علاء الدين أبو زينة
المفترض في أي هيئة تضطلع بالتمثيل السياسي لشعب -أي شعب- أن تسترشد بإرادة الشعب ورأيه. وحتى تفعل، يجب أن تكون هناك آليات لمحاسبة هذه الهيئة أمام الشعب إذا أساءت تمثيله –أولا عن طريق انتخابات حرة ونزيهة يمكن أن تطيح بالهيئة الحاكمة المعنية واستبدالها؛ وثانيا عن طريق إمكانية محاسبتها ونزع الثقة عنها في برلمان تمثيلي غير داجن، ترشح وانتُخب في انتخابات حرة ونزيهة، يُحاسب بإسقاطه هو نفسه في الانتخابات التالية. هذا في أي كيان سياسي راسخ يدعي شرعية التمثيل.
أما في حالة الشعوب المستعمرَة، فإن التمثيل النزيه لإرادة الشعب هو الشرط المسبق والأساسي الذي لا بديل عنه لقيادة حركة التحرر الوطني حتى يتحرر هذا الشعب. منطقيا، يجب أن يكون إجماع هذا الشعب هو التحرر الكامل من الاستعمار، والعداء المطلق للاستعمار واستهدافه بالإلغاء المطلق بكل تعبيراته وتجسداته، وسلوك كل الطرق الممكنة لتحقيق هذا الهدف. ويجب أن تكون مهمة هذه القيادة هي تحشيد كل إمكانيات الشعب، وتجميعه على هذا القاسم المشترك الأساسي والمنطقي: التحرر الكامل. وإذا لم تتمكن القيادة المعنية من إحراز تقدم ملموس على هذا الطريق، فإنها تفقد الشرعية الشعبية وتصبح عبئا، وينبغي أن تتنحى –إذا كانت شريفة- أو يتم إسقاطها إذا تشبثت بالقيادة بطريقة غير مشروعة.
كانت هذه المسألة، وهي الآن أكثر من أي وقت مضى، أهم معيق لتقدم حركة التحرر الوطني الفلسطيني. وكما هو معروف، تُختزل المعضلة الآن في التناقض المطلق بين اتجاهين، يُفترض أنهما يعملان لتحقيق نفس الغاية المعروفة في نضالات إنهاء الاستعمارات –مرة أخرى إنهاء الاستعمار لا غير.
في ضوء هذه النظرية، وفي الحالة الفلسطينية حيث يشتبك الشعب الفلسطيني الآن في معركة مصيرية مع العدو الوحشي، ظهر قبل فترة وجيزة تبادل اتهامات بين “فتح” و”حماس” بالانفصال عن الواقع. كل قيادة تعتقد بأنها هي المتصلة بالواقع والأخرى منفصلة عنه. ولكن، أي معيار يمكن تصوره لقياس الاتصال والانفصال في هكذا ظرف؟ الجواب الذي يخطر في البال أول ما يكون: الاتصال بالواقع هو أولا تحسس مزاج الشعب المعني بالصراع، وتقدير إرادته، ثم صياغة السياسات والأدوات التي تعبر عن هذا المزاج وهذه الإرادة. وبغير ذلك، أي اتصال بالواقع، وأي تعبير واقعي يمكن أن تتخذه قيادة عندما تكون هي في واد والشعب الذي تدعي تمثيله وخدمة قضيته في وادٍ آخر؟
حسنًا. الطريقة الممكنة لقياس مزاج الشعب الفلسطيني، والشعب العربي المساند، وحتى المناصرين للقضية الفلسطينية إذا كان ذلك يهم، في غياب انتخابات حرة، هو استطلاعات الرأي –أو ما تؤشر عليه غالبية معقولة من استطلاعات الرأي- واتجاهات كُتاب الرأي الوازنين في المقالات والمقابلات؛ والمشاركات الشعبية في وسائل التواصل الاجتماعي.
