نبيل عبد الفتاح
أدت النزاعات العربية – العربية حول الحدود السياسية ما بعد الاستقلال، وعلى مناطق الثروات النفطية، والطبيعية، إلى إنتاج الفجوات بين السلطات السياسية الحاكمة، وإلى تنامى ثقافة الكراهية بين بعض المكونات الاجتماعية من الشعوب إزاء بعضها بعضًا.
الأهم هو الصراعات السياسية، والإيديولوجية، التي تم توظيف أجهزة النظم الشمولية والتسلطية لأجهزتها الإيديولوجية والرمزية، والإعلامية، في هجاءات السلطات الحاكمة بعضها بعضًا، وهو ما أدى إلى تفاقم بعض من ثقافة الكراهية بين الشعوب بعضها بعضًا، وخاصة في ظل مجتمعات انقسامية سعت الطبقات السياسية الحاكمة، والموالين لها، أن تجعل من الصراعات مع السلطات السياسية الحاكمة المعادية لها، أو التي تختلف مع سياساتها، أحد أدواتها في تحفيز رهاب الخوف والخطر ، من النظم والشعوب الأخرى، وذلك لخلق حالة من التعبئة السياسية والاجتماعية للسيطرة الأمنية على شعوبها من خلال الخوف والكراهية.
لا شك أن السياسات الخارجية، والإعلامية العدائية في العالم العربى أدت إلى التأثير السلبى على الأفكار العربية الجامعة، مثل العروبة، وهو ما استخدمته بعض الحركات الإسلامية السياسية، في توظيف تأكل الفكرة العربية الجامعة سياسيا وثقافيا ودينيا، في طرح مفهوم الجامعة الإسلامية والخلافة، في سياقات إيديولوجية مع حركة المد الإسلامي المعاصر، والتشكيك في فكرة الدولة الوطنية ما بعد الكولونيالية، كمدخل إيديولوجى، في جحد، ورفض شرعية النظم السياسية الشمولية والتسلطية ما بعد الاستقلال عن الاستعمار الغربى.
من الملاحظ أن الفكرة العربية الجامعة تمددت ووجدت حواضن شعبية نسبية لها، في مراحل هيمنة الاستعمار الغربى -الفرنسي. والبريطانى والايطالى، للعالم العربى، ووظفته كأحد أدوات المقاومة، مع الدين الإسلامي، واللغة العربية، والخصوصات الثقافية المحلية. من ثم كان اهتمام بعض المتعلمين، ورجال الدين والسياسة، بما يحدث في المجتمعات العربية الأخرى، وخاصة التي حاولت، أن تفتح طريقا نحو بناء الدولة الحديثة، واستعارة بعض هندسات الحداثة الدولتيه، في النظم القانونية الوضعية الغربية -على المثال اللاتينى الايطالى والفرنسى والبلجيكى-، والنظم الإدارية، والسعى إلى الانفصال والتمايز عن الكولونيالية العثمانية، والغربية، وذلك وفقا للنموذج المصرى التاريخى، منذ دولة محمد على والخديو إسماعيل باشا.
شكل النموذج المصرى التاريخى للحداثة المهجنة ببعض من الثقافة الإسلامية، ثم التوجهات شبه الليبرالية، أحد استلهامات حركات المقاومة العربية الساعية للاستقلال الوطنى في العالم العربى على الرغم من خصوصيات الشعوب العربية الثقافية والتاريخية.. إلخ. كانت الحالة المصرية مصدرا للإستلهام السياسى والثقافى والاجتماعى، ومن ثم كانت مصدرًا للتقارب بين الشعوب، واستمداد المعلومات والأخبار، وخاصة مع تطور الحركات الأدبية، والسياسية، والموسيقية والفضائية والسينمائية، والتشكيلية، ومعها العامة العامية المصرية، وهو ما شكل أحد حوافز الجوامع العربية المشتركة، مع الدور الذى لعبه الشوام -اللبنانيين والسوريين- في الأنشطة الثقافية، والفنية المصرية، ومعهم العراقيون، وخاصة في مجال الحداثة الشعرية العربية.
لا شك أن التفاعلات الثقافية البينية العربية ساهمت في تشكيل بعض من الموحدات الثقافية، والسوسيو-نفسية بين بعض المكونات الاجتماعية في المشرق، والمغرب العربى على خصوصيته. من المثير أن عصر الجموع الغفيرة، وثورة المواصلات والسفر من بلد عربى إلى أخر -آيا كانت الأسباب- ساهم في بعض التعرف على بعض جوانب الحياة والثقافة والقيم في المجتمعات العربية، وخاصة من أبناء الطبقة الوسطى العليا، والوسطى – الوسطى، إلا أنه مع تزايد موجات الهجرة سعيا وراء الرزق إلى دول النفط، أدت إلى تزايد التفاعلات بين العمالة العربية بعضها بعضا، وادي ذلك إلى تفاقم بعض الفجوات النسبية والاجتماعية بين بعضهم، وذلك للتنافس في العمل، ومحاولة بعضهم إزاحة الأخرين أمام الكفلاء، وأرباب الأعمال.
