حسام أبو حامد
في اسكتش “البوسطجي” للأخوين رحباني، من مسرحية “قصيدة حب” (1973)، يحمل “البوسطجي” (ساعي البريد) رسالة من “أسعد” ابن “شدّاد”، إلى “سلمى” ابنة “محجوب”، ويخشى الأخير أن يكون الرجل في تلك الرسالة “آخد راحته” في الحديث إلى ابنته، ولأنّه أمّيٌّ، يطلب من أشخاص متعدّدين (البوسطجي، والمعلمة، وشدّاد، والد أسعد) قراءة الرسالة، فتتعدّد القراءات بتعدّد القارئين. فمرّة تكون رسالة عشق، وفي أخرى، تتعلق بشؤون الدراسة، وفي ثالثة، تتضمّن تحذيراً بشأن خلافات مالية بين محجوب وشداد. ومع تعدّد القراءات، يسأل “محجوب” بحسرة: “وين هيه الحقيقة؟”.. يأتيه الجواب جماعياً: “انت لا تفكّر نحنا منفكّر عنك”، والنصيحة: “انبسط.. اشتغل.. وكول ونام… وطنّش”. ينبّه هذا المنولوج الغنائي الساخر إلى “التطنيش” سياسة تقتضيها أيديولوجيا السلطة (أيّ سلطة)، لإحكام قبضتها المعرفية على عقول الجماهير، وطرحَ مُبكّراً، في السياق العربي، سؤالاً بشأن ما إذا كانت الحقيقة التي يفرض الواقع المُتغيّر نسبيتها، فاتحاً أبواب التلاعب بها، يمكن أن تتحوّل إبرةً في كومة من قشّ؟
بعد ما يزيد على نصف قرن من “البوسطجي”، ها نحن وقد داهمت الحداثة، بعُجَرِها وبُجَرِها، تحديثنا المُتعثّر، فأصبحنا ننوس بين التراث والحداثة، في نزاع بين تقدّم وقديم، في غياب مهارة التركيب، بوصفها واحدةً من مهارات التفكير العليا، فبدى العالم بالنسبة لنا أحداثاً متفرّقة منفصلة، تبدو روابطها باهتة، وعلاقاتها السببية والجدلية عصية على الكشف والتنظير والفهم. وفي عصر شبكات التواصل الاجتماعي، انهارت وساطة الدولة، التي حدّدت للجمهور العربي ما يشاهد وما يقرأ وما يسمع، مما وفّر، كما يُفترض، فضاءً عاماً أكثر ديمقراطية ومشاركة في مناقشة قضايا المجتمع والسياسة، وتعزيز ثقافة الحوار والنقاش، والانفتاح على الآخر. مع ذلك، جعلت تلك الشبكات كومة القش أكبر فأكبر، وأصبح البحث عن إبرة الحقيقة مُهمّة شاقّة، في ظلّ وفرة المعلومة وندرة المعرفة، وتشعّب في الآراء في مقابل شحّ في القيم الموضوعية، وكثرة عواملَ تفرّقُنَا، بدل التقائنا في مشتركات ضرورية لبناء وطن وإنسان، لمصلحة معارك وهمية وإشكاليات زائفة، وضجّت عَرْصَات ذلك “الفضاء العام” بالمغالطات المنطقية، وما تنطوي عليه من حجج مضللة، وتأكيدات غير موثوقة، تبدو وكأنّها مسلّمات أو حقائق مُثبتة.
