معقل زهور عدي
لا يستطيع المرء تجاهل الفروق البنيوية بين النخب السياسية السورية التي دخلت مضمار العمل السياسي في أواخر عهد الدولة العثمانية والعهد الفيصلي ثم انخرطت في الكفاح ضد الانتداب الفرنسي حتى الاستقلال، وبين تلك التي صعدت للعمل السياسي العلني من خلال الثورة السورية منذ العام 2011 بعد أن أمضت في العمل السري والسجون والملاحقات فترات طويلة امتدت لعشرات السنين.
والمقارنة هنا تأتي كمساهمة في الكشف عن الأسباب الكامنة وراء ما أظهرته تلك النخب االتي صعدت إلى السطح منذ العام 2011 من هشاشة وعجز عن قيادة الحركة الشعبية، ولابد هنا من التفريق بين الحديث عن أداء طبقة سياسية محددة وبين مايتعلق بأفراد لايمكن للمرء ان لا ينحني احتراما لتضحياتهم وجهودهم وإخلاصهم .
لكن ما طبع التجربة الثورية الأخيرة بطابعه من حيث النتائج السياسية هو أداء الطبقة السياسية كطبقة وليس كأفراد ضمنها , وهذا مايبرر إلقاء الضوء على الخصائص البنيوية لتلك الطبقة بالمقارنة مع مثيلتها في العهد السابق الذي يمتد منذ مطلع القرن العشرين ولغاية الاستقلال .
يمكن للمرء أن يرى بوضوح أن الطبقة السياسية الأولى تميزت بالتماسك الأخلاقي في الغالبية العظمى من أفرادها بحيث أصبحت تلك الصفة تنطبق إلى حد بعيد عليها كطبقة سياسية معظم أفرادها هم أبناء الأرستقراطية المدينية في بلاد الشام , تلك الأرستقراطية التي كان عمادها ملاك الأراضي والعقارات وكبار التجار , أما أبناؤها الذين انخرطوا في السياسة بدوافع قومية عربية أو استقلالية تحررية فلم يظهروا اهتماما بمنافعهم الشخصية , لافي حيازة الثروات ولا في التكالب على السلطة والطمع في الشهرة سوى بأقل قدر يمكن رصده وتسجيله .
أحد أهم من يمثل تلك الطبقة كان الرئيس السوري السابق شكري القوتلي , الذي ينحدر من عائلة ارستقراطية دمشقية , فبعد أن انخرط في العمل السياسي السري في دمشق ضمن جمعية ” العربية الفتاة ” تم اعتقاله في العام 1916 من قبل الادارة العسكرية العثمانية التي كان يرأسها جمال باشا , وفي السجن استطاع الطبيب الدمشقي أحمد قدري الاتصال به بصعوبة بينما كان هو أيضا موقوفا تحت التحقيق , وفي النقاش بينهما اتفق الاثنان على عدم البوح بأسرار الجمعية تحت التعذيب مهما كلف الأمر , واقترح أحمد قدري أنه في حال لم يعد بمقدور المرء تحمل التعذيب أن يقوم بالانتحار, وبالفعل واتقاء الوصول لتلك الحالة فضل شكري القوتلي الانتحار بقطع شريان يده , لكن جرى إنقاذه في آخر لحظة .
شكري القوتلي الذي فضل الانتحار على الاعتراف على رفاقه في الجمعية , بقي على نبل أخلاقه دون أن يتبدل طيلة حياته السياسية وبعد استقلال سورية وانتخابه رئيسا للجمهورية كان يرفض أن يتقاضى راتبا من الدولة بل يصرف على نفسه وعائلته من أمواله وممتلكاته , وحين توفي لم يجد لديه المحامي هيثم المالح الذي كلف بحصر ميراثه شيئا من مال سوى ماورثه عن أخيه من عقار .
ليس شكري القوتلي سوى أحد نماذج الشخصيات العديدة والتي طبعت تلك الطبقةالسياسية بطابعها الأخلاقي ومثله وزير الدفاع البطل يوسف العظمة الذي فضل الموت على القبول بغزو الفرنسيين لدمشق , وذهب للملك فيصل ليقول له أنا ذاهب للقتال وليس لدي طلب سوى رعاية ابنتي من بعدي , ويظهر ذلك كم أنه كان متيقنا من الإستشهاد .
أما سلطان باشا الأطرش فقد واجه جيش واحدة من أعتى الامبراطوريات الإستعمارية وأعني بها فرنسا بأسلحته البدائية من أجل أنه قام بحماية الثائر أدهم خنجر بعد أن لجأ إليه , قبل أن يتسع أفق كفاحه التحرري ليضم حرية واستقلال سورية كلها .
تلك الطبقة السياسية السورية ألهمت الشعب وقادت الكفاح السياسي في تلك المرحلة , ليس فقط بوعيها الوطني , ولكن بما قدمته من مثال أخلاقي في إنكار الذات والاخلاص والثبات في مختلف المراحل .
وفي حالة الطبقة السياسية السورية الحديثة فيمكن ملاحظة قدر كبير من التهافت على المنافع الشخصية والمناصب رغم التضحيات والصفات الكفاحية لأفراد كثيرين في تلك الطبقة , أما عن تضحيات الشعب فذلك أمر آخر فالحديث هنا يتناول الطبقة السياسية التي صعدت لواجهة الأحداث ولعبت ومازالت تلعب دورا في قيادة المعارضة السورية .
لاشك أن الفترة الطويلة التي قضتها تلك النخب في السجون والملاحقة قد أفرزت تيارا ضمنها يعتبر أن احتلاله للمناصب السياسية مكافأة يستحقها لما بذل سابقا من تضحيات , وهو في أدائه السياسي محكوم إلى حد كبير بنزعته الذاتية المفرطة والتي نشأت نواتها النفسية كرد على السجن والتعذيب والقمع الوحشي .
بدون شك فقد ساهمت الحالة النفسية السابقة في الانقسامات السياسية والتنظيمية التي سادت داخل النخب السياسية وأطر العمل التنظيمية التي ضمتها كما ساهمت في جعل تلك النخب قصيرة النفس في الكفاح حتى إن بعضها كان مقتنعا أن المسألة لاتعدو أن تكون مسألة شهور قليلة ويسقط النظام , وبالتالي فما يستحق الإهتمام وتركيز الجهد هو تقاسم المناصب وليس وضع الاستراتيجيات وبناء المؤسسات الحقيقية للعمل الوطني وتنظيم العمل وسط الجماهير والعناية بالكوادر الشابة وغير ذلك مما ينسجم مع متطلبات معركة شاقة وطويلة الأمد مع النظام واستبعاد أي وهم في التدخل الدولي كرافعة للتغيير .
وللإنصاف لم يكن هذا حال الجميع داخل النخب السياسية السورية في تلك المرحلة، لكن كما هو الحال في قانون غريشام فالعملة الرديئة تطرد العملة الجيدة , وهكذا كانت أفضل الكوادر السورية تبتعد باستمرار عن العمل السياسي ضمن الأطر التي تشكلت مع بداية الثورة السورية وتفضل العزلة والانكفاء .
المصدر: صفحة معقل زهور عدي