لتلخيص الحالة الفلسطينية على هذه الخلفية، نُشر في الأيام الأخيرة خبران، موضوعيان، ينقلان حدثين كما حدثا، ويصعب التشكيك في محتواهما:
أولًا: نشر موقع “العربية”، من بين الكثير من وسائل الإعلام، قبل يومين الخبر التالي المنقول نصًا:
(هاجم رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس أبو مازن، حركة حماس، خلال كلمته التي ألقاها، الخميس، في القمة العربية الثالثة والثلاثين والتي تستضيفها البحرين.
واتهم الرئيس الفلسطيني الحركة بتوفير ذرائع لإسرائيل كي تهاجم قطاع غزة قائلاً: “العملية العسكرية التي نفذتها حماس بقرار منفرد في ذلك اليوم، في السابع من أكتوبر، وفرّت لإسرائيل المزيد من الذرائع والمبررات كي تهاجم قطاع غزة وتمعن فيه قتلا وتدميرا وتهجيرا”.
وأكد أن “ما فعلته حماس كان قرارا منفردا وغير مسؤول”، مضيفا “حماس هي التي ترفض إنهاء الانقسام الداخلي”). انتهى الخبر الأول.
ثانيًا: نشر موقع “الجزيرة نت” في 13 كانون الأول (ديسمبر) 2023 الخبر التالي، الذي تناقلته معظم وكالات ومواقع الأخبار بنفس المحتوى:
(أظهر استطلاع للرأي بين الفلسطينيين ارتفاعا في تأييد حركة المقاومة الفلسطينية (حماس) في قطاع غزة الذي يتعرض لعدوان إسرائيلي متواصل، بينما أظهر رفضا ساحقا لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس مع ما يقرب من 90 في المائة يقولون إنه يجب أن يستقيل.
وحسب نتائج الاستطلاع الذي أجراه “المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية” بالتعاون مع مؤسسة “كونراد أديناور” في رام الله “ارتفعت نسب دعم حماس في الضفة الغربية 3 أضعاف ما كانت عليه قبل الحرب”.
ووفقا للاستطلاع الذي أجري قبل أيام وأعلنت نتائجه اليوم الأربعاء فإن ما يقرب من 70 في المائة من الفلسطينيين طالبوا بحل السلطة الفلسطينية، كما رأى 90 في المائة من الفلسطينيين أن الرئيس عباس يجب أن يستقيل.
كما أظهر الاستطلاع ارتفاع نسبة تأييد العمل المسلح لمواجهة الاحتلال، حيث يرى أكثر من 60 في المائة من الفلسطينيين الذين شملهم أن “المقاومة هي الطريق الأمثل لإنهاء الاحتلال”.
وبشأن عملية “طوفان الأقصى” التي نفذتها كتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس في 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي أعربت الأغلبية العظمى من المستطلعة آراؤهم في الضفة وغزة أن قرار الهجوم كان صحيحا، وقال 72 في المائة ممن شملهم الاستطلاع أنهم يؤيدون طوفان الأقصى). انتهى الخبر الثاني.
لا تختلف نتائج هذا الاستطلاع الذي أجرته مؤسسة فلسطينية موثوقة تعمل في رام الله عن نتائج الكثير من الاستطلاعات الأخرى التي استكشفت رأي الفلسطينيين بشأن أداء “السلطة الفلسطينية”، سواء من حيث السلوك والقرارات، أو من حيث تمثيلها للتطلعات الفلسطينية. ويستطيع من يريد التأكد أن يراجع بسهولة نتائج هذه الاستطلاعات. وما تقوله معظم النتائج هو أن “السلطة الفلسطينية” لا تمثل بأي طريقة يعتد بها رأي ولا إرادة الشعب الفلسطيني. فلماذا تصر على التحدث باسمهم، بالإضافة إلى أسوأ شيء يمكن أن يحدث في أي حركة تحرر: (تكفير) المعارضين –حتى لو أنهم الأغلبية- المشتبكين بأجسادهم في المعركة مع العدو في صراع حياة أو موت واتهامهم بما يشبه “معاداة الشعب الفلسطيني”؟! عجيب! ينبغي أن تكون حياة وسمعة كل فلسطيني، مهما كان رأيه –باستثناء أي شبهة عليه بالتعاون مع العدو، أو التنسيق معه، أو خدمة أمنه وبقائه ومصالحه- مقدسة عند أي قيادة فلسطينية وطنية حقيقية، حيث دمه، وحريته، وقيمته، وكرامته والسماح بِـ –ناهيك عن التحريض على- استهدافه بأي شكل من الأشكال، حرام.