ولعل أكثر هذه المغالطات انتشاراً تأتي في معرض سعيك إلى التخفّف من عناء البرهنة، عبر نوع من الاستدلال الدائري، مصادراً على المطلوب، أي إثبات أنّ ما تقوله حقيقة، بدلًا من ذلك، تسلّم، وتطالبنا بالتسليم، بصحّة ما يتوجّب إثباته. ولعلّ من تلك المغالطة أسطورة الحاكم الذي لا يعلم، فيقول أحد جهابذة الموالاة لنظام سياسي: الرئيس لا يعلم أنّ حاشيته فاسدة، وهو لن يرضى عن تصرفاتها لو علم ذلك، وهو الرأي المُختزل في عبارة مشهورة “الرئيس منيح بس الي حوليه ساقطين”، فالمطلوب، أولاً، اإثبات أن الحاكم لا يعلم. هل يمكن ذلك؟ أليس الجهل بأحوال “الرعية” أشد قتلاً من الاستبداد؟ … حين تصادر على المطلوب فأنت تجعل النتيجة متضمَّنةً سلفاً في المقدّمات، فتقع في تحصيل حاصل، كأن تقول: ما دُمت لا أكذب، فأنا إذن أقول الحقيقة. وكأنك تقول ما قالته أبيات شعر منسوبة إلى علي بن سودون الجركسي القاهري (ق 14 م): “كأننا والماء مِن حولِنا/ قوم جلوس حولهم ماءُ… ويقال إنّ الناس تنطِق مِثلنا/ أمّا الخِراف فقولها مأماءُ/ كلّ الرجالِ على العمومِ مُذكّرٌ/ أما النِساء فكلهن نِساءُ”. ليردّ عليه ابن الوردي مُسخّفاً، بقوله: “أوقَد الطبعُ الذكاءَ له/ فكاد يحرقه من فرطِ إذكاءِ/ أقام يُجهد أياماً قريحَته/ وشبّه الماء بعد الجَهْدِ بالماءِ”.
وإحدى حيل المحاججة، المقصودة أو غير المقصودة، تتمثل في أن تصنع نسخة مشوّهةً من حجّةِ خصمك، ليسهل عليك دحضها والتغلّب عليها، متورّطاً في مغالطة “رجل القش”، كأن يقول قائل إنّه ضدّ عقوبة الإعدام، وإنّها تتناقض وقدسية الحياة، فتهاجمه قائلاً: إذاً حياة القاتل لديك أهم من حياة الضحية. وما اتهام طلاب الجامعات الغربية، الذين انتفضوا لنصرة فلسطين ضدّ حرب الاحتلال الإسرائيلي على غزّة، بالعداء للسامية، إلا مغالطةٌ من هذا النوع. بالمثل، حين رفع السود شعار “حياة السود مهمة”، بعد مقتل جورج فليود (2020)، رفع معارضوهم شعار “حياة الجميع مُهمّة”، وغرضهم من هذه المغالطة تمييع القضية وتفريغها من مضمونها إيحاءً بأنّ ما يحدث للسود قد يحدث للجميع، ولا داعي لافتعال مظلومية من أيّ نوع.
أمّا ثالثة الأثافي، فتعليلنا الكوارث بأفعال البشر وذنوبهم، فيعتبر مؤمنون أنّ ما يحدث من كوارث، طبيعية وغيرها، غضباً من الله الذي تحول بيننا وبينه أنماط الحداثة الغربية، مع أنّ الشرور في كلّ مكان، وهناك شعوب أكثر بعداً من الخالق لم تلحق بهم كوارثنا الطبيعية والسياسية. هل تساءلنا، مثلاً، لماذا يموت الآلاف هنا والعشرات هناك، في إعصار أو زلزال أو فيضان من الدرجة نفسها؟ هل نمتلك بنية تحتيّة مُتطوّرة كالتي يمتلكونها؟ نحن هنا بصدد مغالطة الارتباط الزائف؛ نستبدل فيها علاقات الارتباط الزمني بالعلاقات السببية، ويكفي أن يتزامن أو يتعاقب حدثان لنقول إنّ أحدهما سبب للآخر، وغدت هذه الطريقة في التفسير بضاعة رائجة للعرافين والمنجّمين من أرباب الشعوذة والسياسة والاقتصاد، من ذلك، أن يوهمنا ساسة عنصريون لبنانيون أنّ الأزمة المالية في لبنان، التي تفاقمت منذ 2019، وغيرها من أزمات عصفت وتعصف فيه، سبّبها وجود اللاجئين السوريين، أمّا الفساد والمحاصصة الطائفية على الدولة والفلتان الأمني وترهّل البنى التحتية و … إلخ فهي براء مما أصاب لبنان وأهله. ومنها أيضاً، أن يُحمّل ذكورٌ المرأةَ مسؤولية التحرّش بها، بدعوى أنّه لو لم توجد امرأة سافرة في المكان الخطأ لما تعرّضت للتحرّش، وهكذا تصبح الضحية نفسها مسؤولةً عن الجريمة. وحين يقول أحدهم: لمَ الضجة بشأن التحرّش بالمرأة، هناك نساء يتحرّشن بالرجال، فهو يقع في مغالطتين في آن معاً. الأولى مغالطة أنّ خطآن لا يصنعان صواباً، ومغالطة التكافؤ الكاذب، نتعلم من الأولى أنّ الفعل الخاطئ ليس وسيلة أخلاقية مناسبة لتصحيح أو إلغاء فعل سابق خاطئ، وتدفعنا الثانية إلى تأكيد عدم جواز المساواة بين تحرّش امرأة برجل وتحرش رجل بامرأة، في مجتمع ذكوري يضطهد المرأة. فبينما يكون فعل التحرّش ظاهرة عامة بين الرجال في بعض المجتمعات، يكون تحرّش نساء فيها بالرجال حالات معزولة. التكافؤ الكاذب مغالطة يكاد لا يسلم منها الجميع، ولعلك تتذكر أستاذاً لك في المدرسة يقول لك مُقرّعاً، حين نسيت أداء فروضك المنزلية: “هل نسيت أن تأكل؟ هل نسيت أن تشرب؟ إذاً، لماذا نسيت واجبك؟”، إنّ ادعاء التكافؤ بين شيئين اعتباطياً فيه تبسيط مُخلّ، وتجاهل للعوامل الإضافية.
