نبيل عبد الفتاح
فى قصيدة “هنا القاهرة” للشاعر سيد حجاب، بيت يقول “حياتنا هنا حارة سد.. وسؤال مالو رد” – يختزل هذا البيت فى إيجازه أزمة العقل المصرى والعربى المتفاقمة منذ نهاية القرن التاسع عشر، حتى الآن، والتى تتمثل فى تمركزه حول وأمام المسارات المغلقة، وبحث عن إجابات عن سؤال لماذا تخلفنا؟، ولماذا تقدموا الذي طرحه شكيب أرسلان! طرق مسدودة! وسؤال مغلق لا رد عليه إلا إجابات عامة سائلة، وفضفاضة، تعيد إنتاج ذاتها، ولا تجيب على شئ قط، لأنه عقل ساكن يسعى إلى إجابات يستنيم إليها، بينما المشكلة الأساسية هى هذه الرغبات المحمومة المولعة بثقافة الأجوبة الجاهزة، التى تتناسل من العقل النقلى الدينى، والإيديولوجى- شبه الليبرالى، وشبه الماركسى-، المفارق للواقع الموضوعى، ومحمولاته من الأوهام والأساطير سابقة التجهيز. عقل الإجابات الجاهزة لا عقل ثقافة الأسئلة، التى تحفز على النقد، ومساءلة الأسئلة، ودحضد الإجابات السهلة الحاملة لموتها، دونما أن تقدم طرقا مفتوحة للمجتمعات العربية وتنميتها، وتحريرها من القيود الموروثة، والمعاصرة معاً، أيا كانت طبيعتها سياسية، أو ثقافية، أو أسطورية، أو قيمية تكرس التخلف التاريخى المركب.
أحد إعاقات العقل ذي البعد الواحد تتمثل فى تمجيد مفاهيم الخصوصيات الثقافية، والثوابت، والاصالة وفق الدلالة والسياقات الماضوية على نحو ما تطرح في الخطابات النقلية أيا كانت، واعتبارها جزءاً عضويا فى “الشخصية العربية”، وكأن هناك شخصية عربية واحدة!
حتى مع نهاية مفهوم الشخصية القومية فى الدراسات السوسيوولجية! لا نزال نعيد إنتاج آلة اصطلاحية أفلت في العلوم الاجتماعية فى عالمنا، لأننا لا نتابع من منظور نقدى تطورات الفكر العالمى وتحولاته المختلفة. كل المجتمعات لها خصوصياتها، ولا ننفرد نحن بالخصوصيات. العقل ذو البعد الواحد المسيطر، عقل معتقل ومعاق ذاتيا وتكوينيا، وسياسيا لأنه يرى العالم من خلال نظرات الغرب، وليس من منظورات الثقافات المتعددة، فى آسيا الناهضة، وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، ولأن بعضه مولعا بالثقافة ونمط الحياة الأمريكى، وأن أشكال الوعي العربية -وفق مكسيم رودنسون في تقديمه للإيديولوجية العربية المعاصرة لابد الله العروي –” انطلاقا من التاريخ الاجتماعى للغرب، وفق العروى، وفى رأى ردونسون” أنه ينبغى فهم أشكال الوعي العربية هذه انطلاقا من التطور الاجتماعى للعالم الشرقى نفسه”.
أن نظريات العقل العربى للغرب يسودها التبسيط، والتعميمات، والغموض، وبعض الأساطير التى تؤله هذا العقل -وكأنه واحد-، وفى ذات الوقت تأمل الغرب للعالم غير الغربى سوف يظل زمنا طويلا تسوده خرافات تبسيطية تملك الكثير من الأفضليات على العديد من الأصعدة المختلفة وفق رودنسون. هذه الملاحظة تتجسد فى مقاربات بعض خبرا المنطقة فى الولايات المتحدة، وبريطانيا وأوروبا حول دول المنطقة العربية، وأن حدودها غير طبيعية، وتم تخطيطها بعد اتفاقية سايكس- بيكو الكولونيالية، وأنه لابد من تعديلها وليست نهائية! ومن ثم تؤثر هذه المقاربة الجيو- سياسية، والتاريخية على المسألة الفلسطينية، والتمدد الاستيطانى للكولونيالية الإسرائيلية، ناهيك عن اعتبارها وجه الغرب فى المنطقة! وهو مايبدو في مواقفهم الداعمة لحرب الإبادة على قطاع غزة، والمدنيين الفلسطينيين.
من هنا تبدو الحاجة الموضوعية للنقد المزدوج -وفق عبد الكبير الخطيبى-، وذلك لا يتم إلا من خلال إعلاء مقام العقل النقدى الحر الطليق من الأغلال أيا كانت. عقل الأسئلة، وعقل هدم الأبنية الذهنية المغلقة، وتفكيك الأساطير الوضعية، والأفكار المطلقة، والاعتصام بالأفكار النسبية، ونقدها. عقل الهدم من أجل البناء، وتفكيك القيم الاجتماعية السلبية التى تعيق تحرير الوعي الاجتماعى والسياسى الفردي، وشبه الجمعى، من بعض أوهامه الزائفة!
