أسامة الرشيدي
اتخذت الحكومة اليابانية مواقف مخزية تجاه العدوان الإسرائيلي المستمرّ على غزّة، فقد أعلنت تأييدها هجمات الاحتلال الوحشية مرّات، ورفضت الدعوة إلى وقف إطلاق النار، مكتفية بالدعوة إلى هدنة إنسانية فقط، وفرضت حزماً من العقوبات بحقّ أشخاصٍ، زعمت إنهم ينتمون إلى حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، أو تمويلهم لها، أو مشاركتهم في هجوم 7 أكتوبر على مستوطنات غلاف غزّة. وبغض النظر عن هزلية هذه العقوبات، وانعدام تأثيرها على هؤلاء الأشخاص، إذ لا يملك أحد منهم شيئاً خارج حدود فلسطين، إلا أنها، بالإضافة إلى تصريحات وسياسات أخرى، تعتبر كاشفة عن السلوك الياباني تجاه الأحداث.
مثل ألمانيا، صنعت اليابان صورة ذهنية إيجابية عند الجمهور العربي، بل تجاوز الإعجاب إلى حدود الهوس، جعل بعضنا يُطلق عليها مصطلح “كوكب اليابان الشقيق”، للتدليل على درجة الانبهار بما يرونه من تقدّم وازدهار، ومن سلوك يمارسه اليابانيون. كما كانت اليابان مسرحاً لبرامج تلفزيونية عربية شهيرة، حرصت على توثيق التجربة اليابانية في كل المجالات. ومع تمدّد مواقع التواصل الاجتماعي، انتشرت مئات من الأخبار الكاذبة، التي تنسب أشياء غير حقيقية إلى اليابان، حتى أصبح التحقّق من الأخبار المنشورة عن اليابان وتفنيدها يحتل مساحة هامة من عمل المنصّات المتخصّصة في مكافحة الأخبار الزائفة. وتحوّل الأمر إلى مصدر للسخرية، من فرط وقوع وسائل إعلام عربية عديدة في فخ هذه الأخبار ونشرها من دون تدقيق.
غطّت مثل تلك الأخبار والمنشورات، على عدة إشكالات واجهت اليابان، ولا تزال تواجهها، سواء من ناحية السياسة الخارجية التي تتبع الولايات المتحدة كُلّياً، أو التحديات الاقتصادية التي عانتها البلاد عقوداً، مروراً بظواهر اجتماعية سلبية في المجتمع الياباني، وحتى مشكلة نقص المواليد الجدد والتحذيرات بشأن انقراض اليابانيين إذا استمرّ عدد السكان في الانخفاض بالمعدّل نفسه. ولافتٌ أن الموقف الياباني لم ينل الانتقاد في الوطن العربي بالدرجة التي يستحقها، مثلما تعرّضت له المواقف الألمانية، كما لم تتعرّض المنتجات اليابانية لحملات مقاطعة مكثفة، مثلما جرى مع المنتجات الغربية. وربما يعود السبب إلى النظر إلى اليابان بلداً شرقياً ينتمي إلى حضارة أقرب للحضارة العربية الإسلامية من أوروبا والولايات المتحدة، أو عدم تأثير الموقف الياباني في الأحداث بالدرجة نفسها التي يؤثر فيها الموقف الغربي، وكذلك ضعف اليابان عسكرياً منذ هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، وعدم امتلاكها جيشاً قوياً، ومن ثم، لم تقدّم مساعدات عسكرية لإسرائيل، ما أدّى إلى الإبقاء على المواقف اليابانية ضمن نطاق صغير لا تتخطّاه.
زار رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا، مقبرة أرلينغتون، في إبريل/ نيسان الماضي، وهي تضم مقابر قتلى الصراعات والحروب، في ولاية فيرجينيا الأميركية، ووضع إكليلاً من الزهور على قبر الجندي المجهول، بصحبة قائد المنطقة العسكرية للجيش الأميركي في واشنطن! تبدو مثل هذه التصرفات مثيرة للاستغراب، وللتساؤل عن الإصرار على زيارة كهذه، رغم ما تعرّضت له اليابان على يد الجيش الأميركي، في نهاية الحرب العالمية الثانية، عندما ألقت الولايات المتحدة قنبلتيها الذرّتين على هيروشيما وناغازاكي، فقتلت مئات الآلاف، وسبّبت موت أضعافهم خلال العقود اللاحقة بسبب التلوث الإشعاعي. ثم احتلت الولايات المتحدة البلاد بأكملها، وحكمتها عسكرياً سنوات، لضمان امتثالها وخضوعها.
مشاعر الاستغراب نفسها أثارتها زيارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما هيروشيما عام 2016، إذ وضع إكليلاً من الزهور أمام نصب تذكاري لضحايا القصف الذري الذي نفذته بلاده! كما رفض بصلف تقديم اعتذار عن إلقاء القنبلتين الذريتين، زاعماً أن الزيارة فرصة لتسليط الضوء “على المخاطر الحقيقية الموجودة في ما يخصّ الأسلحة النووية”، وداعياً إلى عالم خال من السلاح النووي الذي تملك بلاده أكبر كمية منه. لكن اللافت كان رد الفعل الياباني المغالي في تسامحه، والذي تمثل في بكاء أحد الناجين من القنبلة الذرية التي ألقيت على هيروشيما، في أثناء لقائه أوباما، وعناقه إياه، وبكائه على كتفه، ثم تصريحه بأن “حياته تغيرت”، بسبب القنبلة الذرية وزيارة أوباما!
تسلط مثل هذه التصرفات التي تبدو مغالية في “تسامحها”، وغيرها، الضوء على الأزمة العميقة التي تعانيها اليابان، وتحديداً في ما يتعلق بعلاقتها مع الولايات المتحدة، التي تجعلها تدور مع واشنطن حيث دارت، رغم مرور ما يقرب من 80 عاماً على نهاية الحرب العالمية. ولذلك لا تستطيع أن تتخذ قرارات تبتعد عن السياسة الأميركية بشأن ما يجري في العالم، خصوصاً القضية الفلسطينية، إذ توثقت العلاقات اليابانية الإسرائيلية خلال العقود الماضية، وهي نتيجة طبيعية لتبعية طوكيو لواشنطن.
المصدر: العربي الجديد