أمّا “قنّاص تكساس”، فيجول هنا وهناك، مطلقاً الرصاص على جدار ليرسم هدفاً في مكان تتكاثف فيه إصاباته غير السديدة، ليثبت أنّه قنّاص ماهر، كذلك يفعل من يبحث في نقاشاته عمّا يُؤيّد حجّته من معطيات ووقائع ويهمل ما لا يُؤيّدها. فمن يدعم “حقّ” إسرائيل في “الدفاع عن نفسها”، تبدأ عنده القضيّة منذ هجوم “حماس” في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول (2023)، متجاهلاً تاريخاً من الاحتلال والقتل والتهجير والتدمير، ومصادرة حقوق الفلسطينيين، وغيرها من جرائم تتكاثف في حرب الإبادة الجماعية في غزّة، فلا يرى إلا مئات القتلى الإسرائيليين في “غلاف غزّة”، وعشرات الرهائن، متجاهلاً عشرات ألوف القتلى الفلسطينيين في القطاع.
لم يعد البحث عن الحقيقة، ولو إبرةً في كومة قشّ، مسألة معرفية فقط، بل وجودية، يغدو فيها الدفاع عن الحقيقة دفاعاً عن الإنسان وقضاياه العادلة في مواجهة التضليل من كلّ نوع. وإن كان فلاسفة، سفسطائيون، وغيرهم، حسموا أمرهم، فدعوا إلى عدم تكّلف عناء البحث عن تلك الإبرة، لأنّه “لا توجد حقيقة”، فإنّ في قولهم احتمالين، يؤدّيان إلى النتيجة نفسها؛ وجود الحقيقة. ذلك أنّ قولهم “لا توجد حقيقة” إن كان صادقاً، فمعناه أنّ لدينا حقيقة، حتّى لو تمثلت في عدم وجود حقيقة. وإن كان ادّعاؤهم عدم وجود حقيقة كاذباً، فنقيضه صحيح حتماً، أيّ أن هناك حقيقة. لا تعني النسبية، في كلّ حال، إعلان موت الحقيقة، لا في ميدان أحكام الواقع، ولا في ميدان أحكام الوجوب أو أحكام القيمة. إنّ اكتشاف المغالطات وتفنيدها أمر ليس مستحيلاً، لكنّه يتعذّر في أجواء مشحونة بالتعصب، والعواطف، والشعبوية، والاستقطاب السياسي والتقوقع المذهبي. ولعلّ العودة للتثقّف بالمنطق، يمدُّ الواحد منّا بالأدوات اللازمة للعثور على تلك الإبرة، التي ضلت طريقها إليه. فليس كلّ من تمنطقَ قد تزندقَ.
خلال عمل كاتب هذه السطور مدرّساً للفلسفة في ثانويات العاصمة السورية دمشق، قالت له إحدى الطالبات: يا أستاذ! لوكان في المنطق خيراً لما بقيت كتب المنطق في رفوف المكتبات. وأتحفتْ أستاذها والسامعين بالمثل الشعبي: “لو فيه خير ما رماه الطير”. لكن، حسب الكاتب وحسبكم، أنّ كثيرين يعلمون أنّه قد يرمي الطير ما فيه كلّ الخير. وفي قول الطالبة مغالطة، لعلّ القارئ يخبرنا أيّ نوع من المغالطات تكون.
المصدر: العربي الجديد