مايكل غروسو*
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
عندما أعطيتُ صوتي لجو بايدن في الانتخابات الأخيرة، لم أكن قد اكتشفت بعد التزام رئيسنا الأميركي الحازم بطريقة فريدة بدولة إسرائيل، ولا التزامه المتعصب بالصهيونية. ورأيته في مقطع فيديو يبتسم بحماس ويقول: “لو كنت يهودياً، لكنت صهيونيا”. وشاهدت فيلمًا قصيرًا يضم مجموعة من صور الرئيس، بدءًا من غزواته الأولى في عالم السياسة حتى الوقت الحاضر، وكلها تعلن بفخر صهيونيته -القوة الدافعة لليمين الإسرائيلي المتشدد الذي يجسده نتنياهو. وقد اكتسب الرئيس مؤخرًا لقبًا جديدًا، “جو الإبادة الجماعية”. وتمكنت من رؤية بايدن ونتنياهو على شاشة التلفزيون العام، وأذرعهما ملتفة حول بعضهما بعضا، ويعانقان بعضهما بعضا بإعجاب متبادل. كان ما رأيته هو الرئيس الأميركي وهو يضع أسلحة ذات قوة تدميرية هائلة، ومليارات الدولارات في حضن الدولة الصهيونية. وتعني صورة احتضانهما شيئًا مثيرًا للاشمئزاز أخلاقيا. إنها أصابع الاتهام الدموية العملاقة التي تشير إلى الهجوم الصهيوني المدعوم من الولايات المتحدة على فلسطين. وما تعنيه هو إبادة الشعب الفلسطيني الذي سرقت إسرائيل أرضَه وتحتلها الآن.
في مواجهة كل هذه الفظائع الواضحة بفظاعة، يقوم رئيس أقوى دولة على وجه الأرض بين الحين والآخر، بلطف واحترام، بتذكير الجيش الإسرائيلي بالتوقف عن قصف كل شيء في مرمى النظر؛ رجاءً هاجموا بلطف، والعبوا وفقًا للقواعد! لقد أعطيناكم الأسلحة، ولكن من فضلكم، كونوا أكثر دقة عندما تسقطون قنابلنا التي تزن ألفي رطل على الإرهابيين. حاولوا التقليل من الذبح الوحشي للأبرياء. وردًا على ذلك، يبصق نتنياهو في وجه رئيسنا الملتزم. والآن، بعد سبعة أشهر من تكديس جبل من الجثث الفلسطينية، يبدو أن بايدن يستخدم سلطته لمنع القتل الجماعي للمدنيين في رفح.
لكن هذا الموقف المعارض ظاهرياً هو محض وهم. إنه شيء سياسي تمامًا. وفي الحقيقة، استمر ولاء بايدن المثابر لإسرائيل الصهيونية منذ ما يقرب من سبعة أشهر، حيث سعت الأخيرة على مرأى ومسمع من العالم إلى تجويع وإبادة الفلسطينيين، وتدمير حيواتهم ومنازلهم وكنائسهم وجامعاتهم ومستشفياتهم وآثارهم -وحتى مقابرهم وجثثهم المدفونة على عجل، وإخفاء الموتى كما لو كانوا جزءًا من الأنقاض. ولم يطالب بايدن المتملق بعد بوقف دائم لإطلاق النار. وعلى الأكثر، سيتوقف مؤقتًا عن إرسال الأسلحة التي تمطر الموت على الفلسطينيين. إن معانقة أمثال نتنياهو هي صورة تعني شيئًا: الأنقاض الهائلة لثقافة عظيمة وآلاف عدة من القتلى الفلسطينيين، معظمهم من النساء والأطفال.
ما يزال إخلاص بايدن للقضية الصهيونية ثابتًا -وغامضًا بطريقة ما، في رأيي. يجب على الرئيس، مثلي عندما كنت كاثوليكياً ممارساً في طفولتي، أن يدلي بسر الاعتراف، على ما أفترض. وكما أتذكر، أنتَ تركع في كشك الاعتراف المغلق، وعندما يفتح الكاهن الكوة، تقول: “باركني يا أبي، لأنني أخطأت… ثم تشرع في سرد جرائمك، وفي النهاية يصِف الكاهنُ كفارتك؛ في العادة، تكرار بعض الصلوات. ومن الصعب بالنسبة لي أن أتخيل كيف يتعامل رئيسنا الكاثوليكي مع تواطئه في القتل الجماعي لآلاف الأبرياء.
