د- عبد الله تركماني
يفتقر بعض متعاطي السياسة في المنطقة العربية الحسَّ التاريخي، فالأحداث التاريخية التي مرَّت بها المنطقة العربية والعالم، حتى القريب منها، لا تمثل بالنسبة لهم منهلاً لليقظة والنهوض والمعرفة السياسية. كما أنّ صخب العالم من حولنا وتحولاته لا يقدم لهم فهماً ووعياً جديداً باللحظة التاريخية التي نعيشها.
إننا لا نستطيع أن نكون في العصر وخارجه في الوقت ذاته، كما إننا لا نستطيع أن ندَّعي الديمقراطية ونمارس خلافها على الواقع، مثلما لا نستطيع أن نكون مع القوى التي تناهض الإرهاب وتلك التي تدعمه.
إنّ العالم قد تغيَّر وسارعت دول وأنظمة في العالم لاستيعاب أبعاد التغيير فيه لتتخلى عما اعتادت عليه من قواعد للعمل السياسي بطل مفعولها، وصار التمسك بها انتقاصاً من قوة الدولة ومكانتها، بينما هي تحتاج أن تكتسب تصوراً وممارسات جديدة تضيف إليها وتثري قدراتها.
في حين بقي أغلب العالم العربي، بفكره وممارساته، أسير علاقات عالم فترة الحرب الباردة التي انتهت، بينما الدول التي استوعبت معنى التغيير منذ ذلك الحين، أدركت تماماً أنها ستكون مهتزة تطوح بها رياح التحوُّلات الجديدة في العالم، والتي لا تتوقف، إذا لم تُعِدْ هيكلة نظامها على ركنين أصبحا يمثلان مصدر المناعة والقوة في العصر الجديد: أولهما، الديمقراطية الحقيقية فعلاً وليس قولاً فقط، بعد أن صارت الديمقراطية هي شرعية أي نظام حكم، وبعد أن أصبح المعني الحقيقي لانتهاء الحرب الباردة هو أنّ كل الأنظمة المشابهة التي لم تسقط في هذا اليوم، أو التي لم تدرك معنى هذا التطور التاريخي، سوف تبقى مجرد جيوب،, أو كهوف تحتمي فيها تلك الأنظمة، من إعصار التحوُّلات في النظام الدولي، وسوف يأتي حين يتم فيه تصفيتها ذاتياً.
وثانيهما، فهم مؤشرات تدل على أنّ العالم يتجه إلى الشراكات الإقليمية، خاصة في المجال الاقتصادي، باعتبار أنّ التنافس هو قانون العصر، وأنه لن تكون لأيَّة دولة منفردة، مهما يكن ثراؤها، قدرة على امتلاك موقع مؤثر في إطار النظام الدولي.
ومن جهة أخرى، على الصعيد الاستراتيجي، تظل المنطقة العربية محتفظة بثقلها الخاص، في منظور المصالح الدولية. مما يجعلها منطقة غير مستقرة، ومعرَّضة للاهتزاز والتوتر، يحمِّل حكوماتها مسؤولية بناء موقع استراتيجي، وفق منهج عقلاني، غير تصادمي، يستند إلى أصول الحوار بين دول الشمال والجنوب، وإلى توفير الإمكانيات الذاتية، بما يحمي الجدار العربي من محاولات الاختراق الأجنبية، وبناء سياسة واضحة مع دول الجوار.
وتبدو أهمية إعادة طرح قضايا الرابطة العربية، من وجهة نظر تحاول أن تكون جديدة، حين نعرف أنّ القرن الواحد والعشرين سوف يشهد إعادة طرح واسعة لمشكلة الهوية. ففي الوقت الذي ينزع فيه العالم، أكثر من أي وقت مضى، إلى أن يتعولم وإلى أن يخترق حدود الدول وسياداتها، وفي الوقت الذي تتعاظم فيه التبعية المتبادلة ما بين أمم العالم سياسياً واقتصادياً وثقافياً وإعلامياً، وفي الوقت الذي تتسارع فيه حركة الرساميل والبضائع وتتضاعف السيولات المالية العابرة للقارات، وتتحكم الشركات المتعددة الجنسيات في الاقتصاد العالمي إنتاجاً واستهلاكاً. وبكلمة واحدة في الوقت الذي يتحوُّل فيه العالم إلى ” قرية كبيرة “، في هذا الوقت يُرَّدُ الاعتبار، على نحو لم يسبق له مثيل، إلى عدة مصطلحات قومية مثل: الهوية، والأصالة، والخصوصية. وتدبُّ حيوية في النزعات القومية التي يبدو أنّ قلق العولمة قد أيقظها في كل مكان من العالم.
