لم تخب جماعة المعارضة السورية الرجاء فيها. فهاهي في “آستانا 9” تكمل مشروعها ما بعد الثوري والمافوق شعبي بانبطاح ملفت. وربما كان أصدق ما قاله رئيس وفدها، أحمد طعمة، أن الثلة المعارضة التي ينتمي إليها لم تطرح نفسها بديلاً عن النظام. وهو محق في توصيفه الدقيق لرؤيتهم المعارضة. فالثورة لم تكن تعني لهم شيئاً، بقدر ما كانت جسراً عبرت عليه طموحاتهم في أن يكون لهم شأن ما. وإلا ما كان للبون الشاسع بين المواقف المعارضة وتلك الشعبية أن يظهر فاقعاً كما بدا. ولو تجاوزنا التسمية التي أضفت بعض مشروعية على من نزعها عنه الشعب، فالمواقف والمقاربات كلها تدل على أن الشعب وثورته وتضحياته هي آخر الأولويات في سلم التسلق المعارض نحو وظيفية العمل وميكيافيلية المقاربات. وكل الوقائع تدلل على أن هذا هو مشروع المعارضة، وقد اكتمل عند هذا الحد من المزايدة.
الجماعة لم يتجاوزوا قط اليافطة التي كتب عليها معارضة. عجزوا عن الارتقاء بفعل المعارضة إلى فعل الثورة، حتى نتحدث عن فعل قيادة هذه الثورة. لا بسبب انعدام الكاريزما، ولا بسبب انعدام الرؤية، و لا بسبب تضارب الأهداف، و لا لأن الثورة كانت فعلاً طارئاً على سكونيتهم، كما كانوا هم طارئين على ضميرها. لا، لم تكن هذه أسباب التكلس فقط. لم يتجاوزوها لأنهم ببساطة لم يملكوا بوصلة ما بعد اليافطة.
توقفوا هناك، أمام المسمى، مأخوذين بالصدمتين، صدمة الثورة التي سبقتهم بآلاف الشهداء، وصدمة الجرأة الطفولية على الإقدام على الفعل المتأخر ضد النظام، في تشكيل الفريق المضاد، وظلوا حبيسي الصدمتين. نعم، صاروا معارضين، لكنهم لم يستطيعوا استيعاب اللوحة حتى يستوعبوا تفاصيلها. لوحة فيها ثورة، وضحايا، وانشقاقات، ومشاريع.، وهناك أيضاً داعمون، ولديهم أصدقاء يترقبون. أي مشهد أكثر اكتمالاً من هذا. كل ما فهموه أن العناصر متوافرة لنجاح استثمار المواقع.
لم يتركوا شيئاً لم يفعلوه لإظهار لياقتهم في إدارة الحدث. كل الإجراءات الشكلية التي يتطلبها تقديم أوراق الاعتماد إلى العالم قاموا بها: الاسم، والرؤية، والأهداف، والرسالة. ثم الهيكلية والنظام الداخلي. مع تذييل كل شيئ بالحر، بدءاً باللملمة الحرة لبعضهم، وانتهاء بالراتب الحر، أما ما بينهما فتحصيل حاصل، إذ للثورة رب يحميها. فكان الاختراق السهل، ليبدأ منظر السقوط الحر للفعل العراضي برمته يتتالى، فلا نسمع إلا أصواتاً تسبق التلاشي.
في وقت ضبطت فيه ساعات العالم على توقيت السقوط المدوي للنظام، بانتظار انتهاء الأيام المعدودة التي بشرت بها كلينتون، وقف المعارضون يتابعون عد تلك الأيام، مطمئنين. ثم التفتوا إلى استراتيجية الاستجداء يضعون لها السياسات والخطط، فالأيام معدودة، ولا بد من جني سريع. وشرد فكر الرعاة حتى كسروا الجرة فسال الدهن على الرؤوس.