ما الذي يلهم إخلاص بايدن للصهيونية؟ يجب أن نلاحظ أن الصهيونية كانت محتقرة لدى العديد من اليهود الأكثر شهرة وتميزًا. في العام 1930 كانت هناك حملة من أجل ”ييشوف”؛ مستوطَنة يهودية في فلسطين. وأرسل أحد المنظمين، حاييم كوفلر، رسالة إلى سيغموند فرويد يطلب منه فيها تأييدًا كتابيًا لما يعرِّفه إيلان بابيه اليوم بأنه “تطهير عرقي” لسكان فلسطين. وأخذ فرويد وقته في الرد: “لا أعتقد أن فلسطين يمكن أن تصبح دولة يهودية، ولا أن العالمَين المسيحي والإسلامي سيكونان مستعدين أبدًا لقبول أن تكون أماكنهما المقدسة تحت الرعاية اليهودية. كان ليبدو لي أكثر منطقية أن أقيم وطنًا لليهود على أرض بعبء تاريخي أقل”.
وفي رده على مسألة الصراع بين اليهود والعرب حول الحقوق في الأرض وآثارها التاريخية، أجاب فرويد أن “التعصب الذي لا أساس له لشعبنا هو المسؤول جزئيًا عن إيقاظ عدم الثقة العربية. لا يمكنني استدعاء أي تعاطف على الإطلاق مع التقوى الموجهة بشكل خاطئ، والتي تحوِّل قطعة من جدارٍ هيرودي** إلى آثار وطنية، وبالتالي تسيء إلى مشاعر السكان الأصليين”. وخلص فرويد إلى أنه الشخص الخطأ لمواساة “شعب مخدوع بأمل غير مبرر”. وعند قراءة رد فرويد، كتب الدكتور كوفلر ملاحظة في الزاوية العليا من الرسالة، “لا تُري هذا للأجانب”. واستغرق الأمر 60 عامًا قبل أن يُسمح بنشر هذه الرسالة.
دعونا نلقِ نظرة على رسالة كتبها ألبرت أينشتاين حول المشروع الصهيوني، كان قد كتبها من برينستون في 21 كانون الثاني (يناير) 1946 ردًا على طلب من اللجنة الأنجلو أميركية لفلسطين. كانت رسالة أينشتاين واضحة وموجزة للغاية:
”أنا أؤيد تطوير فلسطين كوطن لليهود، ولكن ليس كدولة منفصلة. يبدو لي من المنطق البسيط أننا لا نستطيع أن نطلب أن يُمنح لنا الحكم السياسي على فلسطين حيث ثلثا السكان ليسوا يهودًا. ما يمكننا، ويجب أن نطلبه، هو ضمان وضع ثنائي القومية في فلسطين مع حرية الهجرة. إذا طلبنا أكثر فإننا سنلحق الضرر بقضيتنا ومن الصعب بالنسبة لي أن أفهم أن صهاينتنا يتخذون مثل هذا الموقف المتعنت الذي لا يمكن إلا أن يضر بقضيتنا”.
الملخص
-أ. آينشتاين (توقيع)
ينبغي أن يكون واضحًا أن أينشتاين كان ليشعر بالفزع من الجهد الأخير للقضاء على الشعب الفلسطيني، ومنازلهم، وثقافتهم، وبنيتهم التحتية، وعلى مرأى ومسمع من الكوكب بأسره -الإبادة الجماعية المذهلة الكاملة، التي صادقت عليها ببذخ نفس “اللجنة الأنجلو-أميركية” التي طلبت من آينشتاين أن يمنحها بركاته.
