إنجي مجدي
لماذا باعت أنقرة طائراتها من دون طيار للقاهرة؟ وما دلالة إعلان الصفقة قبل زيارة الرئيس التركي لمصر؟
في ناغورنو قره باغ، كان للمسيرة التركية “بيرقدار تي بي 2” دور رئيس في استيلاء أذربيجان على أراضي الإقليم الذي تسكنه غالبية من الأرمن وحسم المعركة لصالح باكو، وفي ليبيا استطاع حلفاء أنقرة في العاصمة طرابلس ترجيح الكفة لصالحهم بفضلها بعد أن كادوا يخسرون أمام خصومهم في الغرب الليبي، كما لعبت المسيرة دوراً مهماً في الصراعات التي خاضتها تركيا ضد خصومها خلال معركتي “درع الفرات” و”غصن الزيتون” في سوريا.
حققت أنقرة مبيعات لافتة من المسيرة التي بدأت تطويرها في 2007، لا سيما في أفريقيا، إذ أعلنت شركة “بايكار” المنتجة للمسيرة مبيعات بقيمة 1.18 مليار دولار عام 2022، وهي الأولى في تاريخ صناعة الدفاع التركية.
وقريباً ستنضم سماء القاهرة إلى قائمة الأجواء التي تحلق فوقها المسيرة التركية، في تحول لافت بالعلاقة بين البلدين اللذين كانا بالأمس في قطيعة استمرت نحو عقد، إذ كشف وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، في مقابلة تلفزيونية الأسبوع الماضي، عن أن بلاده وافقت على تسليم مسيرات قتالية إلى مصر.
التطبيع الكامل
إعلان صفقة المسيرات التركية جاء قبيل زيارة تاريخية للرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى مصر أمس الأربعاء، وهي الأولى منذ السقوط المدوي لحلفائه الإسلاميين، الذي أسفر عن صدع في العلاقات بين البلدين استمر نحو عقد حتى بادرت أنقرة مجدداً نحو تطبيع العلاقات بعد أن عانت عزلة إقليمية وصداماً مع جيرانها في أنحاء مختلفة، لا سيما على صعيد ملف غاز شرق المتوسط الذي غير المعادلة بالمنطقة، ودفع أردوغان للتراجع عن مواقفه المتشددة تجاه مصر أولاً وحتى السعي إلى التفاوض مع اليونان.
بيع المسيرات التركية للقاهرة كان متوقعاً في إطار سعي أنقرة إلى التطبيع الكامل للعلاقات الدبلوماسية مع مصر، لا سيما بعد بيع المسيرات نفسها لإثيوبيا التي ترتبط بعلاقة متوترة للغاية مع القاهرة في إطار قضية مياه النيل.
وباعت تركيا مسيرات “بيرقدار تي بي 2” لأديس أبابا في 2021، في خضم اشتباك دبلوماسي بين البلدين الأفريقيين في شأن سد النهضة، وخلال حرب أهلية طاحنة بإقليم تيغراي الإثيوبي، حيث كان للمسيرات التركية جنباً إلى جنب مع الصينية والإيرانية دور بارز في الحرب التي أسفرت عن مقتل نحو 600 ألف مدني وفق تقديرات الباحثين في جامعة غينت البلجيكية.
وخلال العامين الماضيين، شكل التعاون العسكري المتزايد بين تركيا وإثيوبيا عقبة كبيرة أمام تطبيع العلاقات مع مصر، ففي 2023 وبينما لا يزال الصدام متصاعداً بين القاهرة وأديس أبابا، وافقت تركيا على اتفاق عسكري مع إثيوبيا يسمح بإجراء تدريبات عسكرية مشتركة والتعاون في مجال صناعة الدفاع، مما أثار انتقادات داخل البرلمان التركي من نواب المعارضة الذين يرون أنه يتعارض مع جهود تركيا لإصلاح العلاقات مع مصر.
ومثلما تعاملت مع المغرب والجزائر، توقع مراقبون منذ أشهر أن تعرض أنقرة على القاهرة شراء مسيرات بيرقدار أو غيرها من المسيرات في محاولة لإظهار حيادها في شأن نزاع سد النهضة، وفي الوقت نفسه الذهاب بالعلاقات مع مصر إلى نحو أعمق.
وخلال معرض “إيديكس” 2023 في القاهرة، عرضت شركة بيكار التركية مسيرتها القتالية “بيرقدار تي بي” (يو سي أيه في)، وهي المرة الأولى التي تشارك فيها شركة تركية بالمعرض الدولي للصناعات الدفاعية والعسكرية.
وكان المغرب اشترى نحو 13 مسيرة “تي بي 2″، واتهمته الجزائر باستخدامها في هجوم غامض في نوفمبر (تشرين الثاني) 2021، أسفر عن مقتل ثلاثة من مواطنيها بمنطقة الصحراء الغربية المتنازع عليها بين البلدين.
