محمد ابو رمان
تنشغل العواصم الغربية ودوائر القرار، في أميركا وأوروبا اليوم، في بناء سيناريوهاتٍ وتصوّراتٍ لـ”اليوم التالي” للحرب على غزّة، يتعلّق بعضها بمن سيحكم القطاع، وبعضها الآخر يتعلّق بالوضع الفلسطيني برمّته، وتتجاوز سيناريوهات أخرى تلك المربّعات إلى ما هو أبعد، أي السيناريو الإقليمي، وترتيبات المنطقة، وعودة الحديث عن “ناتو شرق أوسطي” يتشكّل من الكيان الإسرائيلي ودول عربية عديدة. في الأثناء، تتبدّى معالم مختلفة ومغايرة تماماً لما سمي “اليوم التالي”، وتتحرّك ديناميكيات جديدة بصورة معاكسة لتلك الخطط، والمفارقة أنّ هذه الديناميكيات تأخُذ، لا أبعاداً محلّية وإقليمية فقط، بل عالمية أيضاً، ولعلّ إحدى أكثر الديناميكيات أهمّية، الضروري أن يُنتبه إليها، أزمة إسرائيل متعدّدة الأبعاد، التي تتدحرج بصورة متسارعة وملحوظة، وتستحقّ فعلاً الاهتمام والانتباه، لما سيكون لها من تداعيات وانعكاسات على الصُعد كافّة.
دعونا نبدأ من المشهد الداخلي في إسرائيل؛ خلال الأسابيع القليلة الماضية، وجدنا أنّ التحدي الهويّاتي آخذٌ في التجذّر بصورة كبيرة جداً، وتزداد حدّة الانقسام والاختلاف، والخلاف، بين القوى والأحزاب الدينية والعلمانية، وبدأت تنتقل من صعيد الخلافات داخل الحكومة الإسرائيلية إلى سؤال الهيمنة على المؤسّسة العسكرية، مع مطالبة كلّ من وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، بإقالة وزير الدفاع يوآف غالانت، وتغيير رئيس هيئة الأركان الحالي لجيش الاحتلال هرتسي هليفي. ومعروفٌ أنّ أزمة الهويّة بدأت تظهر جلية في إسرائيل في الأعوام المتأخّرة من خلال التحوّل في دور الأحزاب الدينية، من الإطار الهامشي إلى المركزي، في اللعبة السياسية في إسرائيل، بل وأصبح المتديّنون لاعبين رئيسيين في مؤسّسات الدولة، وأخذوا يوسّعون حضورهم في المؤسَّسات العسكرية، وهو الأمر الذي إمّا سيؤدّي إلى تحوّل إسرائيل بالكلّية إلى دولة أصولية دينية، مع اضمحلال قوة التيّار العلماني (الكلّ طبعاً يستند إلى الصهيونية التي تقوم بدورها على فكرة دينية، لكنّ المقصود هنا الأيديولوجيات المُرتبطة بفلسفة الحكم والنظام السياسي) أو الدخول في دوّامة أعمق من الصراع الأهلي.
لا تقف المسألة عند حدود التداخل بين الديني والسياسي في إسرائيل، بل ترتطم بكمّ كبير من الخطوط الخطيرة الأخرى، فمن الواضح أنّ خطاب القوى الدينية الإسرائيلية لا يروق للحليف الأكبر؛ الولايات المتحدة، ويؤدّي إلى انقساماتٍ في القوى الصهيونية العالمية، فضلاً عن أنّه (هذا الاتجاه) يدفع بشدّة عديداً من الحلفاء الأوروبيين إلى الابتعاد عن إسرائيل، ولاحظنا كيف تباينت واختلفت مواقف القوى الأوروبية منذ بداية السابع من أكتوبر/ تشرين الأول (2023). وهنالك شعور بالقلق يتزايد في أوساط حكومات غربية عديدة من الأجندة الحقيقية لقوى اليمين الإسرائيلي. بالطبع، مثل هذا الصعود الديني في إسرائيل، الذي يتبدّى اليوم أكثر من أيّ وقتٍ مضى، كفيلٌ أيضاً بتفجير قنابل أخرى عديدة، منها القلق لدى فلسطينيي الـ48 وسكّان القدس المحتلّة، وهم يشكّلون قرابة 20% من السكّان، وبالتالي، تستهدف مثل هذه الأجندة التي لا ترى غير الهويّة اليهودية لإسرائيل، وتهويد القدس، المواطنين الفلسطينيين هناك، وبالتالي تنذر بأزمة داخلية كبيرة أخرى.
المفارقة أنّه في وقتٍ تستمر فيه مظاهرات أهالي الأسرى الإسرائيليين لدى حركة حماس واعتصاماتهم، فإنّ مظاهرات أخرى لعشرات المتدينين الإسرائيليين جرت احتجاجاً على النقاش في قانون التجنيد الإجباري في إسرائيل (وهو قانون جدلي خاصّة في ما يتعلق بتأجيل خدمة الطائفة الدينية؛ الحريديم، ونسبتهم في إسرائيل تقترب من 10%). وفي الوقت نفسه، بدأت الأزمة تتصاعد داخل الحكومة، ومن الواضح أنّ هنالك تنسيقاً أميركياً أوروبياً أكبر مع المعارضة الإسرائيلية، سواء مع وزير الدفاع غالانت أو زعيم المعارضة يائير لبيد. وعلى الأغلب، لا يفضّل الغرب عموماً التعامل مع الحكومة الحالية، وإن لا يعني ذلك في أيّ حالٍ التخلّي عن التزامات الغرب تجاه الكيان، أمنياً واستراتيجياً، لكنّها المرّة الأولى التي تحدُث فيها تقاطعات ملحوظة بين الصراع الديني العلماني داخل إسرائيل والسياسات الغربية، بخاصة الأميركية.