وأخيرًا، انتهى المطاف بأستاذتي في جامعة كولومبيا، حنا أرندت، وهي من أعظم فلاسفة القرن العشرين، بمساواة الصهيونية بالنازية. وإذن، ما الذي يراه جو بايدن لتبرير التطهير العرقي والمذابح والفظائع التي تحبس الأنفاس؟ ما البصيرة الملهمة التي يمتلكها جو بايدن والتي فوتتها العقول الاستثنائية لآينشتاين وفرويد وحنا أرندت؟
ربما نعثر على فكرة إذا نظرنا في معتقدات القوميين المسيحيين. يعتقد بعض المسيحيين اعتقادًا راسخًا بأنه قبل أن يتم تأسيس ملكوت الله على الأرض، يجب أن يعود اليهود إلى وطنهم. ويبدو أن هذا يفسر سبب تحيز العديد من الأميركيين لإسرائيل، ولماذا يسمح لهم اعتقادهم، الذي أقره الله، بالتسامح مع الإبادة الجماعية للفلسطينيين. وقد صرح مراسل صحيفة “هآرتس” جدعون ليفي بأن الإسرائيليين أقنعوا أنفسهم بأنهم “شعب الله المختار”، وهو ما يخولهم بإذلال وتجويع وذبح الفلسطينيين من دون الشعور بالسوء حيال ذلك. وفي الواقع، يؤيد 95 في المائة من الإسرائيليين الحرب، ويعتقد الكثيرون أن العمليات العسكرية في غزة تحتاج إلى تكثيف. لاحظ التشابه هنا مع النازيين الذين استخدموا أساطيرهم العنصرية لتبرير قتل اليهود. هل يعتقد بايدن أيضًا بأن اليهود يجب أن يعودوا إلى وطنهم المفترض قبل أن يصبح “المجيء الثاني” ممكنًا؟ هل هناك أسطورة دينية خبيثة يرتبط بها بغرابة، أم أن السخاء اللامحدود لخزائن (أيباك) هو الذي أسر قلب بايدن وروحه؟ هل هو مجرد أداة حاسمة للحفاظ على حصن الإمبراطورية الأميركية في الشرق الأوسط؟ كما قلت، لقد أعطيتُ صوتي لبايدن؛ كان ما جذبني إليه هو خطاب روحه. ومن المحزن أن أقول إن الخطاب الوحيد المتبقي الآن هو خطاب أربعين ألف روح مقتولة تصرخ من أجل الإنصاف والعدالة.
ثمة مثال إضافي آخر لشاهد يختلف بحدة عن الرئيس الأميركي. توفي الفيلسوف وعالم الرياضيات العظيم، برتراند راسل، في 2 شباط (فبراير) 1970. وفي اليوم الأخير من حياته، كتب ما يلي عن الشرق الأوسط:
”تستند المرحلة الأخيرة من الحرب غير المعلنة في الشرق الأوسط إلى سوء تقدير عميق. إن غارات القصف في عمق الأراضي المصرية (فلسطين اليوم) لن تقنع السكان المدنيين بالاستسلام ولكنها ستقوي عزمهم على المقاومة. هذا هو الدرس المستفاد من كل قصف جوي. لم يرُدّ الفيتناميون الذين تحملوا سنوات من القصف الأميركي الثقيل بالاستسلام، وإنما بإسقاط المزيد من طائرات العدو. وفي العام 1940، قاوم أبناء بلدي غارات هتلر بوحدة وتصميم غير مسبوقين. ولهذا السبب، ستفشل الهجمات الإسرائيلية الحالية في تحقيق غرضها الأساسي، ولكن يجب في الوقت نفسه إدانتها بقوة في جميع أنحاء العالم. إن تطور الأزمة في الشرق الأوسط خطير وتعليمي على حد سواء. لأكثر من 20 عامًا توسعت إسرائيل بقوة السلاح. وبعد كل مرحلة من مراحل هذا التوسع تعود إسرائيل إلى “العقل والمنطق” وتقترح “إجراء مفاوضات”. هذا هو الدور التقليدي للقوة الإمبريالية، لأنها ترغب في ترسيخ ما أخذته مُسبقًا بالعنف بأقل قدر ممكن من الصعوبة. وكل غزو جديد يصبح الأساس الجديد للتفاوض الذي تقترحه القوة، والذي يتجاهل الظلم الذي انطوى عليه العدوان السابق.