وأصرت أنقرة على أنها لا تنحاز إلى أي طرف في نزاع البلدين من خلال بيع طائرات من دون طيار للرباط، وأخبرت الجزائر أنها يمكنها أيضاً شراء المسيرات التركية، ونتيجة لذلك اشترت الجزائر 10 مسيرات مسلحة من طراز “أنكا-أس”. على عكس “بيرقدار تي بي 2” التي تنتجها شركة بايكار الخاصة التي يديرها صهر الرئيس التركي، يتم إنتاج مسيرات أنكا من شركة صناعات الفضاء التركية المملوكة للدولة (TAI).
دبلوماسية المسيرات
يقول مراقبون إنه ليس سراً أن الرئيس أردوغان يستخدم المسيرات العسكرية كأداة في السياسة الخارجية، ويقدم لدول أفريقيا والشرق الأوسط على وجه الخصوص عروضاً مربحة للجانبين، لا تدر المال على الشركة العائلية فحسب، بل أيضاً تشدد يده على خصومه في الخارج.
ويستفيد أردوغان وأفراد عائلته وشركاؤه التجاريون بشكل كبير من مبيعات الصناعات الدفاعية والسلع العسكرية، فسلجوق بيرقدار، أحد مالكي شركة بايكار، هو صهر أردوغان، ولا تكتفي شركته بالاستفادة من جميع مرافق الدولة فحسب، بل تحقق أيضاً أرباحاً عالية من خلال بيع الأسلحة في الأسواق المحلية والدولية.
ويكمن أحد العوامل المهمة لنجاح مبادرات تركيا لزيادة الصادرات الدفاعية خلال السنوات الأخيرة، التي تسمى أيضاً “دبلوماسية المسيرات”، في تركيز تركيا على الأهداف التجارية بدلاً من كيف وضد من سيتم استخدام هذه الأسلحة، كما لا تستغرق صفقات الأسلحة في تركيا عملية طويلة للموافقة على تصدير المنتجات الدفاعية، على عكس الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
ويقول أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية لدى جامعة يدي تبيه في إسطنبول فولكان إبيك، إن مبادرات تركيا نحو مصر تمثل رغبة في تحسين موقفها بمشاريع غاز شرق المتوسط، إذ تتمتع مصر بقدرة على لعب دور، كما يرى أن أردوغان يسعى إلى استمالة السيسي كحليف على صعيد عديد من القضايا الإقليمية خصوصاً بالنسبة إلى حرب غزة.
إنتاج دفاعي مشترك
وبالنظر إلى اهتمام مصر بتطوير صناعة المسيرات، فربما يتفق البلدان على إنتاج دفاعي مشترك يشمل عمليات نقل للتكنولوجيا.
والتقى وزير الدولة للإنتاج الحربي محمد صلاح الدين ورئيس الصناعات الدفاعية التركية هالوك غورغون، في السادس من فبراير (شباط) خلال معرض الدفاع العالمي في السعودية، إذ ركزوا على آفاق التعاون بين البلدين على صعيد صناعة الدفاع.
وخلال اللقاء سلط الوزير المصري الضوء على زيارة سابقة لوفد مصري لثلاث شركات تركية في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، معرباً عن رغبة مصر في الشراكة مع الشركات التركية على صعيد إنتاج الذخائر.
ويقول معهد ستراتفور، المتخصص في قضايا الأمن، إنه إضافة إلى أن بيع المسيرات سيعمل على مزيد من تحسن العلاقات الثنائية بين البلدين، فإن الصفقة تزيد من تنويع الترسانة العسكرية المصرية، مما يوفر للبلاد مزيداً من المرونة لإجراء عمليات سرية في أماكن مثل السودان أو إثيوبيا.
وبما أن تركيا عضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، مثلها مثل الولايات المتحدة، فإن شراء الأسلحة من تركيا سيخفف الضغط الأميركي على القاهرة للتخلي عن شراء أسلحة روسية الصنع.
زيارة أردوغان للقاهرة
توجت زيارة الرئيس التركي لمصر عملية طويلة من السعي إلى تطبيع العلاقات مع نظيره المصري، فبعد سنوات من التصريحات التركية المعادية للرئيس المصري ذهب أردوغان في 2021 للإعراب علانية عن رغبته في عودة العلاقات القوية مع القاهرة، وانطلقت منذ ذلك الحين جهود مكثفة لإجراء اتصالات على مستويات دبلوماسية واستخبارية، فضلاً عن تكثيف العلاقات التجارية.
وكانت زيارة الرئيس التركي إلى القاهرة أمس الأربعاء الأولى منذ نوفمبر 2012، عندما كان أردوغان رئيساً للوزراء، للقاء الرئيس المصري آنذاك محمد مرسي. واستدعى البلدان سفيريهما بعد تولي عبدالفتاح السيسي الحكم في عام 2013 إذ اعتبرت أنقرة إطاحة حكم الإخوان “انقلاباً”.
