محمد علي صايغ
بما أن حركة الصراع السياسي والاقتصادي والاجتماعي وتفاعلاته في كافة المجتمعات والأمم لا تتوقف.. وأن الاستقرار والاستمرار وبقاء الحال من المحال، ويتناقض مع حركة التاريخ التي هي دائماً في حالة تغير وتقدم، وتمر بمنعطفات استثنائية قد تشد الى الوراء أو تتقدم بعيداً إلى الأمام، أذ تبقى حالة السكون عارضة في حياة البشر. فالأمم في مراحل حياتها بحاجة دائماً لتغيير ما تقادم في بنية مجتمعاتها والسير نحو التقدم واللحاق بالتطور الذي يحصل حولها، وإلا فإنها ستبقى على هامش صناعة التاريخ الإنساني.
ولكن كيف يمكن أن يحدث هذا التغيير وهل يمكن استيعابه وضبط مآلاته؟ وهل يتم التغيير من فوق من داخل السلطة عبر صراعاتها الداخلية بما قد يؤدي الى انهيار بنيتها الصلبة، أو الاتجاه الى انقلاب عسكري يفتح الباب أمام مرحلة جديدة؟ أم لا بد من ثورة شعبية؟ وكيف يمكن أن تنجح الثورة وتستمر بدون ارتدادات أو ثورة مضادة تهدر كل الجهود والتضحيات وتمنع الوصول إلى التغيير المأمول؟
لقد مرت الدولة السورية بمراحل وأطوار منذ بداية القرن الماضي، أثناء وبعد الانتداب الفرنسي الذي أسس السلطة السورية على أساس طائفي وإثني، وصنع الجيش السوري عبر ما سمي ” قوى الشرق الخاصة ” المستند على بنيةٍ أقلويةٍ في مواجهة أي تغيير شعبي يطيح بامتيازاته أو يسعى لإنجاز قواعد ديمقراطية في الدولة الجديدة.
وباستثناء مرحلة الخمسينيات العابرة في استنشاق المجتمع السوري لحياة ديمقراطية قاصرة ومحدودة زمنياً، لم تترسخ فيها القواعد والتقاليد الديمقراطية التي تمد القوى الشعبية بالقوة اللازمة للإمساك بها وتحصينها والدفاع عنها، فإن الانقلابات العسكرية وما رافقها من سيادة أنماط الحكم العسكري الديكتاتوري وارتباطه على الغالب بقوى خارجية قد خيم على المراحل اللاحقة وطبع السلطات المتعاقبة بطابعه.
وإذا كانت الانقلابات العسكرية المتلاحقة قد أمسكت برقاب الناس وتحكمت بمصير الدولة ومستقبلها، فإن تعدد الانقلابات – ولو شكلياً – قد فرض حالة من الحراك المجتمعي وآمالاً في تغيير محتمل لأوضاع الناس ما بين انقلاب وآخر …
وهنا لن نتوقف أو نرصد مراحل واطوار الحركة السياسية السورية سلطة ومعارضة وارتدادات ذلك على الواقع السوري.. ولكننا سنرصد هنا الثورة السورية الحديثة ومآلاتها، وما عجزت عن تحقيقه، ولماذا لم تحقق أو تصل إلى أهدافها في التغيير الوطني الديمقراطي؟؟ وما هو التصور الواقعي للتغيير اليوم؟؟
لم تأت الثورة السورية بدون إرهاصات تراكمية ، وإنما انطلقت بعد معاناة طويلة مع الاستبداد والفساد واحتكار السلطة وتغييب حضور القوى السياسية والمجتمعية وقوى المجتمع المدني عن أي دور أو فعل ، وفي انسداد الافق السياسي في الإصلاح والتغيير وتدهور الحياة الاقتصادية وفقدان الأمل للشباب في حياتهم ومستقبلهم ، وبعد تفتت البنى الاجتماعية وتصادمها ، وانتشار الفقر والبطالة والجريمة ، وانهيار التعليم والثقافة وفساد القضاء إضافة الى الشرخ الكبير بين الريف والمدينة وسيادة المحسوبيات والنافذين والمتنفذين في مفاصل الدولة وأجهزتها ….
انطلقت الثورة بروح وطنية سلمية وطالبت بالإصلاح السياسي ، ورفعت شعارات تنادي بالوحدة الوطنية وبالتغيير الديمقراطي ، لكنها جوبهت بالعنف المفرط خلف ضحايا ودمار ونزوح وتهجير ، خاصة بعد أن ركبت موجتها قوى دفعت بها إلى العسكرة والتطييف واعتمدت على أجندات خارجية لتتأسس منظمات وفصائل قتالية ، بعضها تقودها قوى ظلامية ، حملت شعارات الدعوة إلى الخلافة وأقامت الإمارات ودخلت في حرب دموية بينية حولت الثورة إلى حرب واحتراب داخلي ، وجعلت من الأرض السورية ملعب للقوى الخارجية تتصارع عبر وكلائها لتثبيت وجودها ونفوذها .. لتصل الثورة اليوم بعد دخولها السنة الرابعة عشر إلى ما وصلت إليه من تعثر وانقسام وتوهان في الرؤية والهدف، وعجز عن الإنجاز، وانقطاع الكثير ممن تنطح لقيادتها عن قاعدته الشعبية، بعد أن أوغلت تلك القيادات في الفساد والإفساد وجمع الثروات والإثراء على حساب حياة الناس ودمائهم.
