أحمد مظهر سعدو
تدعي إيران أنها مازالت تشاغل (العدو الصهيوني) ببعض القذائف والمفرقعات، التي تنطلق من جنوب لبنان تارة، أو من لدن الحوثيين الأتباع، أو عبر المليشيات العراقية وغير العراقية المتواجدة احتلالًا على الأرض السورية، منذ أكثر من ١٢ عامًا خلت. وتدرك إيران/ الملالي أن ما تفعله، رغم أنها تتأنى به جيدًا، وتحسب كل الحساب لأي تحرك عسكري، تقوم به عبر وكلائها في المنطقة من أن لا يؤدي إلى اللعب بالنار، وهي لا تريده كذلك، ولا تتمنى أن يتحول إلى حرب مفتوحة بينها وبين الأميركان، أو بينها وبين الإسرائيليين ..من هنا فقد سارعت إيران كثيرًا للإعلان عن أنها تقوم بسحب معظم ضباطها الكبار والأمنيين المتواجدين في سورية، إبان عملية بالمسيرات استهدفت البرج ٢٢ الأميركي الموجود شمال شرق الأردن، وأدت إلى مقتل ثلاث عناصر أميركيين وإصابة ما ينوف عن 34 منهم، واتهمت بها فصائل عسكرية تابعة لمليشيا الحشد الشعبي العراقي، التي تأخذ أوامرها وتمويلها وتدريبها وعتادها من النظام الحاكم في طهران ،والولي الفقيه في إيران . عندما تؤكد إيران أنها بصدد سحب ضباطها أو أنها قد سحبتهم بالفعل، كما تدعي، فإنها بذلك إنما تريد التهدئة مع الأميركان، وإدارة (جو بايدن)، وتود وترجو منهم أن يتحملوا عبثها بالمنطقة، وهي تحلف الأيمان صبحًا ومساء على أنها لا تعلم وليس لها أية علاقة بمن ضرب البرج الأميركي ٢٢، وأن لا علاقة لها بالمليشيات الشيعية الموجودة في سورية والعراق، وهي ما انفكت تقول نفس الشيء عن علاقاتها بالحوثيين الذين يلعبون بالنار في البحر الأحمر وباب المندب، وقد يؤدي هذا اللعب إلى مالا يحمد عقباه.
القارئ للسياسة الإيرانية عبر عشرات السنوات يستنتج التالي: إن كل أطماع الإيرانيين وتمددهم في المنطقة وخاصة الجوار العربي محسوبة وحذرة كل الحذر، فهي تريد لمشروعها الفارسي الطائفي أن يتمدد ويكبر ويهيمن بقوة، ويسيطر على المزيد من العواصم العربية في الإقليم، بعد أن هيمن على أربع منها، وهي بغداد، دمشق، بيروت وصنعاء. لكن إيران مدركة تمام الإدراك أن الأمن القومي الإسرائيلي ومعه الأميركي خطاً أحمر، سوف تحافظ عليه، ولن تسمح لما يسمى حرسها الثوري الإيراني، ولكل أدوات حلف (الممانعة والمقاومة) من التعدي على تفاهمات الأمن الإسرائيلي، أو تخطي قواعد الاشتباك، حتى لو تم مسح قطاع غزة عن بكرة أبيه، وهو ما يجري فصولًا مأساوية اليوم، وفي وضح النهار، أما سياسة الفرجة الإيرانية المتبعة، وعري وانكشاف السياسات الإيرانية. وبالرغم من كل الاستهدافات الإسرائيلية، أو الاميركية للكثير من مواقع تابعة للحرس الثوري الإيراني وتوابعه، في الجغرافيا السورية أو في لبنان.