(2)
عند الحديث عن التمثيل الفلسطيني، والخطاب الذي يقصي الفصائل التي اختارت المقاومة كـ”آخر” مُدان، لا ينبغي نسيان تاريخ الانقسام الفلسطيني الحالي. وقد لخص لورنس دافيدسون، أستاذ التاريخ المتقاعد من جامعة وست شستر الأميركية، هذا التاريخ كما يلي:
“تبدو الطريقة التي يتحدث بها الإسرائيليون عن تحرك 7 أكتوبر كما لو أنه لم يكن هناك أبدا 6 أكتوبر، أو عندما يتعلق بغزة بالتحديد، السنوات الـ17 السابقة التي تعود إلى العام 2006. وتساعد مراجعة تاريخ تلك السنوات في فضح كذبة ادعاء إسرائيل بالدفاع عن النفس. في أكتوبر 2006، جرت انتخابات وطنية (فلسطينية) تحت إشراف دولي في فلسطين. وبسبب الفساد المرتبط بحركة فتح، الحزب الذي سيطر على السلطة الوطنية الفلسطينية، وتعاون فتح مع الاحتلال الإسرائيلي، فازت حركة المقاومة الإسلامية، حماس، في الانتخابات. وكانت لحماس سمعة الصدق والموثوقية وأصرت دائما على استمرار المقاومة للاحتلال الإسرائيلي.
”كان رد فعل إسرائيل على انتصار حماس هو اعتقال أعضاء الحكومة الجديدة المقيمين في الضفة الغربية. وطالبت الولايات المتحدة وقوى أوروبية أخرى حماس بمواصلة علاقة التعاون بين السلطة الوطنية الفلسطينية وإسرائيل. ورفضت حماس. وبدأت الولايات المتحدة وإسرائيل وفتح في التآمر لإيجاد طرق لإلغاء الانتخابات وتدمير حماس. وبحلول العام 2007، فرضت إسرائيل، بالتعاون مع مصر، حصارا على قطاع غزة. وكان الحصار يعادل تراجع التنمية (في غزة) الذي أفقر أكثر من مليون شخص. وأدت التوغلات الإسرائيلية المسلحة الدورية في القطاع إلى استمرار التوتر الاضطهادي. وتحول قطاع غزة إلى سجن في الهواء الطلق.
”ويمكن أن تُضاف إلى هذه الصورة حقيقة أن جميع المحاولات السابقة للتفاوض بين إسرائيل والفلسطينيين أجهضتها إسرائيل لأن أي تسوية توفيقية كانت ستقوض التصميم الأيديولوجي الصهيوني على تحويل كل فلسطين إلى أرض “يهودية” تسيطر عليها إسرائيل.
“في ظل هذه الظروف، كان الطرف الوحيد الذي مارس حقا “الدفاع عن النفس” في 7 أكتوبر 2024 هو الفلسطينيون تحت قيادة حماس وغيرها من جماعات المقاومة المتحالفة معها”. (انتهى الاقتباس)
وفق ما أفرزته السنوات منذ نشوئها، بدلاً من أن تكون حلًا، كانت “السلطة الفلسطينية” من العناصر المركزية التي أدارت الصراع فلسطين بطريقة جعلت الفلسطينيين خاسرين. وبدا الوضع الفلسطيني في ظل “السلطة” مستقرا على كل فوضاه الأسطورية حتى أن القضية الفلسطينية أزيحت إلى الهوامش. وبمرور السنوات، مع استمرار مصادرة الأراضي الفلسطينية وتوسيع الاستيطان وتعميق السيطرة الأمنية الصهيونية على أهل الضفة وسجن أهل غزة، تكاثرت الانتقادات للسلطة، حتى أننا بالكاد سمعنا من يمتدحها سوى العاملين في بيروقراطيتها الكسولة، الذين يقبضون رواتبهم منها أو يستفيدون ويثرون من علاقاتهم بها.
