عبد الباسط سيدا
حرصُ ثلاث دول أوروبية مُهمّة على إعلان اعترافها بالدولة الفلسطينية، بصورة متزامنة، أمر يستوجب التمعّن؛ باعتباره يمثّل تحوّلاً نوعياً في المزاج العام الغربي. هذا، رغم حرص الدول الأوروبية المنضوية تحت لواء الاتحاد الأوروبي أو “ناتو” على الاقتداء بالتوجّهات الأميركية في هذا المجال، ومراعاتها العلاقة الاستراتيجية التي تربط الولايات المتّحدة وإسرائيل، وهي العلاقة التي يبدو أنّها ستستمر هكذا في المستقبل المنظور، لتكون حجر الزاوية في السياسات الأميركية الشرق أوسطية. وهذه المسألة لم تكن في أي يوم من الأسرار المخفيّة، بل هي واضحةٌ مُعلنةٌ، تُطرَحُ بوصفها من المسلّمات، إن لم نقل من البديهيات، التي لا بد من الأخذ بها في سياق أيّ توجّه نحو بناء العلاقات الجدّية مع الجانب الأميركي.
على أثر عملية طوفان الأقصى، التي نفّذتها “حماس”، والفصائل المتحالفة معها، كان الموقف الأوروبي تجاه ما حصل الشجب والتنديد، بل بلغ هذا الموقف في بعض الدول الأوروبية حدّ منع المظاهرات، وحتَّى التصريحات المُؤيّدة للحقوق الفلسطينية، والمُطالِبَة بضرورة الفصل بين سياسات وتوجّهات “حماس” وحقوق الشعب الفلسطيني التي نصّت عليها القرارات الدولية (خصوصا قرار مجلس الأمن 242 عام 1967)، هذا، رغم الملاحظات الفلسطينية الكثيرة حولها. ولكن، مع استمرارية الحرب الإسرائيلية المتوحّشة على غزّة بحجة الانتقام من “حماس”، ومحاولات دفع الفلسطينيين نحو هجرة جماعية جديدة باتجاه مصر، وربما نحو الأردن أيضاً؛ وهي الهجرة التي لم تحصل بفضل تمسّك الفلسطينيين بأرضهم، وإصرارهم على البقاء رغم كلّ ما تعرّضوا ويتعرّضون له من قتل وتدمير وتجويع وحرمان من أبسط المقوّمات المعيشية. وقد أثّر هذا الإصرار الواعي على البقاء، رغم كلّ الأهوال التي واجهها ويواجهها الفلسطينيون جرّاء استخدام إسرائيل أحدث أنواع الأسلحة الفتّاكة ضدّهم، في الرأي العام الأوروبي، والغربي عموماً، وذلك بفضل العمل الدؤوب للناشطين الفلسطينيين، والمتضامنين معهم من الجاليات العربية والإسلامية، ومن الغربيين أيضاً.
وقد تمثّل ذلك في المظاهرات والحملات المنظّمة في منصّات التواصل الاجتماعي. كما ساهمت وسائل الإعلام العربية والأجنبية عبر نقل الصورة الحيّة لمخاطبة أصحاب الضمائر، وتحريك المشاعر، مع الوقت، في تبلور ملامح رأي عام غير مقتنع بسردية حكومة نتنياهو في ميدان تسويغ استمرارية العدوان على المدنيين في غزّة، وذلك ضمن نطاق عقوبة جماعية قاسية تحت شعار: ضرورة استعادة هيبة الجيش الإسرائيلي والمؤسّسات الاستخباراتية الإسرائيلية. وذلك كلّه يُؤكّد أنّ الدول الأوروبية لم تعد ساحةً إعلاميةً محسومةً لصالح الدعاية الإسرائيلية، والنشاط الإعلامي الإسرائيلي. ولم يعد سرّاً، في هذا المجال، أنّ الانتقادات الإسرائيلية ذاتها، سواء من جانب المعارضة أم من جانب بعض الصحافيين اليهود المعارضين لحكومة نتنياهو وتوجّهاته اليمينية المتشدّدة، قد ساعدت هي الأخرى كثيرين في الأوساط الأوروبية على رؤية الأمور بمنظار أدقّ، كما منحتهم الجرأة على الإعلان عن مواقفهم من دون خشية من الاصطدام بالرأي العام التقليدي المساند لإسرائيل، كما كان عليه الحال في العقود السالفة. وقد تحقّق ذلك كلّه بفعل الصمود الفلسطيني، بالإضافة إلى السياسات الخاطئة المُتشدّدة لحكومة نتنياهو، وهي سياسات تستهدف أولاً، وقبل أيّ شيء، إنقاذ المسؤولين الفاسدين، أو التستّر عليهم، وتحقيق مكاسب حزبية ضيّقة ضحلة، ذلك كلّه من دون المساهمة في تشكيل رؤية أو استراتيجية شاملة بعيدة المدى، ترمي إلى تحقيق سلام عادل مستدام بين الإسرائيليين والفلسطينيين على قاعدة حلّ الدولتين، وهو الحلّ الذي تمحورت حوله المبادرة العربية (مبادرة الأمير – الملك الراحل عبد الله)، التي تمّ تبنّيها عربياً في مؤتمر القمّة الذي انعقد في بيروت عام 2002.
