في تركيا، ولا يأملون تحقيق النجاح ذاته في سورية، على أنّ جزءًا من هؤلاء سيعود في حال تحقق حلّ سياسي، وانطلاق إعادة الإعمار التي توفّر كثيرًا من فرص العمل والاستثمار والأعمال.
ويلخّص الشكل أدناه[9] ردود عيّنة من السوريين بخصوص شروط عودتهم إلى سورية، بحسب استطلاع الرأي الذي أجراه مركز حرمون:
3- أسباب عدم الرغبة في العودة أو صعوبتها:
- عدم توفر المساكن
يُعدّ توفّر المسكن أحد أركان العيش الآمن الكريم، وثمة دراسات وتقارير كثيرة عرضت الدمار الواسع الذي أصاب الأحياء السكنية الكثيرة التي شهدت التظاهرات، حيث دُمّرت أحياء كاملة في المدن والبلدات التي شهدت تظاهرات ضد النظام، وخاصة بعد أن تحوّلت إلى ملجأ لفصائل الجيش الحر التي حملت السلاح لمواجهة عنف النظام ضد المتظاهرين، في درعا وبلداتها، وفي دمشق وريفها، وفي حمص وريفها، وحماة وريفها، وحلب وريفها، وإدلب وريفها، ودير الزور وريفها، والرقة وريفها، وريف اللاذقية الشمالي. وقد “تسبّب الصراع في تدمير نحو 328 ألف مسكن، لم يعد من الممكن إعادة السكن فيها، إضافة إلى تضرّر ما بين 600 ألف ومليون مسكن، بشكل متوسط أو طفيف”[10]، إضافة إلى دمار كبير في البنية التحتية في تلك المناطق، ودمار المدارس والمستشفيات والمرافق العامة الأساسية. وإنّ من لجؤوا إلى تركيا ولبنان والأردن هم سكان هذه المناطق، أي إن الجزء الأكبر من هؤلاء اللاجئين لا يملكون بيوتًا جاهزة لاستقبالهم، ولا مباني مدرسية كافية لأطفالهم، ولا مشافي ومستوصفات كافية لتقديم الخدمات الصحية لهم. وقد أفضى الدمار والنزوح القسري إلى كثير من التبدلّات في الخريطة العقارية السورية، حيث مُسحت أحياء وبلدات كاملة عن الوجود، ولم يتبق من معالمها الكثير، ونجم عن سنوات الحرب تغيرات هائلة في الخرائط العقارية المحلية. ولعب النظام وقوى الأمر الواقع على تكريسها لمزيج من الأهداف السياسية والعسكرية والاقتصادية.
- عدم توفر شروط العيش بكرامة داخل سورية:
تذكر تقارير منظمة الأمم المتحدة UNOCHA أن نحو 15 مليون سوري بحاجة إلى مساعدة، وأنه “في نهاية عام 2022، كان 7 من كل 10 أشخاص في سورية بحاجة إلى المساعدة، …. وتستمر المؤشرات الإنسانية في سورية في التدهور؛ فالخدمات الأساسية تنهار، وهناك تفشٍّ مستمر للكوليرا، والمؤشرات الاقتصادية تزداد سوءًا، والصدمات المناخية والصدمات التي يسببها الإنسان تفاقِم الوضع المتردي بالفعل، مما يجعل الناس أكثر عرضة للخطر”[11].
أظهر بحث ميداني أجراه فريق مركز حرمون أنّ 3،5% فقط من أفراد العيّنة استطاعوا أن يحصلوا على القدر الكافي من مصادر الطاقة، مقابل 96.5% أكدوا عدم حصولهم على حاجتهم الضرورية منه، ويتجاوز نقص مصادر الطاقة البعدَ الاقتصادي -على الرغم من أهميته- إلى مسألة تأثير ندرتها في أنماط العيش وفي القيم المجتمعية في سورية، وبخاصة في مناطق النظام. وقد انعكس التراجع المستمر في نصيب الفرد من مصادر الطاقة، وارتفاع مستويات التقنين، على مجمل الأنشطة المعيشية للأسر والأفراد السوريين، بسبب الدور الفاعل والمركزي للطاقة في الحياة اليومية؛ حيث برزت نماذج اجتماعية جديدة وغير مألوفة، في أنماط السلوك الشخصي، وفي أنماط التغذية والتعليم والعناية بالمظهر والاستحمام، وفي أنماط التنقل والعلاقات الاجتماعية في العائلة الواحدة ومع الأقرباء والجيران[12].