ولقد أثبتت التجربة السورية فشل خيار الانقلابات في تحقيق الانتقال السياسي فهي مجرد انتقال للسلطة من زعيم عسكري ديكتاتوري إلى آخر، كما أثبتت تجربة الثورة السورية فشل الخيار العسكري في تحقيق الانتصار لارتباطه وجوداً وعدماً بالقوى الخارجية ووضعها مصالحها فوق أي مصلحة وطنية.. وقد جرت العسكرة والخيار العسكري إلى الدمار والخراب، وإلى كانتونات الأمر الواقع، والى انسحاب الجزء الأكبر من القوى الشعبية وتقوقعها على ذاتها بعد أن اندفعت بكل ثقلها على طريق الخيار السلمي لتحقيق التغيير الديمقراطي الذي لا يستقيم وجوده والخيار العسكري..
كما اثبتت التجربة أيضا فشل الاعتماد على القوى الخارجية ودعمها في تحقيق الانتقال السياسي، وقد جاءت الأحداث لتؤكد أن الاعتقاد بوقوف الدول الخارجية الى جانب الثورة كان مجرد وهم كبير، وأنه لا يمكن بأي حال أن تقف الدول الخارجية الكبرى شرقاً وغرباً أو الدول الاقليمية مع القضية السورية ومع حركات التغيير السياسي ومع مطالب شعبنا بالحرية والديمقراطية، بل انها طوال مسار الثورة عملت على إنهاك المعارضة دون انتصارها، وإنهاك النظام دون هزيمته.
وقد جاءت التجربة لتؤكد أيضا أن القرارات الدولية بما يخص القضية السورية ابتداء من بيان جنيف ١ والقرارات الاخرى وعلى رأسها القرار٢٢٥٤ عدا عن أنها صيغت بطريقة تقبل التفسير المتعدد، ولا تتضمن في صياغتها القابلية للنفاذ والتطبيق، فإن تلك القرارات لم تكن إلا لشراء الوقت واستغلاله لتنفيذ الدول أجنداتها وسياساتها وفق مصالحها، وتحجيما للثورة ومنعا لها من الوصول الى أهدافها …
الثورة تغيير للبنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية السائدة.. فليس كل حراك شعبي ثورة ، ويفترض لكل ثورة إرهاصاتها ، وأولها وعي قيادتها بما يجب عليها فعله وتغييره ، وهي نتاج تراكمات كمية قد تنفجر في لحظة نتيجة ظروف آنية أو نتيجة حدث يفرض انتفاض الناس وثورتهم ، لكن إذا لم يتم التحضير المجتمعي لها من القوى الحية في المجتمع ، وإذا لم تمتلك تلك القوى الوعي والقدرة على قيادتها فإنها سرعان ما تذوب في ” البنية التقليدية للمجتمع التي هي بحاجة أصلاً للتغيير ” ، ومن هنا فإن الثورة ليست بالضرورة أن تكون مسلحة – وقد خبرنا نتائج الثورة المسلحة – وإنما هي ثورة الفكر والمعرفة والخروج من عباءة القديم المحمولة على البدع والخرافات وطغيان العقلية العشائرية والقبلية ومختلف النوازع ما قبل الوطنية ..
ولقد رسمت القوى والأحزاب السياسية قبل الثورة استراتيجيتها للتغيير في سورية على التمسك بخيار التغيير السلمي التدرجي الهادئ المرتكز على العمل ضمن الإطارات الشعبية وفق برامج سياسية وبرامج مطلبية للتغيير.
واليوم بعد المآلات التي وصلت إليها أحوال بلدنا، وبعد الاستدارات الواضحة ممن اعتبروا أنفسهم أصدقاء الشعب السوري وداعميه من القوى الاقليمية والدولية، وبعد تدافع عمليات التطبيع العربية التي تجري على قدم وساق، لا بد من العمل على تنشيط الحواضن المجتمعية الشعبية، والعمل على فتح حوار واسع وصولاً الى وحدة القوى السياسية واجتماعها على برنامج سياسي واستراتيجي للتغيير الوطني.