إيران/ الملالي (عاقلة) كما يسميها بعض الساسة في دول الغرب، وهي لن ترد على أي استهداف أميركي أو إسرائيلي مادام ضمن أراضٍ ليست أراضيها، سواء كان في سورية أو لبنان أو العراق أو حتى اليمن/ جماعة الحوثي. وهي التي عملت طويلاً ومنذ انتصار ما يسمى بالثورة الإسلامية الإيرانية أواخر السبعينيات من القرن الفائت، على تصدير الثورة وإعلاء سور وبنيان مشروعها الفارسي الطائفي، الذي تريده أن يعيد تشييد وبناء صرح الامبراطورية الفارسية المنهارة على يد العرب المسلمين، إبان الفتح العربي الإسلامي، وإزاحة صولجان (كسرى أنو شروان) وإهالة التراب على الامبراطورية البائدة تلك.. كذلك فهي اليوم تعمل على إعادة قيامة تلك الامبراطورية وبكل ما أوتيت من قوة، وهي تحقق بالفعل الكثير من حالات التمدد على هذا الطريق في ظل صمت دولي مريب وغريب، وتخبط عربي رسمي غارق في إشكالاته، ينزاح باتجاه حل خلافاته البينية، دون الاهتمام الكافي بالتصدي لمشروع خطير لعله يماثل المشروع الصهيوني في خطورته على العرب بكليتهم، إن لم يكن أشد خطرًا.
إذا وضمن هذه السياقات والأنساق الواضحة، لن تكون هناك أي حرب مفتوحة بين الأميركيين والإسرائيليين من جهة، والإيرانيين من جهة أخرى، ولن تكون أحوال وحالات اللعب بالنار متاحة لفترات طويلة، واليد الطولى الأميركية سوف تتحرك وتقوم بالعديد من العمليات الجراحية الاستئصالية ضد أدوات إيران ومجساتها في المحيط الإقليمي، دون أن تدخل في حالة اشتباك عسكري مباشر مع الإيرانيين، ويبدو أن السياسة الإيرانية تقدر ذلك، وتنظر إليه وفق الرؤيا النفعية البراغماتية المصلحية طويلة المدى، مع الأميركان وإسرائيل والغرب عموماً، ومازال كل قادة حلف الممانعة والمقاومة، يحسبون كل الحساب لتحركاتهم هذه، ويصمتون عندما يكون الصمت ضرورة، ذاك (الصمت الاستراتيجي) وهم يتلقون الضربات العسكرية تلو الضربات، سواء عبر استهداف قادة عسكريين وأمنيين لهم، أو عبر تدمير البنى التحتية في الكثير من توضعاتهم ضمن الجغرافيا السورية واللبنانية كذلك.
وما هو ملاحظ مع كل تحرك عسكري لأدوات إيران في المنطقة، تكون إيران/ الملالي حريصة على ألا يكون لعبًا جديًا في النار، بل ضمن الحدود والمساحات المتفق عليها والمتاحة والمسموحة أميركيًا وإسرائيليًا، ويبدو أن إيران مازالت وبحرص كبير هذه المرة، تتابع أدواتها كل المتابعة، من أجل أن لا يساهموا عبر عملياتهم غير المنضبطة على أن يجروا الحلف (الممانع والمقاوم) إلى حرب طاحنة وكبيرة، لا تريدها إيران وليست بواردها، كما انها لا تدخل ضمن أهدافها الاستراتيجية، ولن تسمح بها أو تتورط ضمن مفاعيلها الدراماتيكية. ولعل القول إن إيران اليوم سحبت ضباطها من سورية، هو بمثابة تهدئة، وطلب السماج من إسرائيل وأميركا قبلها. علمًا أن الجميع بات يدرك كذب هذا التصريح والادعاء، لأن إيران لا يمكنها أبدًا أن تتخلى عن مشروعها المهم في سورية، ولن تتراجع بسهولة، عن ذلك، لكنها بكل تأكيد تود أن تستوعب أميركا وتتفهم حرص إيران الدائم على عدم التصعيد، بل هي أيضًا مستعدة للكثير من التفاهمات الجديدة مع الأميركان والإسرائيليين أيضًا.
المصدر: موقع المجلس العسكري السوري