وأظهرت الدراسة الميدانية المذكورة أن 52% من السوريين يكاد نظامهم الغذائي يخلو من اللحوم والبروتينات الحيوانية والفاكهة والحلويات، ويصنف نظامهم الغذائي ضمن المستوى المنخفض. وصرّح 32% بأن نظامهم الغذائي يقع ضمن التصنيف المتوسط، لاحتوائه على اللحوم والفاكهة والبروتين الحيواني بكميات أقل من المطلوب، في حين قال 16 % فقط إنهم يتناولون نظامًا غذائيًا جيدًا.
كما أظهرت الدراسة أن 57% من السوريين باتوا يتناولون أقل من ثلاث وجبات يوميًا؛ إذ يتناول 29% منهم وجبتين يوميًا، و6% يتناولون وجبة واحدة فقط يوميًا، و14% راوح نظامهم بين الوجبتين والثلاث، و8% راوح نظامهم بين الوجبة الواحدة والوجبتين.
وتبين هذه النسب أن نحو 15 % فقط من السوريين في مناطق سيطرة النظام هم طبقة مكتفية، وأن ثُلث السوريين يعيشون في فقر، وأن نحو %50 يعيشون في فقر مدقع، ويعتمدون إما على تحويلات أقربائهم في الخارج، وإما على المساعدات الإغاثية الواردة عن طريق الأمم المتحدة، التي بيّنت تقارير عدة أن النظام يتلاعب بها.
إضافة إلى ذلك، لا تتوفر مدارس كافية للطلاب، حيث دمّرت الحرب جزءًا كبيرًا من المدارس. وقد استُخدمت المدارس كأماكن عسكرية، أو كملاجئ غير رسمية للأسر النازحة. وفي مدن عدة، مثل تدمر ودوما ودير الزور والرقة، معظم المدارس لا تعمل، وثُلث المرافق التعليمية تقريبًا، في العديد من المدن، لا تعمل.
تُسهم ظروف العيش الصعبة داخل سورية في ارتفاع الظواهر السلبية في المجتمع السوري، مثل ارتفاع معدلات الانتحار والجرائم العنيفة والجريمة العائلية وانتشار السرقات، وتفشّي المخدرات والإدمان، وارتفاع نسب الطلاق والعنوسة، وزيادة البطالة وانتشار عمالة الأطفال وتسّربهم من التعليم.
وبسبب نقص العناية الطبية والفقر ونقص مصاد الطاقة؛ ترتفع في أوقات البرد الأمراض التنفسية وأمراض المفاصل والروماتيزم، وفي أوقات الحر الشديد تنتشر الأمراض التنفسية والمعوية والأوبئة، ومنها الكوليرا، إضافة إلى مواجهة العائلات المعدمة قرارات يصعب التعامل معها، مثل شراء الدواء من أجل ذويهم المرضى، أو تأمين الطعام الصحي لهم. وقد كشفت الدراسة أن 48% من السوريين يمتنعون عن زيارة الطبيب، ويكتفون بشراء الدواء من الصيدلية، وفقًا للتشخيص الذاتي لأمراضهم بوساطة الإنترنت أو بحسب عوامل الخبرة، وأن 17% من السوريين عادوا للتداوي بالوصفات الشعبية والأعشاب، تجنبًا لمصروفات التداوي العالية.
