أمين قمورية
بقبضة من فولاذ مغطّاة بكفّ من حرير، وجّه المدّعي العامّ للمحكمة الجنائية الدولية كريم أحمد خان لبنيامين نتنياهو أقوى صفعة يتلقّاها على الإطلاق. في الأمس كان “ملك إسرائيل”، واليوم صار مجرماً مطارداً وملاحقاً دولياً على خطى مرشده الروحي إسحق شامير الذي كان مطلوباً للقضاء البريطاني عام 1948 لتزعّمه عصابة شتيرن الإرهابية.
تأخّر المحامي الاسكتلندي كثيراً في تقديم طلبات إلى الدائرة التمهيدية بالمحكمة لإصدار مذكّرات اعتقال بحقّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت. لكنّه عاد وفعلها. استغرق الأمر سبعة شهور حتى نضج قراره. في حين لم يُضِع وقتاً في إصدار مذكّرة اعتقال في حقّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. المهمّ أنّ القرار صدر قبل فوات الأوان.
بهذا القرار كسرت المحكمة قاعدة دأب عليها القضاء والعدالة الدولية، وهي عدم مساءلة إسرائيل التي توصف بأنّها “دولة محميّة من العقاب”، وأنّ قادتها “يتمتّعون بالمناعة ضدّ أيّة ملاحقة”.
شملت مذكّرات التوقيف رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” إسماعيل هنيّة ورئيسها في قطاع غزة يحيى السنوار وقائدها العسكري محمد الضيف. وربّما جاء ذلك من باب ادّعاء التوازن والحيادية، وفي سياق اعتادته المؤسّسات الدولية، وهو إدانة المقاومة الفلسطينية بمقدار إدانة إسرائيل وأكثر. حتى لو كانت الدولة العبرية هي أصل العلّة والمبادر إلى الاعتداء كما درجت العادة.
قرار “يعادل الصفر” بالنسبة للقادة الفلسطينيين
من الناحية العملية، يعادل القرار الصادر بحقّ القادة الفلسطينيين صفراً لأنّ حركتهم مقيّدة أصلاً، وكذلك حركة أموالهم إذا وُجدت. هم اعتادوا على الظلم، واعتادوا القرارات الدولية التي تكيل بمكيالين وتقف مع الجلاد في مواجهة الضحيّة. في المقابل فإنّ مذكّرات الاعتقال بحقّ نتنياهو وغالانت نزلت نزول الصاعقة عليهما. ستكون مرهقة وشديدة التأثير، وستعيق حركتهما وتقيّد علاقاتهما، وقد تقضي على مستقبلهما السياسي، وعلى حياتهما كمتقاعدين.
نتنياهو الذي طالما استخفّ بالقانون الدولي، وبالقرارات الدولية، أدرك مسبقاً خطورة الأمر في ظلّ الجنائية الدولية. فعل كلّ ما يستطيع لإجهاض القرار قبل صدوره. استنفر كلّ أصدقاء إسرائيل في الخارج من أميركا إلى ألمانيا إلى بريطانيا وفرنسا، لممارسة الضغوط على المدّعي العام للمحكمة كريم خان لثنيه عن قراره. القلق لم يبقَ حكراً على رئيس الوزراء وزير الحرب. صار فزعاً إسرائيلياً عامّاً.
توحّد الإسرائيليون في العقد الأخير مرّة إثر “طوفان الأقصى” الذي هزّ كيان إسرائيل وكشف عوراتها. توحّدوا خلف الحرب وإبادة غزة. وتوحّدوا مرّة أخرى إثر هذا القرار القضائي الذي وضع قادتهم في مصافّ الإرهابيين الكبار. حتى الرئيس الأميركي جو بايدن تعامى عن انتقاداته المتكرّرة للارتكابات الإسرائيلية ووصف القرار بـ”المشين”، ورفض أيّ مساواة بين إسرائيل و”حماس”. والمضحك المبكي أنّ بايدن أشاد بالمحكمة عندما أصدرت الأمر ضدّ بوتين، لكنّه احتجّ عندما وصل الموسى إلى الذقن الإسرائيلية!