كان الانتقال الذي تجاوز محلية الحدث إلى إقليمية الاستطالات، مع التدخل السافر لحزب الله، ودولية التأثير، مع الانخراط المباشر لإيران، وبدء عمليات الحرب بالوكالة بين الكل ضد الكل، أكبر بكثير من نظرية الضربة القاضية التي قام عليها عجزهم السياسي. وزاغت الرؤية منهم وهم يتابعون تغير الألوان على الأرض. فكان الارتماء المراهق في الأحضان. تلاه التنازل عن القرار، ومن ثم المعسكرات والصراعات. وصارت المؤسسات المعارضة مجرد حالة استعراضية لا أكثر.
صار تحدي استمراريتهم كأفراد معارضين أهم من التعاطي بالتهديدات الجدية التي تحدق بمصير الثورة. وكأي موظف يريد أن يثبت أحقيته بالمنصب، أخذت الانصياعات تأخذ منحى أكثر حدة. وتدهور الحال من قيادة ثورة وطنية إلى قيادة صراع بين الأجنحة العراضية.
أصيب المعارضون بآفة جماعة الأخوان المسلمين، لا بسبب يأسهم من إمكانية الوصول إلى سدة أي قيادة وحسب، بل لأنهم اكتشفوا أنهم لا يملكون إمكانية لعب غير هذا الدور الوظيفي، دور الظل. فكان تقديم المزيد من التنازلات التكتيك الوحيد المتاح لبقائهم على رأس مهمتهم. كانت التوسعات، وكانت هيئة المفاوضات، والمفاوضات، واستمر الأداء الصفري لمن أرادوا قيادة الثورة بالشوكة والسكين.
وهنا، علينا أن نعترف بعجز سياسيينا عن أن يكونوا أكثر من منظرين في أفضل أحوالهم، ولهذا ما يفسره لكن لا يبرره. إذ شتان ما بين ممارسة السياسة والمرء ممثل حقيقي لثوار، وخارج من عباءة ثورة ومن رحم معاناتها، وبين تعاطي المرء معها أكاديمياً أو فلسفياً وهو متكئ على مكتبه أو على ماضيه المناهض لأسلوب الحكم وحسب. فكيف إن كان هذا المرء مرتهناً لجهة خارجية وليس أكثر من موظف برتبة معارض؟
مع دخول اللاعب الروسي بثقله لمنع السقوط، أخذت التغيرات على الأرض بالتسارع، وبدأت المراجعات تفرض نفسها على الجميع. فحساب الحقل لم ينطبق على حساب البيدر. لا السعودية كانت جدية أمام المد الإيراني، لاسيما بعد ظهور ابن سلمان ومقارباته الانقلابية، ولا أميركا كانت جدية في مواجهة العناد الروسي، ولا أوروبا كانت قادرة على الفعل المؤثر بسبب شيخوخة التعاطي مع تفاهمات الكبيرين. وكما كان الحال دائماً، وجدت المعارضة نفسها خارج إطار التفاهمات التي تجري، فكان ظهور فريق “الواقعية السياسية”.
عجلت سقوطات البؤر المقاومة الأخيرة بإنهاء صراع المصالح لحساب هذا الفريق، فكانت الاستقالات والانتخابات الأخيرة صرخات ما قبل التسليم، مع اسوداد المشهد وتهشم شعار الثورة على صخور السقوط المدوي للمعارضة الصورية.
المهمة تمت بنجاح. فشلوا في إدارة الثورة فأفشلوها. شتتوا الفعل الثوري بإدارتهم الفاشلة للصراع. ولم يبق لهم إلا الارتماء في أحضان أي طائف قد يلوح في الأفق المعتم لسد أي خانة، أكان هذا الطائف جنيفياً أو سوتشياً أو آستانياً. وبعد التعديلات الأخيرة على خريطة المواقف والتوضعات، يزداد الظن أن الجبهة الوطنية التقدمية تتمتع بالمرونة الكافية لاستقبال وافد جديد. أما أنه ساقط فهي علامة مسجلة أساساً لجماعتي الجبهة والمعارضة.