لو انتقلنا من الصعيد السياسي الإسرائيلي إلى الصعيد الإقليمي، وحالة الحرب متعدّدة الجبهات، التي تخوضها إسرائيل اليوم، فهي تغوص في حرب عصابات مرهقة وقاسية مع “حماس” في قطاع غزّة (وفقاً للإحصاءات الإسرائيلية هنالك أكثر من 600 قتيل وقرابة 3200 جريح، وهنالك حديث عن أعداد كبيرة من الجنود يتلقون العلاج النفسي) تستنزف الموارد الاقتصادية والعسكرية بصورة كبيرة. في الوقت نفسه، تتصاعد الاشتباكات مع حزب الله على الحدود الشمالية، ومع المقاومين المسلّحين في الضفة الغربية، ويشنّ الحوثيون عمليات مستمرّة ضدّ السفن المتّجهة إلى إسرائيل، وتوجّه ما يسمّى “المقاومة العراقية” صواريخ بصورة مستمرّة على الأجواء الإسرائيلية، وتجمّدت، ولو مرحلياً، عملية التطبيع المُرتقبة مع السعودية، ووجّهت لها إيران مئات المُسيّرات والصواريخ المُجنّحة، وتتأزّم علاقاتها الديبلوماسية مع تركيا. وفي وقتٍ كانت فيه إسرائيل تحتفل بما يسمّى السلام الإقليمي قبل الحرب على غزّة، وتتباهى بنفوذها، تتلقّى اليوم الضربات من كلّ الجهات والجبهات، حتّى ولو لم تكن قويّة وموجعة، لكن حتّى على الصعيدين الرمزي والسيكولوجي، فإنّها تعيد إسرائيل إلى المُربّعات الأولى من الصراع الوجودي.
ربما يمثّل ذلك كلّه مشكلات مُتوقّعة ممكنة لطبيعة البيئة الإقليمية المُحيطة بإسرائيل، والظروف الداخلية، لكن ما هو جديد بالكلّية، وكان غير مُفكَّرٍ فيه قبل ذلك، هي الموجة العالمية من الغضب من إسرائيل، وتفكّك النفوذ العالمي الكبير، بل الهيمنة الصهيونية على وسائل التأثير الإعلامي والأكاديمي والسياسي في الغرب، بخاصة في الولايات المتحدة، وما كان في البداية وصمة عار على الجامعات الأميركية لصمتها المُخجل عن حرب الإبادة في غزّة، تحوّل اليوم إلى حركة احتجاج غير مسبوقة في الجامعات الأميركية والغربية، من الجيل الجديد، ومعهم نُخَب من الأكاديميين، الذين كسروا هيمنة الصهيونية العالمية واحتكارها وسائل التأثير والسيطرة على العقول التقليدية، وبدأوا فيضاناً من الحركات والحِرَاكات، أظهرت تراجعاً كبيراً في الرواية الصهيونية والإسرائيلية التي كانت مسيطرة بسبب النفوذ المعروف للوكالات اليهودية والصهيونية، حتّى وصل الأمر بمؤرخٍ مهمّ ومُعتبرٍ مُعَادٍ للصهيونية، هو إيلان بابيه، أن يتوقّع تفكّك قدرة اللوبي الصهيوني خلال الأعوام المقبلة، بسبب الحرب على غزّة. إنّ حركة الجامعات التي تزامنت مع القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا (ثم انضمت إليها عدة دول) في محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل، بالإضافة إلى المظاهرات والمسيرات الأخرى الكبيرة في العواصم الأوروبية، تمثّل مجتمعةً ديناميكية جديدة مهمّة، صحيح أنّها قد لا تؤثّر مباشرة على الحرب، لكنّها مُهمّة في الأبعاد الدولية للصراع، خصوصاً في مجال الحرب الإعلامية العالمية الشرسة على الروايات، بالإضافة إلى مواقف حكومات غربية خرقت، هي الأخرى، الانحياز للمشروع الصهيوني، مثل النرويج وإسبانيا وبلجيكيا وأيرلندا وجنوب أفريقيا والبرازيل وغيرها.
لطالما كنتُ أخشى أنّ تعقد النُخَب السياسية والمقاومة الرهان على أن تؤدّي هذه المواقف والتطوّرات إلى تغييرات جوهرية في موازين القوى المُختلة أصلاً، التي تميل لمصلحة إسرائيل، وهي، أي تلك التغيرات الجوهرية، لا تُلغي الكارثة الإنسانية في غزّة. ولكن من الضروري أن ننظر إلى الأبعاد الكلّية والجوانب المتعدّدة لتداعيات الزلزال في غزّة، وللآثار القريبة والبعيدة لهذه الحرب، فلربما تنتهي الحرب ويبدأ المشروع الشرق أوسطي الجديد (اليوم التالي الرسمي) في الأشهر المُقبلة، لكن ذلك، في المقابل، لا ينفي نتائج وآثاراً أخرى ستعتمل في الواقع، مع مرور الوقت، وتتبدّى آثارها لاحقاً.
المصدر: العربي الجديد