طوني بولس
داني الرشيد هو مدير مكتب مستشار رئيس الجمهورية السابق سليم جريصاتي ومستشار المدير العام لجهاز أمن الدولة
شغلت قضية الموقوف داني الرشيد الوسطين السياسي والإعلامي في لبنان، وتحولت إلى قضية رأي عام، لا سيما أنها أعادت كشف أخطار تفكك المؤسسات الأمنية والقضائية ومدى التدخل السياسي وفلتان الحدود السورية التي باتت ملاذاً آمناً للهاربين من العدالة
في دول العالم المتقدم يعد مصطلح “الدولة العميقة” مرادفاً للمؤسسات والتركيبة البنيوية للدولة من الأمن والقضاء، وصولاً إلى القرار الاقتصادي ومصالح الدولة العليا، ودورها مرتبط باستقرار البلاد وحماية المواطنين واستتباب العدالة، وكذلك منع “جنوح” النظام السياسي في ظروف معينة بعيداً من أهداف البلاد وتطلعات شعبها.
إلا أن المصطلح نفسه يفسره سياسيون وناشطون لبنانيون معارضون أنه سيطرة تحالف “المنظومة” الحاكمة على القرار الأمني والقضائي والاقتصادي، بالتالي حماية “الطبقة السياسية” التي تحكم البلاد، وبات دور “الدولة العميقة” إجهاض العدالة وإمكانية التغيير، وتترجم ذلك بعدم ملاحقة مرتكبين ومجرمين من هذه الطبقة. ومن تلك النماذج جرائم الاغتيال السياسي التي تجاوزت 20 اغتيالاً منذ انسحاب الجيش السوري من لبنان عام 2005، وجريمة انفجار مرفأ بيروت عام 2020، واحتجاز أموال المودعين نتيجة الانهيار الاقتصادي الذي صنفه البنك الدولي ثالث أكبر انهيار في التاريخ. ويرى معارضون لبنانيون أن الطبقة السياسية تستخدم المؤسسات الأمنية والقضائية بما يناسب مصالحها ويؤمن حمايتها.
صراع الأجهزة
ودائماً تخرج إلى العلن فضائح تهز الثقة بالعدالة في لبنان، كانت آخرها قضية مدير مكتب مستشار رئيس الجمهورية السابق سليم جريصاتي ومستشار المدير العام لجهاز “أمن الدولة” داني الرشيد، التي أكدت، مجدداً، مدى ترهل الدولة ومؤسساتها الأمنية، مما دفع مرجعاً قضائياً بارزاً للقول، “إذا كان جهاز أمني غير مؤتمن على حماية موقوف والاحتفاظ به، فكيف يؤتمن على مهام أمنية تتعلق بمصير البلد”.
وبدأت قضية الرشيد في ديسمبر (كانون الثاني) عندما أوقف على خلفية محاولة اغتيال المهندس الزراعي عبدالله حنا، المشرف على أملاك وأراضي رئيسة “الكتلة الشعبية” ميريام سكاف في منطقة “عميق” بالبقاع الغربي، بعد خلاف بشأن عقارات بين الطرفين. ووجهت إلى الرشيد حينها تهم تأليف جمعية أشرار مسلحة وتمويلها بهدف ارتكاب الجنايات على الأشخاص، وذلك لإقدامهم على محاولة قتل حنا في زحلة بضربة على رأسه بمسدس غير مرخص، إضافة إلى “تزوير لوحات سيارات لتنفيذ أعمالهم”.
تنسيق لبناني – سوري
ومنذ توقيفه، لم تتوقف التدخلات والضغوط السياسية لإطلاقه، وتحول الملف الجنائي إلى صراع سياسي طاول الأجهزة الأمنية. وتشير المعلومات إلى أن الضغوط على القضاء دفعت “فرع المعلومات” في قوى الأمن الداخلي الذي أوقفه إلى تسليمه لجهاز “أمن الدولة”، حيث يحظى بتوقيف “مرن” كونه مستشار رئيس الجهاز ولديه علاقات وثيقة مع شخصيات سياسية. إلا أنه وبعد تزايد الضغوط وتسلم “أمن الدولة” إشارة قضائية بضرورة نقله إلى سجن “رومية” التابع لقوى الأمن الداخلي، استفاق اللبنانيون على فضيحة هربه من مركز توقيفه من مقر “حماية الشخصيات” التابع لجهاز “أمن الدولة” في محلة “ساحة العبد” في بيروت، ما تسبب بإحراج السلطات القضائية التي استنفرت لحفظ ماء وجهها أمام الرأي العام المحلي والدولي، مما اضطر الأجهزة الأمنية إلى القيام بحملة تقص ومتابعة، تمكنت خلالها من تحديد مكان تخفي الرشيد داخل الأراضي السورية. وبعد تنسيق مشترك بين مديرية أمن الدولة والجهات السورية الأمنية المعنية، نفذت قوة من أمن الدولة عملية أمنية مشتركة داخل الأراضي السورية أفضت إلى توقيفه.
وفور توقيفه مجدداً، أعلنت المديرية العامة لأمن الدولة، في بيان، أنه “بعد تنسيق مشترك بين المديرية والجهات السورية الأمنية المعنية، نفذت قوة من أمن الدولة عملية أمنية مشتركة داخل الأراضي السورية أفضت إلى توقيفه، وسلم إلى المديرية العامة للأمن العام اللبناني للقيام بالإجراءات القانونية المطلوبة، على أن يحال مجدداً على المديرية العامة لأمن الدولة، لإجراء المقتضى القانوني بحقه تحت إشراف القضاء المختص”.
