بسام شلبي
يا بلادي ما كنتِ معتزلةً
و لا وضعتِ يوماً حجاباً
و لا اتخذتِ مكاناً قصياً
و ما كنتِ عاقراً
و لا كنتِ ناسكةً
أو متسوّلة ًعلى بابِ تكيةْ
كنتِ طفلةً عذراءَ
تركضُ في البراري
تجمعُ ألوانَ الفراشاتِ
وأصواتَ العصافيرِ
و روائحَ الياسمينِ
حينَ راودتكِ الريحُ
فنفختْ فيكِ من روحِها
فحملتِ في ليلةٍ شتويّةْ
و جاءكِ المخاضُ ذاتَ ربيعٍ
و طالَ أياماً و ليالٍ..
و سنينَ.. عصيا
لم تسمعْ صراخكِ الغاباتُ
و لا بكتْ عليكِ الغيومُ
و لم تخرّ الجبالُ..
من الهولِ مَغشية
هَززتِ جذوعَ النخلِ كلَّها
فتساقطتْ عليكِ قنابلَ..
و رصاصَ بندقية
وَضَعتْ كلُّ ذاتِ حملٍ حَملَها
إلا أنتِ يا أماه!!
فلا وضعتِ حَملَكِ
و لا عُدتِ بشراً سويا
لَمَزَكِ الأقاربُ كلُهم
و مزقوا جلدكِ
وأكلوا لحمكِ
ميتةً و حيّة
قالوا: هذا حملٌ حرامٌ..
وقالو: .. و قالو: ..
لقد جئتِ شيئاً فريا
و أنتِ وحدكِ منْ تعرفينَ
ماذا وهبتكِ السماءُ
و روحُ الندى
قُدساً في رحمكِ
وأنت وحدكِ من تعرفينَ
ماذا تحتوي الأحشاءُ
وإن كان فهمه عصيا
يا أختَ التاريخِ
يا أمَّ الحضارةِ
ما كنتِ جاهلةً
ولا كنتِ غبية
لكنّكِ تؤمنينَ بالغيبِ
وجنونِ الأقدارِ
وكم كان قدرُكِ غبيا
فلم يعرفَ مِقدَاركِ
و لم يعرفَ أحزانكِ
و لا شبقَ الناياتِ
حينَ تنفثُ لحناً شجيّا
و قدرُكِ الحياةُ
وإن كان الموتُ فاغراً فاه
يمشي خبطَ عشواءٍ
و قد أترعَ كأسَ المنية
لا الجوعُ يهزمكِ
و لا البردُ يقهركِ
و لا البأساءُ و الضراءُ
كانتْ لكِ لباساً قَدرِيا
و أنا هجرتكِ
و نسيتكِ
ثم نسيتكِ
ثم هجرتكِ مليا
ركبتُ البحارَ
قطعتُ الحدودَ
و تهتُ في الصحراءِ
و لم أكنْ وفيا
هجرتك ثلاثة عشر قرناً
هرمتُ.. هرمتُ..
و اشتعلَ الرأسُ شيباً
و وهنَ العزمُ مني
و قد بلغتُ من الكبرِ عتيا
شربتُ كؤوسا لا حصر لها
كي أنساكِ
و جربتُ الأَسرّةَ كلها
كي أنامَ في غيرِ حضنكِ
و بقيتِ في خيالي
وسواساً قهريا
جربتُ كلّ المهدئات
كل التسليات
و كل الحماقات
و لم أُبقِ شيا
طعنتُ خارطتكِ
طعناتٍ لا حصرَ لها
فلا أنا مِتُ
و لا أنتِ صرتِ
نسياً منسيا
ومازالَ في جوفكِ
يتمطّى
ارتدادُ زلزالٍ
وشبلُ بركانٍ
وليس صِدِّيقاً نبيا