في هذا السياق، نقل موقع (تلفزيون سوريا) ما صرّح به مدير “مكتب الإحصاء المركزي” السابق شفيق عربش، في حديث إلى إذاعة (شام إف إم) المقربة من النظام، أن معدّل الفقر في سورية بلغ 90 في المئة بين عامي 2020 و2021، وفقًا لإحصائيات رسمية لم تنشر نتائجها حكومة النظام السوري. وأضاف عربش أنه وفقًا لإحصائيات أجريت بالتعاون بين “المكتب المركزي للإحصاء” وبرنامج الغذاء العالمي، فإن “نحو 8.3 في المئة من الأسر تعاني حالة انعدام شديد بالأمن الغذائي، و47.2 في المئة يعانون حالة انعدام متوسط، في حين يتمتع نحو 39.4 في المئة بأمن غذائي مقبول، ولكنهم عرضة لانعدامه مع حدوث أي صدمة تتعلق بارتفاع الأسعار”[13]. وأظهر استطلاع ميداني قام به مركز حرمون للدراسات المعاصرة أنّ 71% من المقيمين يفكرون في الهجرة من البلاد، نتيجة الظروف الاقتصادية والمعيشية السيئة والظروف الأمنية غير المستقرة في مناطق سيطرة النظام، وغياب الأمل في تحسّن الأوضاع[14].
3-2 عدم توفر شروط العودة الآمنة:
يؤكد تقرير لجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بسورية، الصادر في أيلول/ سبتمبر 2023، أنه “خلال النصف الثاني من سنة 2023 تواصلت الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والقانون الإنساني، في جميع أنحاء سورية، في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام وفي المناطق الخاضعة لسيطرة جهات فاعلة من غير الدولة. وقد تفاقم الوضع الإنساني والاقتصادي”[15].
وتعدّ الخدمة العسكرية الإلزامية أحد عوائق عودة الشباب من اللاجئين؛ إذ يفرض النظام الخدمة العسكرية الإلزامية على جميع الشباب، سنوات عدة، وكذلك حال تنظيم (PYD) الذي يسيطر على شرق الفرات إذ يفرض الخدمة العسكرية في صفوف قواته العسكرية. وإنّ عودة الشباب السوريين إنما تعني دعوتهم للخدمة العسكرية الإلزامية، والمشاركة في الحرب الأهلية الدائرة في سورية.
إن قرار العودة الطوعية الآمنة غير ممكن بدون توفّر بنية قانونية عادلة وقضاء كفء ونزيه لا يخضع لإملاءات أجهزة الأمن، وهذا ما لا يتوفر في أي من مناطق سورية اليوم، كما يتطلب إلغاء العديد من القوانين والمراسيم والتشريعات السابقة لعام 2011 أو التالية له[16]، التي أصدرها النظام، وفي مقدمتها “قانون مكافحة الإرهاب”، ومحكمة الإرهاب التي تستخدم فقط ضد المعارضين، وهي تشريعات تعسّفية، ومحاكمات صورية بأحكام مسبقة تقررها أجهزة الأمن. ومن الواضح أن هذا لا يمكن أن يتحقق في ظل استمرار هذا النظام، ولا يتحقق خارج إطار التسوية السياسية العادلة في سورية.
وتُظهر دراسة جديدة أجرتها منظمة مراقبة حماية اللاجئين -وهي تحالف من المنظمات غير الحكومية العاملة مع اللاجئين السوريين يجري أبحاثًا حول قضايا الحماية والعودة الآمنة- أنّ سورية لا تزال غير آمنة، وقد أجرت المنظمة مقابلات مع مئات اللاجئين في لبنان، ومع العائدين داخل سورية. وخلصت الدراسة إلى أن “سورية ليست دولة آمنة لعودة مواطنيها، بناءً على معايير الأمم المتحدة، وأنها لا تستوفي شروط العودة الآمنة أو الكريمة”[17].
