راغدة درغام
وضع صناع القرار في طهران عدداً من الخيارات أمامهم رداً على استهداف إسرائيل مبنى متاخماً للسفارة الإيرانية في دمشق كان مقراً لمركز تنسيق بقيادة الحرس الثوري الإيراني، بالذات “فيلق القدس”، مع جميع الأذرع الإيرانية في المنطقة، بما فيها “حزب الله” و”حماس” والفصائل العراقية والحوثية التي تسميها طهران “القوى المعنية” Relevant forces، أو “القوات ذات الصلة”. بعض هذه الخيارات يقع تحت عنوان “العمليات المحدودة” limited والبعض الآخر تحت عنوان “عمليات بلا قيود” unlimited.
إدارة الرئيس جو بايدن تترقب بحذر ولا تقطع التواصل مع الجهات الإيرانية المعنية عبر قنوات عدة، لكنها أيضاً تتمسك بتحذيرها طهران من عواقب استهداف المصالح الأميركية.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يفضّل ألّا تقع مواجهة أميركية – إيرانية مباشرة قد تؤثر على الصفقة الشاملة الاستراتيجية بين روسيا وإيران، شبيهة الاتفاقية الشاملة بين الصين وإيران، والتي ينوي توقيعها عندما يزور طهران مطلع هذا الصيف.
فما هي تلك الخيارات الإيرانية؟ وما هي المساحة المتاحة بين الصبر الاستراتيجي وضغوط الانتقام الداخلية منها في إيران ولدى الأذرع الإيرانية الاقليمية في سوريا والعراق ولبنان واليمن؟
القرار الأول المتوقع من طهران هو زيادة دعمها للحوثيين كي يصعّدوا هجماتهم في البحر الأحمر لضرب الملاحة الدولية، باستثناء السفن الصينية والروسية بموجب تفاهمات بين الحوثيين والصين وروسيا. مثل هذا القرار يصيب المصالح الغربية ويوجعها، وفي إمكان إيران إما التملّص منه أو التباهي به كما تشاء.
تحت عنوان العمليات “المحدودة”، يستطيع الحرس الثوري و”فيلق القدس” أن يملي على “القوى المعنية” أن تشن هجمات على السفارات الأميركية في المنطقة لإبلاغ واشنطن أنها تتحمل مسؤولية ما تقوم به إسرائيل في غزة وخارجها.
الهجوم الإسرائيلي قبل عشرة أيام على المبنى المجاور للسفارة الإيرانية في دمشق، والذي قتل عدداً من قادة الحرس الثوري، قضى على القائد البارز في “فيلق القدس” محمد رضا زاهدي وقادة آخرين مسؤولين عن العمليات في سوريا ولبنان. وجه الهجوم رسالة استراتيجية مهمة بأن إسرائيل تحولت من “حرب الظل” مع إيران إلى استهداف مباشر ومكشوف ودقيق ضد “فيلق القدس” في عقر داره ومركز عملياته في دمشق.
الرسالة الأساسية وراء هذا الهجوم بُعثت إلى الحرس الثوري الذي يصمم وينفذ السياسة الخارجية الإيرانية في المنطقة ويوجّه أذرعته للقيام بالعمليات باسم “محور المقاومة”، لكنه يتمتع بمساحة “الظل” التي يختبئ فيها ويتملص من المحاسبة.
هذه العملية أتت لتقول إن إسرائيل تستدعي إيران إلى المواجهة المباشرة. أتت لتبلّغ “حزب الله” في لبنان أن حرب قواعد الاشتباك لن تكون دائمة لأن إسرائيل لا تريد حروب الاستنزاف بل تفضل المواجهة الكبرى مع إيران، والتي تثق إسرائيل بأنها ستتمكن من جرّ الولايات المتحدة إليها.