وفي السياق ذاته، لا بد من الأخذ بالاعتبار الدور الإيجابي المُؤثّر للأدباء والمفكّرين الفلسطينيين، الذين عاشوا في الغرب، أو ترجم لهم إلى اللغات الأوروبية، نذكر من هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر: سلمى خضراء الجيوسي، وإدوارد سعيد، ووائل حلّاق، وعزمي بشارة، وإبراهيم أبو لغد، وآخرون)، فهؤلاء أثّروا في تفكير قطاع واسع من النخبة الأوروبية، رغم تعرّضهم لكثير من حملات التشويه والتشكيك. وفي المقابل، ظلّت مجموعات من النخب الغربية تحت تأثير الدعاية الإسرائيلية، ولم تتمكّن من التحرّر من قيود كثير من الأفكار النمطية المتمحورة حول المركزية الأوروبية، أو بقيت تحت تأثير حملات الدعاية الإسرائيلية الخاصّة بمعاداة الساميّة، وهي الحملات التي تتماهى إلى حدّ بعيد مع الحملات الراهنة الخاصة بمحاربة الإرهاب، وتغضّ النظر عن تطلّعات وتضحيات الشعوب من أجل الكرامة والحرّية والعدالة، ومن أجل مستقبل أفضل للأجيال الشابة والمقبلة، كما هي الحال بالنسبة إلى الشعب السوري، الذي يعاني اليوم أكثر من نصفه من التشرّد والتهجير، في حين أنّ النصف الثاني يعاني من أصعب الظروف المعيشية، ويخضع للتهديدات والملاحقات المستمرّة من قبل الأجهزة الاستخباراتية الأخطبوطيّة، التي تتحكّم بالدولة والمجتمع.
بالإضافة إلى ما تقدم، يُلاحَظ أنّ ما يجري اليوم من حديث عام بين مختلف الدول، ولا سيّما من الأميركان، بشأن ضرورة اعتماد حلّ الدولتين لمقاربة الصراع العربي الإسرائيلي، مع الإقرار بتقلّص دائرة هذا الأخير، بعد سلسلة من اتفاقيات السلام السابقة بين كلّ من مصر والأردن مع إسرائيل، وفكّ الارتباط بين سورية وإسرائيل، واتفاقيات التطبيع التالية بين كلّ من الإمارات والبحرين مع إسرائيل. هذا، إلى جانب الاتصالات الإسرائيلية مع المسؤولين في عدة دول عربية خليجية منها، وغيرها، الأمر الذي يُؤكّد أنّ ثقل المسؤولية بات على عاتق الفلسطينيين، وهذا يفرض أعباءً إضافية عليهم، خاصّة من ناحية تجاوز حالة الشقاق الداخلي، والعمل على توحيد المطالب والاستراتيجيات والمواقف، وذلك استعداداً للاستحقاقات والتحدّيات القادمة. وربما مثّلت الدعوات المُختلفة (فرنسية، وعربية، وصينية…)، إلى عقد مؤتمر سلام إقليمي، في هذا المجال، خطوةً في طريق تبلور هذه الاستحقاقات والتحدّيات، غير أنّ هذه الدعوات لن تكون ناضجة، ولن تُؤدّي إلى النتائج المرجوّة ما لم تستند إلى رغبة أكيدة في الوصول إلى حلّ مقبول ومعقول في موضوع النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، وإرادة إقليمية مُستعدّة للتعامل بإيجابية مع المواقف الدولية المُؤثّرة من أجل بلورة معالم مثل هذا الحلّ على أرض الواقع، والتوافق على المحدّدات والآليات، التي تُمكّن من استمرارية هذا الحلّ عبر تعزيز إجراءات الثقة بين الطرفَين، والوصول إلى حلول إبداعية بشأن القضايا التي تعتبر اليوم وكأنّها عصية على أيّ حلّ، مثل قضايا: القدس، وحقّ العودة بالنسبة إلى اللاجئين، إلى جانب موضوع المستوطنات، وغيرها من القضايا الشائكة.