- عدم توفر الشروط السياسية:
خرج السوريون في 2011 من أجل تحقيق التغيير السياسي، والانتقال من نظام مستبدّ إلى نظام ديمقراطي، وقد شارك في التظاهرات ملايين السوريين، شبابًا وكهولًا، وقد فشلت جهود كلٍّ من السعودية وقطر وتركيا في ردع الأسد عن استخدام العنف المفرط في قمع التظاهرات السلمية، ورفَض النظام مبادرة الجامعة العربية خريف 2011، كما رفض بعدها قرارات الأمم المتحدة كافة. وعندما لجأ النظام باكرًا منذ 2011 إلى حله الأمني القاتل، حمل بضع مئات الآلاف من الشباب السوري السلاح، ليدافعوا عن أهلهم، في مواجهة اعتداءات قوات النظام وميليشياته والميليشيات الشيعية الداعمة له، وبات جزء كبير من هؤلاء مطلوبين للأجهزة الأمنية السورية. وهي أجهزة مشهورة بأساليبها الوحشية. ويُقدّر عدد السوريين المطلوبين للأجهزة الأمنية، بحسب موقع زمان الوصل، بنحو مليون ونصف المليون شخص سوري، وقد وضع الموقع محرّك بحث لأسماء المطلوبين على موقعه[18].
وفي دراسة مركز حرمون المذكورة آنفًا[19]، التي سبرت آراء السوريين في العودة الطوعية الآمنة إلى ديارهم، من خلال إجابات عينة من السوريين، تباينت شروط العودة، ويلخص الشكل أدناه إجابات أفراد العينة:
- ممانعة النظام وحلفائه لعودة اللاجئين السوريين إلى ديارهم:
يُصرّ النظام على عدم السماح للاجئين بالعودة إلى مناطق سيطرته، ووراء ذلك ثلاثة أسباب رئيسة:
- الأول: أن المساكن والبنية التحتية دمّرها النظام، وإفلاسه المالي يجعله عاجزًا عن تأمين حتى الحد الأدنى من الدخل وفرص العمل وخدمات التعليم والصحة وتوفير الكهرباء والوقود، من أجل عودة أعداد من اللاجئين، وعددهم كبير. ويرى النظام أن عودة اللاجئين بأعدادهم الكبيرة ستضيف عبئًا كبيرًا إلى أعبائه التي لا يستطيع القيام بها.
- الثاني: أن من لجأ إلى دول الجوار خاصة هم سكان المناطق التي خرجت فيها تظاهرات معادية للنظام، وكانت ساحة للمعارك، وقد قام النظام بقصف تلك المناطق بالطائرات والمدفعية والدبابات ودمّر البيوت والمباني والأحياء، وقتل ما يزيد على نصف مليون سوري، وهذا يعني أن هؤلاء أعداءٌ له، ولو عادوا صامتين الآن، ويرى فيهم خطرًا كامنًا، ولذا لا يريد عودتهم.
- السبب الثالث، وهو الأهم، هو أن النظام وحلفاءه يريدون أن تبقى قضية عودة اللاجئين معلقة كمشكلة قائمة لعدة دول، إلى أن يتم القبول بالأسد ونظامه، ويعاد تأهيله، وتلغى العقوبات المفروضة، وتبدأ عملية مساعدته في إعادة الإعمار، وهذا الأمر غير قابل للتحقيق الآن، لذا لن يسمح النظام بعودة أي لاجئ.
ضمن سياسة النظام الساعية للظهور بمظهر الدولة المسؤولة، عقد النظام -بالتعاون مع روسيا- منذ 2017 مؤتمرًا دوليًا حول عودة اللاجئين والنازحين السوريين، وقد اختتم في يوم الخميس 20 تشرين الأول/ أكتوبر 2022، في دمشق، فعاليات الجولة الخامسة من المؤتمر الدولي حول عودة اللاجئين والمهجرين، باجتماع مشترك لـ “الهيئتين التنسيقيتين السورية والروسية”. وقال وزير خارجية النظام السوري، فيصل المقداد: إن “أبواب سورية مفتوحة أمام عودة كل اللاجئين والمهجرين، حيث تعمل كل الجهات المعنية وبكل طاقتها لتحقيق ذلك وضمان عودتهم إلى منازلهم التي هجّرهم الإرهاب منها”[20].
وزعم بشار الأسد في خطابه، في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر الدولي حول اللاجئين السوريين المنعقد في دمشق في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، أن “الحكومة السورية تعمل على تأمين عودة ملايين اللاجئين الذين فرّوا من الحرب في بلادهم، لكن العقوبات الغربية تعرقل عمل مؤسسات الدولة، مما يعقد هذه الخطط”[21].