إيران لا تريد أن تبدأ حرباً كبرى، لكنها تريد إبلاغ إسرائيل أنها هي التي تقف على هاوية الحرب المكلفة لها. القيادات الإيرانية على مستوى آية الله علي خامنئي لا تريد حرباً كبيرة. أولوياتها استراتيجية بدءاً بعدم تعريض برنامجها النووي إلى الخطر، مروراً بإصلاح العلاقة مع إدارة بايدن للاستفادة من رفع العقوبات، انتهاءً برغبتها في أن تستمر بحروب استنزاف إسرائيل واستخدام دول عربية منصة بدلاً من انهيار العلاقة التهادنية مع إسرائيل والدخول في حرب مباشرة معها.
وهنا نأتي إلى ما تفكر به طهران إذا اضطرت إلى تبنّي خيار الرد على هجوم إسرائيل وقتل قيادات “فيلق القدس” تحت عنوان “بلا قيود أو حدود” للعمليات النوعية. في المعلومات، تدرس إيران خيار إسقاط الطائرات الإسرائيلية التي تحلق في الأجواء السورية حيث لها نفوذ قاطع مع القيادة السورية كما لها قدرات عسكرية هناك. تدرس أيضاً خيار شن هجوم مركّز على ميناء حيفا بهدف تدمير منشآته.
كل هذه الخيارات، تلك بقيود وتلك بلا حدود، تنذر بوضع خطير. والأخطر أن إيران اليوم تتمسّك عمداً بالغموض ومن الصعب التنبؤ بما في ذهنها. من ناحية، يبدو أن لا مناص من أن تنتقم طهران من الهجوم في دمشق لأن استمرار صبرها، استراتيجياً كان أو تكتيكياً، مكلف لها على الصعيد الشعبي الداخلي الذي قد ينظر إلى قيادة الثورة الإيرانية بأنها باتت نمراً من ورق. وبالتالي، إن مصلحة النظام تقتضي تبنّي منطق الانتقام حفاظاً على النظام وضمن حسابات محلية.
من ناحية أخرى، إن قرار الحرب ليس سهلاً على إيران، وسيكون مكلفاً لها ولأذرعها أيضاً إذا خاضت معها حرباً وجودية لها. “حزب الله” في الواجهة لأن استدعاء إسرائيل أو إيران أو الحزب الحرب إلى الساحة اللبنانية سيدمّر ليس لبنان فقط بل البنية التحتية لـ”حزب الله” ولشبه القواعد الإيرانية السرية ومرافئ الشحنات المهمة لإيران، إضافة إلى الشحن الجوي. إيران تدرك أن الولايات المتحدة لن تقف متفرجة، وأن المغامرة بالحرب هي مغامرة بالبرنامج النووي، والإفلاس، وأوراق المقايضات، وكذلك مغامرة بالأذرع والميليشيات التابعة لها.
حتى الآن، حرصت طهران على حصر نشاطات “حزب الله” بقواعد الاشتباك كي لا تتورط هي في حرب مباشرة وكي لا تخسر ورقتها الاستراتيجية، أي “حزب الله” نفسه. حتى الآن، تبدو إسرائيل غير متحمسة للقفز إلى حرب عبر ساحة لبنان لأن في ذلك مغامرة لها، علماً أن إدارة بايدن أبلغتها أكثر من مرة أن حرباً على لبنان، شأنها شأن العمليات التي تتوعد بها إسرائيل في رفح، تلاقي رفضاً أميركياً جدياً وأن الإهمال الإسرائيلي المعهود، سيكون مكلفاً لها.
سيقال فوراً إنه لو كان الرئيس جو بايدن جدياً لما استمر في إغداق الأسلحة الأميركية المتطورة على إسرائيل بيد ورفع إصبع التحذير لها في اليد الأخرى. هذا صحيح. لكن ما تشير إليه أوساط الإدارة الأميركية هو أن العلاقة التحالفية المميزة بين الولايات المتحدة وإسرائيل هي التي تملي على الرئاسة ألّا تتوقف عن توفير السلاح لإسرائيل لأنها في حرب الدفاع عن النفس. هذا هو منطق الإدارة الأميركية. سيقال: لماذا الاستمرار في التهديد والوعيد إذاً؟ والجواب هو أن لدى إدارة بايدن أدوات ضغط على إسرائيل سيكون عليها أن تتحلّى بالجرأة والشجاعة لاتخاذها، منها ما هو اقتصادي ومنها ما هو سياسي.