ولكن ذلك كلّه لن يكون مُجدياً من دون الأخذ بالاعتبار حقيقة صعوبة معالجة الموضوع الفلسطيني وحسمه بمعزل عن الأوضاع والأزمات المُعقّدة التي تعصف بدول المنطقة ومجتمعاتها، لا سيّما في سورية ولبنان، والعراق واليمن. وذلك كلّه يستوجب توافقاً إقليمياً بهدف الحدّ من التوتّرات والصراعات الإقليمية. وقد تحقّقت خطواتٌ لا بأس بها في هذا المجال، ولكنّها ما زالت في حاجة إلى مزيد من التطوير وتوسيع نطاق الدائرة، لتصبح أكثر رسوخاً وقدرة على تحمّل الصدمات، وأكثر استعداداً للتوصّل إلى حلول بشأن الأزمات التي تعصف بالمنطقة. فما تحقّق من تقدّم دبلوماسي، بين كلّ من السعودية وإيران، أمر يمكن الاستفادة منه إذا ما توفّرت الإرادة الجادّة لدى الطرفَين، خاصّة الإيراني، للمساهمة في حلّ المشكلات التي تهم الجانبَين، وتنعكس نتائجها بصورة مباشرة إيجابية على مجمل أوضاع المنطقة. كما أنّ التقارب التركي المصري سيؤدي هو الآخر، كما هو متوقّع، في هذا المجال، إلى نتائج ملموسة، فحواها المساهمة في حلّ بعض المشكلات بين الطرفَين، ولا سيّما في ليبيا. ولكنّ التعاون التركي العربي، لا سيّما التركي السعودي، ما زال في دائرة المطلوب الذي لم يتحقّق أو لم يتبلور كما ينبغي. هذا، في حين أنّ التفاهم المصري الإيراني قد أصبح ممكناً أكثر من أيّ وقت مضى، وهذا من شأنه المساهمة في إعادة التوازن إلى المعادلات المختلّة في المنطقة. وربّما الأمر نفسه بالنسبة إلى التقارب الإيراني الأردني.
هذه التحرّكات واللقاءات والتوافقات، كلّها، من شأنها، إذا ما توفّر التنسيق بينها، التأثير في الموقف الإسرائيلي مستقبلاً، في عهد حكومة أكثر اعتدالاً، وأكثر تمثيلاً لتوجّهات الناخب الإسرائيلي، الذي يرى اليوم أنّ حكومة نتنياهو تستغلّ أغلبيتها البرلمانية الضئيلة، التي تشكّلت على أساسها، لبلوغ أهداف شخصية وحزبية شللية، وتتجاهل، في الوقت ذاته، حاجة المجتمع الإسرائيلي إلى ترسيخ دعائم السلام المستدام بينها وبين الجوار العربي، لصالح تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة، وهو الأمر الذي سينعكس إيجابياً، في حال تحقّقه، على واقع شعوب المنطقة راهناً، ويضمن المقدّمات والشروط المطلوبة لمستقبل أفضل للأجيال المقبلة.
المصدر: العربي الجديد