وبقراءة نتائج آثار الدورات الأربع السابقة، التي بدأت سنة 2017 لهذا المؤتمر الدولي حول عودة اللاجئين، نتحقق من أن أي عودة لم تتم. ولا يتوقّع لها أن تتم ما دامت تلك الشروط الطاردة هي السائدة.
ويمكن الاستدلال على قرار النظام برفض عودة اللاجئين السوريين رفضًا قاطعًا، أن لبنان عجز عن إعادتهم، رغم العلاقات الوطيدة بين النظامين اللبناني والسوري، ورغم إلحاح لبنان وضغوطه على النظام السوري كي يسمح بعودة بعض اللاجئين السوريين في لبنان إلى بيوتهم، ورغم الطلب الرسمي والاجتماعات الرسمية، والضغوط على اللاجئين أنفسهم لإرغامهم على العودة، فقد رفض النظام بإصرار عودتهم، وعندما أعاد لبنان بضعة آلاف من اللاجئين قسرًا، قام النظام باعتقال عدد منهم، كي يزرع الرعب في قلوب الآخرين. وقد صرّح رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي اللبناني الزعيم الدرزي وليد جنبلاط بأن “العودة الجماعية للنازحين السوريين لن تتحقق، ما دام النظام في بلادهم يرفض العودة”[22].
استضاف الأردن اجتماعًا إقليميًا تشاوريًا، في الأول من أيار/ مايو 2023، شمل رؤساء الدبلوماسية الأردنية والسورية والسعودية والعراقية والمصرية، وقد وصف المشاركون فيه العودة الطوعية والآمنة للاجئين السوريين إلى بلادهم، بأنها “الأولوية المطلقة”[23]. وقبل هذا الاجتماع، جرت اجتماعات واتصالات عديدة، قام بها الأردن بخصوص تنظيم عودة اللاجئين السوريين، ولكن نتائج مساعي الأردن لإعادة اللاجئين السوريين لم تختلف عن نتائج مساعي لبنان، فقد رفض النظام عمليًا عودتهم، رغم التصريحات الرسمية المراوغة.
3-5 الوضع في مناطق الشمال السوري
من جانب آخر، لا تتوفر شروط مناسبة لعودة طوعية وآمنة إلى مناطق الشمال السوري الذي خرج عن سيطرة النظام بدمشق؛ ففي منطقة شرق الفرات، وهي منطقة واسعة غنية تضم مناطق إنتاج النفط ومناطق الزراعة وتوفر المياه، وتسيطر عليها قوات حزب (PYD) الكردية، يرفض هذا التنظيم عودة أي سوري إلى مناطق سيطرته، بل إنه قام بتهجير مئات الآلاف من السكان إلى تركيا والعراق، ولا يسمح هذا التنظيم لأي سوري بزيارة مناطق سيطرته والإقامة فيها، وبالتالي لا يمكن أخذ هذه المنطقة بالحسبان كمناطق قابلة لاستيعاب أي أعداد من اللاجئين العائدين من أبناء المنطقة.
أما مناطق سيطرة ما يسمّى “الجيش الوطني”، فهي تغصّ بالسكان، ولا قدرة لها على تحمّل أعداد إضافية، حيث حُشر مئات آلاف المهجّرين من حلب وحماة وحمص ودمشق ودرعا في مناطق الشمال السوري. وبحسب منسقي استجابة سوريا، بلغ عدد السكان في مناطق شمال غربي سورية، ضمن ثلاث مناطق (محافظة إدلب وريفها، منطقة درع الفرات، منطقة غصن الزيتون)، 6,017,052 نسمة، يشكل النازحون في المخيمات وخارجها نسبة 49,32% من العدد الكلي للسكان، ويقيم في هذه المناطق 4,000,708 نسمة في مساكن، فيهم 209,838 من ذوي الاحتياجات الخاصة، و2,016,344 نسمة يقيمون في 1,873 مخيمًا ومركز إيواء ومخيمات عشوائية، فيهم 83,784 من ذوي الاحتياجات الخاصة [24].
