سميرة المسالمة
يقدّم الرئيس السوري عملية تدوير أجهزته الأمنية، ودمجها على أنها خطّة إصلاحية، تتوسّع تباعاً لتشمل جميع مؤسّسات الدولة، بهدف محاربة الفساد أو تطويقه، أي أن هذه الأجهزة، بدرجةٍ ما، (إذا صح القول إنها عملية إصلاحية حقيقية) باتت أمام عملية “تخلّي” من السلطة التي دعمتها عقوداً، وأفسحت لها المجال بممارسة كل أنواع التسلّط والهيمنة والتعدّي على حقوق السوريين وغيرهم، وحمتها من أي محاسبةٍ بقوانين ومراسيم رئاسية، منها تحت ظل قانون حالة الطوارئ، الذي كان ساريا منذ عام 1963 حتى تاريخ إلغائه، واستبداله بقانون رقم 19 لعام 2012 بشأن مكافحة الإرهاب. وأيضاً، محكمة أمن الدولة العليا التي جرى إلغاؤها واستبدالها بمحكمة مكافحة الإرهاب، وكلاهما بتعريفاتٍ فضفاضة قادرة على تنفيذ ذات الانتهاكات والتغول على حرّيات المواطنين في سورية وحتى خارجها.
إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية وقبلها “الحزب الحاكم” في هذه المرحلة هو استعداد لما يمكن تسميته “اليوم التالي”، الذي يستعجله النظام لمنع سقوط ما تبقّى من الدولة السورية، سواء كانت المعارضة تنوي التعاطي معه على هذا الأساس، أو تنظر إليه كمجرّد تلاعب أو تغيير شكلي، لن يغيّر من واقع فروع الأمن السوري وعملها شيئاً، لكنه على الصعيد الداخلي يقدّمه الرئيس الأسد عملية هيكلة تبدأ من نقطة القوّة التي يملكها النظام، واستخدمها خلال كل العقود الماضية لتثبيت حكمه والدفاع عنه، ولترويع الشعب السوري وتدجينه، ثم لكسر إرادة السوريين في الحرية.
ما يعني أن قطار التحوّل من الحرب العسكرية إلى حرب الخطوات الاستباقية لمتطلبات التغيير، والتأقلم، قد بدأت لدى منظومة الحكم في سورية، من مبدأ احتواء الضغط الدولي والإقليمي وتقديم هذه الخطوات بادرة حسن نيّة من النظام السوري إلى الأنظمة العربية، مقابل عملية التطبيع “المتعثرة”.
ومع أهمية هذا الإجراء داخلياً، وحاجة النظام السوري لتهدئة (واحتواء) الغضب الشعبي على ممارسات الأجهزة الأمنية، سواء بأسماء مسؤوليها المباشرين، أو شركائهم، من المتنفذين من “رجال الأعمال المحدثين” المسؤولين، أو الذين حملتهم المسؤولية، عن عمليات التلاعب في الأسواق الداخلية، وعمليات تصنيع المخدرات وترويجها، فإن أهمية هذه الخطوة تنبع من مكانتها لتسويق خطوات الأسد الإصلاحية خارجياً، خصوصاً أنها تأتي بالتزامن مع ملاحقة أسماء فاسدة نمت وترعرعت في ظل الحماية الأمنية، والشراكة مع متنفذين منهم، وأفرادٍ من عائلة الأسد، ومنهم شقيقه وزوجته، وهي تُقدّم دليل جدّية التعاطي مع ملف الانفلات الأمني على الحدود، وضمن عملية مكافحة تهريب المخدّرات (الكبتاغون) إلى دول الجوار.
وتشكّل الهيكلة الجديدة لمؤسّسات الدولة السورية وأجهزتها على اختلاف نشاطاتها خطة عمل واسعة النطاق للنظام، تمهّد لما يمكن تسميته انقلاباً من رأس النظام على أجهزته، التي يمكن أن تمتدّ إلى الجيش، والسلطتين التشريعية والقضائية، المصادرتيْن أساساً في معظم أعمالهما وقراراتهما من السلطة الأمنية، بهدف تقديم صورة جديدة عن الدولة المركزية لسورية، والتي تتشارك معه أطرافٌ كثيرةٌ في المعارضة في إبقائها على حالها من حيث الشكل والمضمون المؤسّساتي، في الوقت الذي يتنازعون فيه على ملكية السلطة، ومرجعيتها، سواء كان التفاوض على تسويةٍ لكامل سورية، أو تسوية تحافظ على سلطة قوى الأمر الواقع على سلطتها، في الأماكن التي تحكمها بسلطة السلاح.