وقد انتقدها حتى كُتاب يهود مؤيدون بدرجة أو بأخرى للحق الفلسطيني أو جزء منه. وقدر هؤلاء أن سياساتها في مجملها أضرت بالقضية الفلسطينية وخدمت مصالح “إسرائيل”.
على سبيل المثال، انتقدت أميرة هاس، صحفية “هآرتس” المعروفة بتغطيتها للقضايا الفلسطينية، السلطة الفلسطينية لتعاونها مع السلطات “الإسرائيلية”.
واتهمت السلطة بإعطاء الأولوية لمصالحها الخاصة على حساب مصالح الشعب الفلسطيني. وسلطت في كتاباتها الضوء على حالات قامت فيها قوات الأمن التابعة للسلطة بقمع المعارضة السياسية الفلسطينية بالعنف -وهي إجراءات قالت هاس أنها تفيد إدامة الاحتلال “الإسرائيلي” بدلاً من تحديه.
وفي أميركا، كثير ما أثار بيتر بينارت، الصحفي والمعلق اليهودي المخاوف بشأن حكم السلطة الفلسطينية وتأثيره على النضال الفلسطيني. وقال بينارت أن فساد السلطة الفلسطينية واستبدادها قد نفرا الفلسطينيين وقوضا تطلعاتهم إلى إقامة دولة. وأكد في أكثر من مناسبة على أنه من خلال الاعتماد على المساعدات الدولية والتعاون الأمني مع “إسرائيل”، أصبحت السلطة الفلسطينية متواطئة في إدامة الوضع الراهن، مما يخدم فعليا مصالح “إسرائيل” على حساب الحقوق الفلسطينية.
وكان نورمان فينكلشتاين، العالم السياسي اليهودي البارز والمؤلف المعروف، صريحا في انتقاداته لسياسات الكيان، وإنما مع إدانته لقيادة السلطة الفلسطينية.
وقد اتهم فينكلشتاين السلطة بخيانة القضية الفلسطينية من خلال الاستسلام للمطالب “الإسرائيلية”، والتخلي عن مبادئ المقاومة وتقرير المصير. وجادل بأن اعتماد السلطة على المفاوضات والدبلوماسية فشل في تحقيق نتائج ملموسة للفلسطينيين، مما أدى إلى إشاعة خيبة الأمل والإحباط بينهم.
تشير الانتقادات التي وجهها هؤلاء الكتاب اليهود إلى قضايا منهجية داخل السلطة الفلسطينية أعاقت تقدم القضية الفلسطينية. فمن خلال الانحياز إلى مصالح الكيان وقمع المعارضة، أدت ممارسات السلطة وخطابها إلى تآكل شرعيتها في نظر العديد من الفلسطينيين، وهددت نضالهم من أجل الحرية والكرامة. وبدلاً من أن تكون وسيلة لجلب الحق في تقرير المصير الفلسطيني، أصبحت متورطة في نظام يديم قهر الفلسطينيين والهيمنة “الإسرائيلية”.
ولم يكن الإخفاق داخليا فقط؛ كانت لسياسات السلطة آثار أوسع نطاقًا على القضية الفلسطينية، منها تقويض الدعم والتضامن الدوليين لها كما كان حالها في 6 تشرين الأول (أكتوبر). كما شوهت السلطة السردية الفلسطينية، وغيرت تعريف وحدود فلسطين، بل إنها انحازت بوضوح إلى أعداء حق الفلسطينيين في الكفاح المسلح –خطابًا وممارسة. وإذا كانت الشرعية التمثيلية للسلطة الفلسطينية موضع شك، بحكم نتائج الانتخابات، أو تجاوز الفترة الرئاسية، أو استطلاعات رأي الفلسطينيين، وكتابات لا تحصى لفلسطينيين وعرب وأجانب ويهود، فإن عليها أن تقتصد عندما تتحدث باسم الفلسطينيين وأن تخرج من حالة الإنكار التي تزين لها المزيد من الإساءة إلى الحالة الفلسطينية النضالية المشتبكة الآن في صراع عالمي والسردية الوطنية الفلسطينية التي يستعيدها المقاومون بكلفة الدم.
المصدر: الغد