وإضافة إلى الاكتظاظ السكاني، تفتقر المنطقة إلى فرص العمل، قد وصلت نسبة البطالة العامة -بحسب منسقي الاستجابة في الشمال السوري- إلى 88.65 %، ويعيش 90.93% من سكان الشمال السوري تحت خط الفقر، بل إن 40.67 %من العائلات وصلت إلى حد الجوع، خاصة مع توقف المساعدات الأممية[25].
وبالتالي، لا يمكن إعادة أعداد إضافية إلى مناطق الشمال السوري، وإذا كانت ثمة مساكن تبنى، فيجب أن تكون الأولوية للنازحين المقيمين في الخيم قبل غيرهم. والأمر الأهم أن عودة اللاجئين السوريين يجب أن تكون إلى بيوتهم التي تم تهجيرهم منها، وليس إلى أي مناطق أخرى.
الخلاصة:
لا تتوفر في الوقت الحاضر أي شروط تسمح بعودة اللاجئين السوريين في تركيا إلى الأراضي السورية عودة طوعية آمنة، حيث لا تتوفر المساكن، ولا فرص العمل، ولا مصادر الدخل، ولا خدمات التعليم والصحة ولو بالحد الأدنى، ولا يتوفر الشرط السياسي الذي يمنع انتقام النظام من العائدين، بل إن الظروف السائدة في سورية تعدّ ظروفًا طاردة. وبالفعل، تنمو موجات الهجرة من سورية إلى الخارج باتجاه أوروبا خاصة، وقد بينت ذلك دراسة مركز حرمون التي ذكرناها عن الهجرة من مناطق سيطرة النظام منذ 2019، وتتزايد هجرة الشباب يومًا بعد يوم، بما يهدد مستقبل سورية كدولة وكشعب.
إن العودة الطوعية الآمنة لا تتحقق بدون حل سياسي يقوم على انتقال سياسي إلى نظام سياسي جديد يُعيد وحدة سورية وتماسكها، ويقوم على قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان وقيم المواطنة وتداول السلطة عبر صناديق الاقتراع، في مناخ تسوده الحريات العامة في التعبير والتنظيم. غير أن مثل هذا الحل ما زال بعيدًا.
الهوامش:
[1] ) بلغ عدد السوريين المصنفين تحت وضع الحماية المؤقتة في تركيا، في 5 كانون الأول/ سبتمبر 2023، (3.274.059)
https://www.goc.gov.tr/gecici-koruma5638
[2] – المحددات السياسية لعودة اللاجئين والنازحين السوريين، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، أيار/ مايو 2012، شوهد في 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، الرابط: https://bit.ly/4aWIm9b
[3] – المحددات الأمنية والعسكرية لعودة اللاجئين والنازحين السوريين، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، أيار/ مايو 2012، شوهد في 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، الرابط: https://bit.ly/3U1ZXqb
[4] – المحددات الاقتصادية والاجتماعية لعودة اللاجئين والنازحين السوريين، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، حزيران/ يونيو 2021، شوهد في 17 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، الرابط: https://bit.ly/3vDnqDL
[5] – المحددات القانونية والتشريعية والقضائية لعودة اللاجئين والنازحين، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، حزيران/ يونيو 2021، شوهد في 12 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، الرابط: https://bit.ly/3S813y4
[6] – المحددات الأمنية والعسكرية لعودة اللاجئين والنازحين السوريين، مرجع سابق.
[7] – استطلاع رأي حول مواقف السوريين في تركيا من العودة إلى الأراضي السورية، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، آب/ أغسطس 2022، شوهد في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، الرابط: https://bit.ly/3u9dmSy
[8] استطلاع رأي حول مواقف السوريين في تركيا من العودة إلى الأراضي السورية، المرجع السابق.
[9] – المرجع السابق.