من ناحية آخرى، أدت الثروة المالية لدى بعضهم في إقليم النفط إلى ممارسة بعض من الاستعلاء المالى، والقطرى على بعض العمالة القادمة من الدول العربية المعسورة، وهو ما شكل فجوات نفسية، وبعض من ثقافة الكراهية على نحو أثر سلبا على الفكرة العربية الجامعة، وخاصة في إنماء مشاعر سلبية مضادة، بين بعض أبناء الجاليات العربية من العمالة إزاء بعضهم بعضًا، وهو ما تحول إلى بناء تصورات وإدراكات سلبية، وصور نمطية حول بعض ابناء الشعوب العربية إزاء بعضهم بعضًا، على الرغم من أن العمالة في إقليم النفط لا تمثل إلا شرائح اجتماعية صغيرة من الشعوب العربية. من ناحية أخرى ازدياد معدلات الثراء والقوة المالية لدول اليسر المالى العربى، كأحد نتائج حرب أكتوبر 1973، وأدى ذلك إلى ممارسة بعض النظم العائلية الحاكمة لبعض من الضغوط على دول العسر المالى والاقتصادي العربى، الذي تحول في العقود الأخيرة إلى محاولة إزاحة الدول العربية الكبرى -ذات الثقل والوزن التاريخى والسياسى والسكانى- عن مكانتها في الإقليم، وذلك لطموح الأجيال الجديدة من حكام هذه الدول للعب أدوار إقليمية ، في ظل حالة من الاضطراب وعدم الاستقرار الإقليمى.
أدت الثورة الرقمية، وعالم التواصل الاجتماعى، وعصر الجموع الرقمية الغفيرة، إلى بعض فيضان من الكتابات الهجائية إزاء بعض الشعوب، والحكام في المنطقة العربية، وإطلاق أحكام القيمة السلبية، والانطباعية، والشعاراتية، دونما معلومات، أو ارتكاز على بحوث علمية وموضوعية، وهو ما فاقم الفجوات بين بعض من هذه الجموع الرقمية الغفيرة مع بعضها بعضا، والأسوأ أن بعض من النخب السياسية غير المسؤولة في بعض هذه البلدان توظف الوسائط الاجتماعية الرقمية، في بث خطاب المنشورات والتغريدات والفيديو الطلقة الوجيز، الحامل للهجاءات والأحكام السلبية على بعض المجتمعات العربية المعسورة وقادتها، وخاصة على سياساتها الخارجية، أو الداخلية، في نمط من الاستعلاء القبلى، على هذه النظم والمجتمعات المعسورة اقتصاديا وماليا.
أدت عملية طوفان الأقصى، والحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وقتل 30534، و71920 مصابا حتى الآن إلى إحياء نسبى للمسألة الفلسطينية، وإلى عودة إلى الحس العربى الجماعى، إزاء الفلسطينيين ومأساة الإبادة الجماعية، والمجازر والتجويع للمدنيين، ودعم ثقافة وحركة المقاومة الفلسطينية ضد حرب الإبادة، على الرغم من التحفظات من بعضهم على السلطة الحمساوية، وممارساتها السلطوية في القطاع، وإزاء المخالفين أو المعارضين لها.
ساهمت وسائل التواصل الاجتماعى في الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، في ملء فجوات بين بعض نشطاء مواقع التواصل الاجتماعى، وبين بعض التيارات العربية حول موقفها الفعلى من الحرب، وإزاء إسرائيل، والدول الداعمة لها، وخاصة الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا، وخاصة دول اتفاقات “إبراهام”! في حين ازداد الحس الجمعى السوسيو – نفسى المشترك بين غالب الشعوب الشعوب العربية مع بعضها بعضا حول المسألة الفلسطينية، وضرورة عودتها كأحد أبرز قضايا العالم العربى، بعد تهميشها عربيا وإسرائيليا وأمريكيا.
ازداد اهتمام غالبُ الجماهير العربية -آيا كانت انتماءاتها الاجتماعية والسياسية- بضرورة استقلال فلسطين، وبناء الدولة المستقلة التي احتلت بعد العدوان الإسرائيلي على مصر، وسوريا، والضفة وقطاع غزة في 5 يونيو 1967، وعاصمتها القدس الشرقية.
لا شك أن صحوة الشعور الجمعى العربى بالقضية الفلسطينية، سيؤدى إلى ردم بعض الفجوات التي تشكلت في أعقاب ثورة عوائد النفط، الناتجة عن حرب أكتوبر 1973، وهو ما قد يساعد إلى إحياء جزئى للعروبة الثقافية والموحدات اللغوية والدينية والثقافية والتنمية العربية، على الرغم من الخصوصيات الثقافية بين هذه الشعوب.
لا شك أن المسألة الفلسطينية، كانت واحدة من أبرز قضايا العالم العربى، ما بعد الاستقلال، ومن ثم تشكل حرب الإبادة على الفلسطينية في قطاع غزة وضحاياها من القتلى والجرحى، أحد أبرز العوائق السوسيو-ثقافية والسوسيو-دينية، والأخلاقية إزاء سياسة التطبيع، والوجوه الأخلاقية الجريحة والشوهاء لإسرائيل، والولايات المتحدة، والدول الأوروبية المساندة لها، والمناقضة للقيم الليبرالية وحقوق الإنسان ، وقد تفتح الأبواب أمام موجات جديدة من العنف السياسى والدينى في بعض هذه المجتمعات الأوروبية، والأمريكية، وموجات من ثقافة الكراهية والإسلاموفوبيا من اليمين المتطرف، والصهيونية المسيحية في الولايات المتحدة، تحت مزاعم معاداة السامية، لا معاداتهم للإسلام والعرب.
المصدر: الأهرام