أن الانتقال في التعليم من ثقافة، ومناهج الحفظ، والتكرار، والتلقين إلى ثقافة الأسئلة، والنقد والحوار، هو جزء من عمليات تحرير العقل المعتقل. ثمة ضرورة أيضا للتحول نحو العلوم الأكثر تطوراً، وخاصة الذكاء الاصطناعى، والعلوم الطبيعية، وإعادة النظر فى الأعداد الضخمة والكثيفة التى تدرس العلوم الاجتماعية، ولا تجد مجالا لها فى أسواق العمل الجديدة، والناشئة، والمتغيرة فى عالمنا.
ثمة حاجة إلى تحرير السياسة التعليمية، ومناهجها من أحكام القيمة النقلية، وفى الدرس حول الدرس من غالب المدرسين، غير المؤهلين بطول العالم العربى وعرضه، وتطوير التعليم الدينى من النقل إلى العقل، ومن أسئلة وإجابات الماضى إلى أسئلة الراهن والمستقبل، وتحرير المجال الدينى من هيمنة السياسة، واستقلاله وتجديده، ومن التدين الوضعى ومحمولاته إلى صفاء وعمق التدين الفردى، والتصدى للخرافات المحمولة على الدين، من التدين الشعبى، والشعبوى فى المجتمعات العربية.
إن تحرير العقل يُعد المقدمة الأساسية لتحرير المجتمع، والفرد معا، ونقد الشمولية، والتسلطية، وأثارهما الخطيرة فى تخلف مجتمعاتنا العربية، وهو ما يستدعى درس كليهما وتاريخهما في كل حالة عربية وجزورهما الاجتماعية، وانعكاساتهما المتمثلة فى انكسار حركة التصنيع، وتراجع الإنتاج، والقفز على عالم الاستهلاك المفرط فى دول اليسر، والعسر معا، وتزايد الفجوات الاجتماعية، بين السراة عن قمة النظام الاجتماعي، وبين غالبية القوى الاجتماعية الأخرى، وتزايد معدلات الفقر.
العقل النقدى الحر، يمثل ضرورة فى نقد خطابات تمجيد الماضى فى السياسة، والثقافة، والفنون، لأن المقاربات النقدية للتاريخ، تشكل أحد أبرز محركات التطور العقلى والاجتماعى والسياسى. بعض مقاربات تمجيد المفكرين والفنانين، والسياسيين الذين رحلوا، تشكل انعكاسا لعجز فى الحاضر عن تجاوز تجارب هؤلاء، وانجازاتهم مهما كانت قيمتها، وأهميتها فى تاريخ المجتمعات العربية.
بعض هذه الخطابات التمجيدية للموروث التاريخى والسياسى والثقافى تسود غالب المجتمعات العربية، وأجهزة الإعلام، ويرجع بعضها لأثر” الوطنيات ” فى طور التكوين، فى الدول التى ظهرت ما بعد الكولونيالية – دول اليسر المالى، وبعض دول العسر- حيث تدعم الطبقات السياسية الحاكمة، خطابات التمجيد لإنتاج النزعة الوطنية -باستثناء مصر والمغرب- ومعها تسود بعض الشعبوية، فى الواقع الفعلى، وعلى الحياة الرقمية، حيث يذهب عوام ما يطلق عليهم مجازا “مثقفين” وغيرهم إلى تغذية النزعة الوطنية والشعبوية الهشة من خلال التهجم على بعض الشعوب العربية الأخرى، التى لعبت أدواراً مهمة فى تاريخ المنطقة، من حيث السبق فى التحديث وبعض الحداثة المبتسرة، والتجارب السياسية، أيا كانت نتائجها، وهو ما يؤدى إلى تنامى ثقافة الكراهية، ومعاداة العروبة الثقافية.
أن العقل ذى البُعد الأحادى المسيطر، لا يزال أسير عدم تفاعله النقدى مع أوضاع ومسببات التخلف التاريخى العربى المركب، ومنفصل عن واقعه الموضوعى، وواقع عالمنا المتحول، لأنه عقل “اليوم بيوم”، ومن ثم لا يستطيع إنتاج معرفة تحررية لمجتمعاتنا العربية، ولا يزال بعيداً عن درس مقاربة لتجارب النهوض الآسيوى، وبعيداً عن التغيرات الأخرى فى أفريقيا وأمريكا اللاتينية، بل التحولات داخل الدول الغربية فائقة التطور. العقل ذى البُعد الواحد لا يزال بعيدا عن نقد الشعبوية السياسية والدينية، وعن الاشتباك النقدى مع العقول الغربية، التى لا يزال يستلهم بعضا من إنتاجها الفكرى في التيار وبعد تجاوزها.
ثمة ضرورة للتحرر من الفكر النيوليبرالى الاقتصادى، ونقد العقل المالى -عقل المالية العامة- الذي أدى إلى تفاقم المشاكل الاقتصادية والاجتماعية فى دول العسر العربية، ودونما انتقال من العقل المالى إلى العقل التنموى سنواجه مشكلات كبري، لأن العقل السياسي التنموي يساهم فى نقد الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، ويستلهم الحلول التنموية، من التجارب المقارنة والوطنية وأسباب فشلها تاريخيا، ويرفد الفكر الاقتصادى العربى، بأفكار جديدة، تتلائم مع الواقع الموضوعى.
ثمة حاجة لتحرير العقل العربى، من أوهامه، ونظراته الأحادية فى كافة مجالات حياتنا، ولن نستطيع الخروج من الطرق المسدودة، دونما تحرير العقل، والفرد من الأغلال.
المصدر: الأهرام