فريق بايدن لا يحب أن يسير في درب المحاسبة لإسرائيل بمفرده، ولذلك يحاول أن يحشد الدول الأوروبية لتنطق معه بلغة المحاسبة والعقوبات. يدرك أن فوقية إسرائيل وازدراءها علناً بالرئيس وبإدارته باتا مكلفين لبايدن ولصدقية فريقه. ما يخشاه هو أن الانصياع لإسرائيل سيؤدّي إلى المزيد من المشكلات لبايدن داخل حزبه حيث اليسار فيه يصرّ على أن يمارس الضغوط على إسرائيل لوقفها عن حرب القتل والجوع على المدنيين الفلسطينيين المهجّرين قسراً من بيوتهم المدمرة. يدرك الفريق أن استخدام بايدن ما يسمى بالضغوط الهادئة على إسرائيل أخيراً أسفر عن ارتفاع نسبة التأييد له في استطلاعات الانتخابات الرئاسية.
لذلك، بايدن غاضب وفريقه غاضب جداً من إسرائيل ورفضها علناً كل ما تطلبه واشنطن منها، مثل عدم استفزاز إيران. بل إن القيادات الإسرائيلية ترفض حتى الاستماع والبحث في الأفكار الأميركية. هذه إهانة لا سابقة لها في العلاقات الأميركية – الإسرائيلية. ولذلك، ترتفع أصوات داخل إدارة بايدن والحزب الديموقراطي وخارجهما تقول: كفى.
هذا لا يعني أن إدارة بايدن أو أياً من الحزبين، الديموقراطي والجمهوري، مستعد للتخلي عن إسرائيل في عزمها على القضاء على “حماس” وإصرارها على الدفاع عن نفسها. الخلاف هو على كيفية تحقيق الهدف لا على جوهره. الفارق أن إسرائيل ترى أن لا مجال لسحق “حماس” سوى عبر عملية برية همجية في رفح، فيما إدارة بايدن تريد حماية المدنيين وإيجاد حلول لهم، ثم لتسحق إسرائيل كل ما هو ممكن من البنية التحتية والقيادات الكبرى لـ”حماس”. هوذا الفارق.
أيضاً الاختلاف بين إدارة بايدن وإسرائيل نحو إيران واضح، إذ إن إدارة بايدن مستمرة في الحرص على علاقة تهادنية ومحادثات سريّة مع قادة طهران، فيما إسرائيل ترى في ذلك سياسة استرضاء وخضوع لإيران رغم أنها العقل المدبّر والمموّل والمدرّب والذي يعطي السلاح والذخيرة والاستراتيجية لأذرعها في المنطقة، بما فيها “حزب الله” و”حماس”.
إيران الآن ستصبح أكثر دعماً لـ”حماس”، ليس فقط بسبب الهجوم الأخير ضد “فيلق القدس” في دمشق، بل أيضاً نتيجة التنسيق الوثيق أخيراً بينها وبين قيادات “حماس” في الخارج. اللافت أن هذه القيادات، مباشرة بعد لقاءاتها في طهران، أخذت إلى التحريض الشعبي والشعبوي ضد الدول العربية وفي مقدمتها الأردن.
وهكذا، مرة أخرى، تلاقت “حماس” مع إسرائيل، سهواً أو عمداً، في مشروع التهجير القسري للفلسطينيين كما في مشروع تحويل الأردن إلى “الوطن البديل” للفلسطينيين، هذه المرة مع غمزة إيرانية خطيرة جداً.
المصدر: النهار العربي
mmio6s