فالتغيير أي تغيير يتطلب إحداث أرضية مجتمعية واعية، وأدوات فاعلة وقادرة على تحقيق النقلة النوعية لإنجازه. وهذا يرتب على القوى السياسية التفكير بمخارج وطرق للتغيير مع فهم واعي للمتغيرات السياسية والدولية وكيفية التعامل معها، فقد أصبح من الضروري والملح التفكير خارج الصندوق أو المألوف، بما يقتضي إعادة المراجعة والتقييم واستكشاف رؤى مختلفة وقراءة جديدة للمشهد السوري مقدمة لابتداع آليات فاعلة ومبتكرة للتغيير.. وان يحيط هذا التوجه ببنية المجتمع وأن يتم عبر دور متعاظم للنخب في بث الوعي السياسي بأهمية الانتقال السياسي ودوره في تغيير أحوال الناس وظروفهم، وأهميته في الحفاظ على وحدة بلدهم، وخلاصه من الاحتلالات المتعددة التي تستنزف موارد الوطن وخيراته، وتستبيح سيادته …
ولا مناص – بعد كل المتغيرات التي تحصل حولنا – من الاعتماد من جديد على التغيير التدرجي الهادئ والمنظم فهو اليوم وفق التجربة السورية أكثر جدوى من التغيير المفاجئ الذي يحمل في طياته أخطاراً كبرى، ولا يقود إلا إلى استبدال سلطة استبدادية بسلطة أخرى.. هذا التغيير التدرجي لا يعني التصالح مع سلطة النظام، أو مع ما أفرزته الأزمة السورية في امتداداتها من سلطات مافياوية، وقوى اقتصادية جديدة قامت على النهب والسلب والتعفيش، وكدست المليارات على حساب قوت الناس ولقمة عيشهم، بعدما تم إفراغ الساحة من القوى الحية القادرة على التغيير..
فالتغيير التدرجي المطلوب هو تغيير في بنية القوى السياسية المعارضة وفي آليات عملها ، وفي إجراء المراجعة النقدية الشاملة لدورها وارتباطاتها ، وفي العمل على توحيد إطاراتها وتوحيد كياناتها وجهودها وتجاوز اقتتالها وتشرزمها، وفي وضع الاستراتيجيات والخطط لتحقيق النموذج الديمقراطي الناجح في أماكن وجودها وتواجدها وسيطرتها ، وفي تجاوز للبناء الذي قامت عليه ، وتجاوز لرؤيتها الطفولية للتغيير ، وتجاوز الاجندات الخارجية التي تحكمها وتتحكم بها ، انتظاراً حالماً لتغيير لن يأتيها على طبق من ذهب من القوى الدولية .
وربما أن ضعف النظام وتناقضاته الداخلية، وصراع القوى الخارجية والداخلية وتناقض المصالح بينها، فرصة متاحة للعمل على إحداث ثورة في الفكر والمعرفة وتجاوز التخلف والفكر المتخلف، وتهيئة المجتمع لوعي أهداف التغيير ومتطلباته.. ويبقى الاصلاح التدرجي الواعي للمتغيرات السياسية والاقليمية، والمتفهم لطبيعة البنى الاقتصادية والاجتماعية وكيفية التعامل معها، الطريق الأكثر رسوخا وتغلغلا في النسيج الاجتماعي والفردي وأكثر أماناً للوصول الى التغيير المنشود. وهذا يفترض أن يشكل مدخلا فعليا للبدء بالعمل على إنجاز الثورة الثقافية، والقيام بحملات متواصلة في عمق المجتمع لبث الوعي السياسي وأهميته في التغيير الوطني الديمقراطي.
هذا الدور المجتمعي ليس بديلاً أبداً عن المضي قدما بالمطالبة بالتغيير السياسي، واستثمار ما أحدثته الثورة من مناخات سياسية دولية، إضافة الى استمرار تعريتها لبنية النظام وبنية المعارضة الرثة التي تشابهت في سلوكها وأدوارها وفي تجاوزاتها لأبسط معايير حقوق الإنسان.. وعلى المعارضة الوطنية المؤمنة بالتغيير الوطني الديمقراطي أن لا تستكين لعوامل اليأس والإحباط، وأن تستمر بالتمسك بالقرارات الدولية والضغط باتجاهها بالتوازي مع دورها المجتمعي، على أرضية فرض ثقلها الذاتي باعتبارها تعبير حقيقي عن إرادة شعبها، وفي التحرك بكل الطرق المتاحة لتطبيق وتنفيذ القرارات الدولية، والعمل على الحشد الإعلامي والدبلوماسي، والدفع إلى استمرار التفاوض الفعال للوصول لمخرجات جدية وفعلية تمهيداً للانتقال السياسي. فلا يموت حق وراءه مطالب عنيد لا يكل ولا يمل.
يتم نشر هذا الملف في ذكرى ثورة الحرية والكرامة، ثورة الشعب السوري بالتزامن في كل من موقع ملتقى العروبيين، وموقع المدار نت وموقع الحرية أولًا وموقع مصير.
bsiv12