وثمة أركان أربعة للخلاص العربي حددها الدكتور جميل مطر: أولها، ضرورة الاعتراف بحجم المسألة العربية واختيار أكفأ القادة السياسيين والإداريين القادرين على النهوض بمسؤولية كشف الغمة. وثانيها، إزالة ” عشوائية السياسة الخارجية ” والتخلص من ” واقعية البعد الواحد ” التي تقوم عليها سياسات التركيز على ” الأعظم والأوحد “، بينما هذا الأعظم لم يعد أوحداً والصاعدون كثر، ومصادر القوة الصلبة والمرنة والناعمة متوافرة تنتظر فقط من يعترف بوجودها، وبعد اعترافه بها يوظفها. وثالثها، أن تخرج الدول العربية من ” الغيتو ” الذي فرضت على نفسها العيش فيه أو فرضته عليها قوى أجنبية، وأن تتعظ من ماضيها القريب، فتنشئ نظاماً أو مشروعاً للتعليم والتدريب يضبط سياسة العمالة وينظِّم عمليات الهجرة حيثما كانت وجهتها. ورابعها، إعادة النظر في موضوع الحرب على الإرهاب، بعد أن أدت هذه الحرب إلى إحداث شروخ في العلاقات بين شعوب العرب وحكوماتهم ثم تعميقها، حيث أتى الانسياق وراء نظرية ” الحكم بالأمن ” بالكوارث على شعوب عديدة.
وفي الواقع، يصعب على المرء أن يحدِّد صورة المستقبل بدقة، ولكن يمكنه أن يحدِّد الشروط التي يجب توافرها من أجل التعاطي المجدي مع معطيات الحاضر. وفي كلمة أخرى، علينا أن نواجه سؤالاً رئيسياً: هل نريد أن نعيش في هذا العصر، أم نبقى سادرين في عصور سابقة؟
إذا أردنا أن نعيش في هذا العصر علينا أن نفهم ما هي مناهج هذا العصر، إذ لا يمكن أن يقوم من أبناء هذا العصر من يفكر ويسلك في حياته سلوكاً قبلياً وعشائرياً، كذلك لا يمكن أن يعيش في هذا العصر من يريد أن يتقوقع على نفسه ويفكر تفكيراً طائفياً ومذهبياً وانعزالياً، لأنه عصر التجمعات والشراكات الإقليمية والدولية الكبرى. لا يمكن أن يعيش في هذا العصر من يتوجه في تفكيره توجهاً رجعياً.
ولنتساءل مرة أخرى: هل نحن نعدُّ أنفسنا لكي نعيش في هذا العصر والعصور التالية أم راضون بما نحن عليه؟
الإجابة لا تكون بإطلاق الشعارات وإنما بالصياغات الأساسية التي تتناول التفكير والسلوك الفرديين، وكذلك كافة البنى والمؤسسات الاقتصادية والسياسية والثقافية في دولنا.
وبناء على ما ذكرناه أعلاه يمكننا أن نؤكد أنّ العالم كله، وليس العالم العربي فقط، مشغول بالتخطيط الحضاري، لأنّ النخب السياسية والاجتماعية والثقافية أصبحت تدرك بشكل متزايد أنّ العصر قد قلب الموازين السياسية والاقتصادية والثقافية، وأنّ هناك حاجة للمجتمعات المعاصرة، حتى المتقدم منها اقتصادياً وتكنولوجياً، إلى تخطيط حضاري شامل، يعيد النظر في كافة المسلَّمات السياسية والاقتصادية والثقافية التي عاش العالم في ضوئها طوال القرن العشرين.