إسرائيل “سجناً” لقادتها الفارّين من وجه العدالة
يعرّي هذا القرار إسرائيل من كذبة أنّها دولة ديمقراطية. سيُظهرها كياناً يقوده المجرمون والقتلة. سيجرّها مجدّداً إلى قفص الاتّهام، بعد إدانتها في محكمة العدل الدولية، واتّهامها بارتكاب جريمة إبادة. ستكون في حالة دفاع. باتت ملزمة بتجهيز جيش من المحامين للردّ على قرارات الجنائية. ستصير سجناً لقادتها الفارّين من وجه العدالة الدولية، وستصير أجهزتها الأمنيّة بخطر. إذ إنّ معظم قادتها مرشّحون محتملون للملاحقة بموجب مذكّرات اتّهام مماثلة. ولن يعود في إمكان هؤلاء السفر إلى أيّة دولة في العالم تحترم نفسها والمعاهدات. كانت غالبية الدول الأوروبية من ضمن 123 دولة وقّعت نظام روما الأساسي، وتالياً هي ملزمة باعتقال من تصدر بحقّه مذكّرة اعتقال.
لن يتوقّف الأمر على المجرمين الملاحقين. قد يتعرّض الكيان برمّته للتضييق الاقتصادي والتجاري والسياحي. وقد يكون ذلك ذريعة لدى بعض الدول لحرمانها من السلاح والتكنولوجيا المتطوّرة.
مواصلة العدوان على غزة واستمرار لائحة الضحايا الفلسطينيين بالتعاظم والغضب العالمي الذي تفجّر في الجامعات الغربية، معطوفاً عليها اتّهام من أعلى المراجع القضائية في العالم لقادة الدولة بالإجرام، كلّها علامات لا تبشّر إسرائيل بأيام سعيدة مقبلة، بل هي مؤشّرات قوية إلى بدء انطلاق رحلة فرض العزلة الدولية عليها، رغم أنف أميركا.
عدم فاعلية مناورة “التحقيق الداخلي”
تعتمد فاعلية المحكمة وقراراتها على تعاون ودعم الدول الأطراف في نظام روما الأساسي. ستحاول إسرائيل التهرّب من خلال مبدأ التكامل القضائي. اعتادت الهروب من القضاء الدولي باللجوء إلى التحقيق الداخلي كما حدث في المجازر التي ارتكبتها في مخيّم صبرا وشاتيلا عام 1982، وحروب غزة أعوام 2012 و2014 و2018. لكنّ المهمّ هنا أنّ التحقيق الداخلي لا يعني بالضرورة نهاية القضية، أو إلغاء الحاجة إلى تحقيق دولي، خصوصاً في القضايا التي تتعلّق بجرائم جسيمة، مثل الإبادة الجماعية، الجرائم ضد الإنسانية، أو جرائم الحرب.
إذا كانت تل أبيب وواشنطن انسحبتا من “نظام روما الأساسي”، رفضاً للمثول للمحاكمة خارجاً، فإنّ القانون الدولي يحتّم أن لا يؤخذ بالدعوى المقامة محلّياً إذا سبقتها دعوى في محاكم دولية. وبما أنّ إسرائيل ارتكبت جرائمها في أرض فلسطينية هي غزة، وبما أنّ دولة فلسطين هي طرف عضو في النظام، لذا للمحكمة صلاحية التحقيق في هذه الجرائم وإصدار حكم ضدّ الجاني حتى لو كان مواطناً أجنبياً.
أكّد المدّعي العامّ أنّ الأدلّة خلصت إلى أنّ مسؤولين إسرائيليين حرموا بشكل ممنهج فلسطينيين من أساسيّات الحياة، وأضاف أنّ نتنياهو وغالانت متواطئان في الأوامر بشأن غزة والتسبّب في معاناة وتجويع المدنيين وجرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية. وأكّد أنّ القانون يجب أن يسري على الجميع ولا يمكن السماح بهروب أحد من العقاب حتى لو كان رئيساً. ودعا جميع الدول، ولا سيما الدول الأطراف في نظام روما الأساسي، إلى النظر في هذه الطلبات والقرار القضائي اللاحق على محمل الجدّ كما فعلت في حالات أخرى.
المصدر: أساس ميديا