[10] – سمير العيطة، إطار الانتعاش المدينيّ في مجال الإسكان بعد الصراع في سورية: تصور منهجيّ أوليّ ماديّ واجتماعيّ واقتصاديّ، أيلول/ سبتمبر 2020، شوهد في 12 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، الرابط: https://bit.ly/48HLxA6
[11]– تقارير منظمة الأمم المتحدة UNOCHA، التقارير منشورة في الرابط: https://bit.ly/4aX6Q29
[12] – انعكاسات شحّ مصادر الطاقة على الأنماط المعيشية والاجتماعية في سورية مناطق سيطرة النظام، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، كانون الثاني/ يناير 2023، شوهد في 13 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، الرابط: https://bit.ly/3U76HDk
[13] – إحصائية رسمية.. معدل الفقر في سوريا بلغ 90% بين عامي 2020 و 2021، موقع تلفزيون سوريا، 24 أيار/ مايو 2022، شوهد في 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، الرابط: https://bit.ly/422YSQI
[14] سمير العبد الله، الهجرة من مناطق سيطرة النظام السوري بعد عام 2019، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، أيلول / سبتمبر 2022، شوهد في 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، الرابط: https://bit.ly/4aZ7093
[15] لجنة الأمم المتحدة للتحقيق بشأن سوريا تُحذر: تصاعد ملحوظ للقتال وانهيار اقتصادي متسارع يتطلبان استجابة سورية ودولية عاجلة. موقع الأمم المتحدة، 12 أيلول/ سبتمبر 2023، شوهد في 11 كانون الأول/ ديسمبر 2023، الرابط: https://bit.ly/3u8L0YD
[16] – “أصدر النظام منذ العام 2011 حتى الآن ما يزيد عن 50 قانونًا ومرسومًا تمس بشكل مباشر أمن وحياة وأملاك اللاجئين، مستفيدًا من غيابهم وعدم قدرتهم على الاحتجاج، أو التوثيق. ويرتبط بعضها بأملاك مناطق واسعة، تحت مسميات التطوير والتنظيم وهندسة العشوائيات وإعادة البناء. وخلال السنوات الماضية، وردت مئات التعاميم، والتعاميم المضادة والمتناقضة مع الدستور بشكل أربك اللاجئين كما أربك المواطنين، وجعل من العسير تتبع تلك التعاميم والإلمام بها. المحددات الاقتصادية والاجتماعية لعودة اللاجئين السوريين، مرجع سابق.
[17] -منظمة مراقبة حماية اللاجئين نقلًا عن دراسة لمركز حرمون بعنوان المحددات الاقتصادية والاجتماعية لعودة اللاجئين السوريين، مرجع سابق.
[18] – موقع زمان الوصل يتضمن أرشيف 1.5 مطلوب لأجهزة الأمن السورية، الرابط https://bit.ly/3S8etdg
[19]– المحددات الأمنية والعسكرية لعودة اللاجئين والنازحين السوريين، مرجع سابق.
[20] – اختتام مؤتمر لعودة اللاجئين السوريين في دمشق، النظام يزعم عودة 5 ملايين، صحيفة العربي الجديد، 20 تشرين الأول/ أكتوبر 2022، شوهد بتاريخ 20 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، الرابط: https://bit.ly/4aX7Mnb
[21]– كلمة الرئيس بشار الأسد في افتتاح المؤتمر الدولي حول عودة اللاجئين السوريين، سبوتنيك عربي، 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، شوهد بتاريخ 20 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، الرابط: https://bit.ly/3U7YnmK
[22] ) جنبلاط: العودة الجماعية للنازحين السوريين لن تتحقق في ظل رفض نظام الأسد، صحيفة بلدي، 18 آذار/ مارس 2029، شوهد في 14 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، الرابط : https://bit.ly/3vBjbZo
[23] – ثلاثة أسئلة لتوشيح ملابسات الضغط الحالي لعودة اللاجئين السوريين طوعًا إلى بلدهم، موقع الجزيرة، 3 أيار/ مايو 2023، شوهد في 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، الرابط: https://bit.ly/3HnQlye
[24] ) صفحة منسقو الاستجابة سوريا https://bit.ly/3U6d1dW
[25] ) صفحة منسقو الاستجابة سوريا https://bit.ly/3U6d1dW
علامات
المصدر: مركز حرمون للدراسات المعاصرة
rfcdnpUOYQ
Thank you for your sharing. I am worried that I lack creative ideas. It is your article that makes me full of hope. Thank you. But, I have a question, can you help me?