وجاءت المحاولة التركية الأولى لإطلاق عملية استغرقت أكثر من عامين للتصالح مع القاهرة، في مايو (أيار) 2021، عندما زار وفد تركي مصر لمناقشة التطبيع. وفي نوفمبر 2022 تصافح زعيما البلدين للمرة الأولى على هامش كأس العالم لكرة القدم في قطر، ثم تحدثا عبر الهاتف في أعقاب زلزال مدمر ضرب تركيا في فبراير 2023، وفي يوليو (تموز) من العام نفسه، أعلن البلدان إعادة العلاقات الدبلوماسية بينهما لمستوى السفراء.
تعاون أوسع في المنطقة
يقول أستاذ تاريخ العالم بالجامعة الأميركية في العراق والزميل لدى معهد الشرق الأوسط في واشنطن بارين كايا أوغلو، إن الزيارة والتعاون الدفاعي المتنامي بين البلدين قد يكون إشارة إلى زخم جديد في المنطقة، مضيفا أن مصر وتركيا تجمعهما نقاط مشتركة، فكلاهما يقعان جغرافياً عند التقاء أوروبا وآسيا وأفريقيا، وتربطهما روابط ثقافية واسعة ولديهما كثير ليربحاه من خلال المواءمة معاً بشكل أوثق.
وأوضح “بالنسبة إلى تركيا، فإن التحالف مع مصر يعني التقارب للبلد العربي الأكثر سكاناً ومقر الجامعة العربية التي تتمتع بموقع مميز لدى الاتحاد الأفريقي، وأخيراً صرح مسؤولون أتراك بأن أنقرة ترغب في تعزيز علاقاتها مع مصر كنقطة انطلاق نحو تحسين العلاقات مع أفريقيا، لكن الأكثر أهمية هو محاولة تركيا ترسيم الحدود البحرية مع مصر، الذي من شأنه أن يمنحها ورقة مساومة في نزاعها مع اليونان وقبرص، للحصول على حصة من الثروات الهيدروكربونية شرق المتوسط”.
ومع ذلك يستبعد مراقبون أن تقوم مصر باتفاق لتعيين الحدود البحرية مع تركيا من شأنه إغضاب حلفائها التقليديين في أثينا ولارنكا اللذين ترتبط معهما باتفاقات ترسيم للحدود.
ويؤكد المراقبون أن مصر ستظل حازمة في شأن حماية التحالفات الحالية والامتثال للاتفاقات التي تم التوصل إليها بالفعل مع أعضاء منتدى غاز شرق المتوسط، وأبدت القاهرة أخيراً ما يؤكد هذا النهج، إذ عارضت بحزم في أكتوبر (تشرين الأول) 2022 الترتيب البحري الجديد بين أنقرة وحكومة الوحدة الوطنية في طرابلس، كما أن قرار القاهرة الأحادي الجانب بترسيم حدودها البحرية مع ليبيا في الـ11 من ديسمبر (كانون الأول) كان بمثابة رسالة مباشرة لأنقرة تؤكد من خلالها القاهرة أن أي تقارب مع تركيا لن يغير السياسة المصرية بشكل كبير في شرق المتوسط.
وكان السفير المصري السابق لدى أنقرة عبدالرحمن صلاح الدين أوضح لنا في مقابلة سابقة “أن مصر لن تقبل قط بتجاهل حقوق قبرص أو اليونان، وموقف تركيا أكثر ضعفاً وتعقيداً نظراً إلى اتفاق لوزان الذي حصر الحدود البحرية لتركيا في ثلاثة أميال فقط، ومنح كل الجزر لليونان”. ومع ذلك أكد صلاح على الدور الذي يمكن لمصر أن تلعبه لدعم الحوار بين تركيا واليونان وقبرص، إذ ترتبط مصر بالدولتين الأوروبيتين بعلاقات تاريخية قديمة للغاية ومصالح مشتركة.
ويرى كايا أوغلو أن أنقرة يمكن أن تكون ثقلاً موازناً جيداً للخطط الجيوستراتيجية للقاهرة، كما تحتاج إلى البلدين من أجل التعاون في وسط منطقة تعصف بها الصراعات. ومن جانب آخر فإن تركيا حليف للصومال، ودانت بشدة اتفاق إثيوبيا والمنطقة الانفصالية “أرض الصومال” لاستئجار قاعدة بحرية تطل على البحر الأحمر، وهو الاتفاق الذي أثار غضب القاهرة أيضاً. وفي الثامن من فبراير استضاف وزير الدفاع التركي يشار غولر نظيره الصومالي عبد القادر محمد نور، إذ وقعا اتفاق شراكة على صعيد الدفاع ومكافحة الإرهاب.
المصدر: اندبندنت عربية