يجب إدانة العدوان الذي ترتكبه إسرائيل -ليس لأنه لا يحق لأي دولة أن تقوم بضم أراض أجنبية فحسب، ولكن لأن كل توسع تقوم به هو تجربة لاكتشاف مدى العدوان الإضافي الذي سيتسامح معه العالم. وصف الصحفي في واشنطن، آي. إف. ستون، اللاجئين الذين يحيطون بفلسطين بمئات الآلاف مؤخرًا بأنهم “حجر الرحى الأخلاقي حول عنق يهود العالم”. وقد دخل العديد من اللاجئين الآن الكثير من العقد الثالث من وجودهم المحفوف بالمخاطر في مستوطنات مؤقتة.
إن مأساة شعب فلسطين هي أن بلده “أُعطي” من دولة أجنبية لشعب آخر من أجل إنشاء “دولة” جديدة. وكانت النتيجة أن العديد من مئات الآلاف من الأبرياء أصبحوا بلا وطن بشكل دائم. ومع كل صراع جديد يزداد عددهم فحسب. إلى متى سيظل العالم مستعدًا لتحمل استمرار هذا المشهد من القسوة الوحشية؟ من الواضح تماما أن للاجئين كل الحق في الوطن الذي طردوا منه، وأن إنكار هذا الحق هو لب الصراع المستمر. لا يمكن لأي شعب في أي مكان في العالم أن يقبل بأن يتم طرده جماعياً من بلده. كيف يمكن لأي أحد أن يطلب من شعب فلسطين قبول عقوبة لن يقبلها أي أحد آخر؟ سوف تشكل التسوية العادلة الدائمة لقضية اللاجئين في وطنهم عنصرًا أساسيًا في أي تسوية حقيقية في الشرق الأوسط.
كثيرًا ما يقال لنا إن علينا أن نتعاطف مع إسرائيل بسبب معاناة اليهود في أوروبا على أيدي النازيين. إنني لا أرى في هذا الاقتراح أي سبب لإدامة أي معاناة على الإطلاق. إن ما تفعله إسرائيل اليوم لا يمكن التغاضي عنه، والتذرع بأهوال الماضي لتبرير أهوال الحاضر هو نفاق فادح. لا يُقتصر الأمر على أن إسرائيل تحكم على عدد كبير من اللاجئين بالبؤس فحسب، ولا على أن العديد من العرب تحت الاحتلال محكوم عليهم بالخضوع للحكم العسكري فحسب؛ إن إسرائيل تحكم على الدول العربية الخارجة حديثًا من الحكم الاستعماري باستمرار الفقر حيث للمتطلبات العسكرية الأسبقية على التنمية الوطنية.
ينبغي لكل من يريد أن يرى نهاية لإراقة الدماء في الشرق الأوسط ضمان ألا تتضمن أي تسوية بذور صراع مستقبلي. وتقتضي العدالة أن تكون الخطوة الأولى نحو التسوية هي انسحاب إسرائيل من جميع الأراضي التي احتلتها في حزيران (يونيو) 1967. ثمة حاجة إلى حملة عالمية جديدة للمساعدة في تحقيق العدالة لشعوب الشرق الأوسط التي طالت معاناتها”.
*د. مايكل غروسو Michael Grosso: أستاذ درَس الفلسفة في جامعة كولومبيا. درَّس الفلسفة والعلوم الإنسانية في جامعة كينيدي، وجامعة نيويورك سيتي، وجامعة نيو جيرسي سيتي. وهو عضو في مجلس إدارة “الجمعية الأميركية لممارسي الفلسفة”.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The Zionist Politics of Joe Biden
هامش:
**يشير مصطلح “هيرودي” Herodian عادةً إلى شيء متعلق أو مرتبط بسلالة هيروديان، وهي عائلة حاكمة في مقاطعة يهودا الرومانية خلال القرن الأول قبل الميلاد والقرن الأول الميلادي. كان أشهر أفراد الأسرة الهيرودية هو الملك هيرودس الكبير، المعروف بمشاريع البناء الطموحة وبحكمه الوحشي.
المصدر: الغد الأردنية/(كاونتربنش)