يمكن القول اليوم إن الأسد يقدّم خيار الإصلاح في مؤسّساته المختلفة ليلحقها بتقديم عرض إصلاح دستوري محلي، بديلاً عن الإصلاح الدستوري الأممي، وهو يراهن على الوقت في قبول عرضه لعقد اللجنة الدستورية في دمشق، إذ يقيس على رهاناته السابقة على الوقت، في خضوع المجتمع الدولي لحرف مسارات القرارات الأممية، وتغيير اعترافاتها بكيانات المعارضة، من الاعتراف بالائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية ممثلاً وحيداً عن المعارضة الرسمية (2012)، إلى إدخال منصّات عديدة وتغيير المرجعية من بيان جنيف 1 إلى قرار مجلس الأمن 2254 الصادر عام 2015 إلى تعدّد مسارات التفاوض من مسار جنيف الذي ترعاه الأمم المتحدة، إلى مسار أستانة برعاية روسيا وإيران وتركيا الذي بدأ عام 2017 ولا يزال بجولاته الـ 21، وإلى مسار سوتشي (2018)، والذي حرّف مسار جنيف، واختصره بلجنة دستورية متعثّرة، تتحكّم بانعقاد جولاتها أو إلغائها دولة روسيا الداعم الرئيس للنظام السوري.
يدرك النظام أهمية خطواته وضرورة تسارعها في هذا الوقت، لأسبابٍ عدة، منها قراءته طبيعة المتغيرات الإقليمية بعد الحرب الإسرائيلية على غزّة، التي تستهدف إسرائيل بمجازرها التي ترتكبها في غزّة ترويع العرب، جميعهم، فلسطينيين وغيرهم، وضمان عدم تكرار الهزيمة النفسية التي لحقت بالإسرائيليين، جراء عملية 7 أكتوبر (2023)، والحاجة لبقاء نظامه ملزماً بضبط حدوده مع إسرائيل، كما كان الحال منذ نهاية حرب 1973، وهو ما يعزّز شعوره بانتصاره في معركة البقاء في السلطة برغبة إسرائيلية، اعتادت على تحييده من اعتداءاتها المتكررة على سورية، والإعلان عنها بأنها تستهدف الوجود الإيراني فيها.
ويحتاج الأسد في الوقت نفسه الإصلاحات لنزع ما لحق به من عار التهم التي تُلاحقه، سواء قتل السوريين من أجهزته العسكرية والأمنية، عبر التخلص من شهود المرحلة السابقة، وتغيير شكل هذه المؤسّسات وصلاحياتها، وتحميل أسماء محدّدة لعمليات تهريب “حبوب الكبتاغون”، التي عملت على زعزعة الأمن الاجتماعي والاقتصادي للدول العربية المستهدفة، مثل الأردن ودول الخليج وغيرهما.
ومن غير المستبعد أن يُجري الأسد عملية تغيير دستوري جديد، يرفض من خلاله الخطوات الاستباقية التي أجرتها “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية” والتي أقرّت عقدها الاجتماعي، وجعلته بمثابة دستور محلي ناظم لنحو ثلث مساحة سورية، حيث يعي النظام الحاكم في دمشق معنى أن يمتلك أيُّ كيانٍ داخل الدولة الهشّة (كما هو حال سورية اليوم) “دستوراً محلياً” لم ينشأ نتيجة تسوية شاملة، وبالتالي، صعوبة تقليص حيّزه الدستوري لاحقاً، وهو ما عملت عليه الإدارة الذاتية لتكون رقماً صعباً في أي تسويةٍ لا تأخذ بوجودها وشروطها في الواقع السوري، ما يعني أن المعارضة والنظام اللذيْن حيّدا “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) من المشاركة في اللجنة الدستورية، قد يكونا الخاسريْن في معركة التفاوض على الدستور، سواء لدولة مركزية أو لا مركزية، إذا حصلت الإدارة الذاتية على أي اعترافٍ دوليٍّ أو حمايةً لدستورها وحيزه الفاعل.
وعلى الرغم من إعلان نظام الأسد انتصاره على معارضته، فإنه يدرك أنه انتصار وهمي، أو يمكن تسميته “انتصار الهزيمة”، لأنه بالمقارنة مع واقعه قبل عام 2011 يبقى أكبر الخاسرين في سورية، بعد عموم الشعب السوري الذي قُتل واعتُقل وتشرّد في أصقاع العالم، وبات يعيش بعضه تحت خيامٍ لا تقيه حرّ الصيف ولا برد الشتاء.
وفي ظل ما آلت إليه الأوضاع الأمنية والمعيشية والاقتصادية والخدمية التي تُنذر بهزيمة الدولة ككل واحد، فإن التأخّر في إنجاز التسوية الشاملة والعادلة للسوريين، من أي طرفٍ كان، هو بمثابة إعلان موت لدولة “سورية” الواحدة، لمصلحة بقاء انقسامها الحالي على أربع كيانات منزوعة السيادة، والأنياب ومقوّمات الحياة جميعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية (سورية النظام السوري، والمناطق المحرّرة، ومنطقة حكم جبهة تحرير الشام، والإدارة الذاتية) على اختلاف درجات الاعتراف، وتبعيّاتها، وسوء الحياة فيها، والانتهاكات لحقوق الانسان، وغياب العدالة.
المصدر: العربي الجديد