المعابر غير الشرعية
وتشير المعلومات إلى أن هذه الفضيحة التي وضعت هيبة القضاء والمؤسسات الأمنية في مهب الريح لن تمر مرور الكرام، ووجه المدعي العام التمييزي القاضي جمال الحجار، لفتح تحقيق موسع حول عملية الهرب من أحد المقار المحصنة أمنياً.
وبحسب مصادر قضائية، فإن الحجار أوقف عدداً من عناصر “أمن الدولة” على ذمة التحقيق، واستدعى اللواء طوني صليبا، الأسبوع المقبل للتحقيق معه، ولا سيما أن المعلومات الأولية تشير إلى اشتراك عصابة تهريب بالقضية إلى خارج الحدود اللبنانية عبر المعابر غير الشرعية.
لائحة الموقوفين
وفي السياق، رأى الصحافي المتخصص في الشؤون الأمنية والقضائية يوسف دياب أن هناك “عملية تواطؤ دبرت تحت جنح الظلام، وأفضت إلى تهريب الرشيد الذي يحظى بحماية سياسية وأمنية، ويلقى معاملة مميزة وكأنه يعيش في فندق خمس نجوم داخل السجن”، لافتاً إلى أن الحادثة أربكت القضاء والأجهزة الأمنية، وأعادت طرح السؤال مجدداً عن جدوى فاعلية جهاز أمني غير قادر منع سجين من الفرار. وكشف عن أن عملية الهرب أو التهريب، أتت بعد أيام على التقرير الذي تسلمه النائب العام التمييزي القاضي جمال الحجار، والذي يفيد بأن الرشيد يحظى بمعاملة خاصة من أمن الدولة كونه مستشار رئيس الجهاز ولديه علاقات وثيقة مع شخصيات سياسية، وثمة معلومات عن إخراجه من السجن ونقله إلى منزله بشكل دوري وقضاء أوقات مع عائلته وأصدقائه، وعلى أثر ذلك، وجه النائب العام التمييزي كتاباً إلى صليبا طلب فيه نقل جميع السجناء الموجودين لدى أمن الدولة إلى السجون ومراكز التوقيف الواقعة تحت سلطة قوى الأمن الداخلي، ليتبين أنه لم يتم نقل هؤلاء السجناء.
وأكد دياب أن الحجار استوضح أمن الدولة عن أسباب التأخر بنقل السجناء وطلب لائحة بأسماء جميع الموقوفين لديها، مشيراً إلى أن اللائحة التي تسلمها ضمت أسماء جميع الموقوفين ما عدا داني الرشيد، وهنا اعتقد الحجار أنه تم نقل الرشيد إلى سجن مركزي، قبل أن يفاجأ بخبر فراره.
حماية “أمن الدولة”
بدورها، أشارت الصحافية المتخصصة في الشأن القضائي فرح منصور إلى أن الفار داني الرشيد تم توقيفه ضمن الأراضي السورية خلال محاولته الدخول إلى سوريا للاختباء، وسلم للأمن العام، حيث سيجرى التحقيق معه ومن ثم يتم تسليمه مرة أخرى إلى جهاز أمن الدولة، مؤكدة أن هذه الحادثة شكلت صدمة قضائية ودفعت بالنيابة العامة التمييزية إلى فتح تحقيقات موسعة فور تسريب خبر هربه للكشف عن هويات المتورطين في العملية.
وكشفت عن أنه تم استجواب مجموعة من العناصر الأمنية التابعة لجهاز أمن الدولة ومن ضمنهم حراس السجن، وقرر مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي فادي عقيقي توقيف أربعة عناصر أمنية بعد الانتهاء من جلسات استجوابهم، كما استجوب اللواء طوني صليبا كونه رئيساً لجهاز أمن الدولة. واعتبرت منصور أن قرار إعادة تسليم الرشيد إلى أمن الدولة، مرة ثانية، كان مفاجئاً، وهو بمثابة إجراء يهدف إلى إبعاد الشبهات عن عناصر أمن الدولة، خصوصاً بعد بيانهم التوضيحي الذي أكدوا فيه “تنفيذهم عملية أمنية مشتركة داخل الأراضي السورية أدت إلى توقيف الرشيد”.
تصفية جسدية
في المقابل، اعتبرت زوجة الموقوف باميلا الرشيد أنه يتعرض لحملات إعلامية ممنهجة بهدف تشويه سمعته ما يسهل النيل منه جسدياً. وأضافت “تقوم بها السيدة ميريام سكاف التي لا تتورع عن دفع الأموال وتقديم الهدايا وتذاكر السفر لمن جندتهم بغية تنفيذ مخططها الجهنمي الهادف إلى تصفيته جسدياً عبر الضغط لنقله إلى سجن رومية، حيث يسهل عليها تدبير حادثة تودي بحياته”. ولفتت إلى أن الرشيد سلم نفسه إلى الأمن العام اللبناني إيماناً منه بأن القضاء والأمن هما الملاذ الطبيعي لكل من يريد استرداد حقه، مطالبة بإحباط محاولة نقل الرشيد إلى سجن رومية، “حيث بات من المعلوم أن الحقد سيسبقه إلى هناك، إذ تقوم الخطة على افتعال حادثة مدبرة ومدفوعة تؤدي إلى تصفيته جسدياً”.
المصدر: اندبندنت عربية