سمير حمدي
تظلّ الديمقراطية في القارّة الأفريقية مسألة حديثة ومتقلّبة، وهي اليوم في تراجع، في ظلّ عودة الاستبداد وإعادة تركّز الأنظمة السلطوية في بلدانٍ عديدة. وتكشف الخريطة السياسية لأفريقيا عن سيطرة ثلاثة نماذج من الأنظمة: سلطوية مطلقة، مهما كان توصيفها النظري، حكماً ملكياً أو جمهورياً أو مجلساً عسكرياً. وشبه سلطوية، وتقدّم صورةً وهميةً للديمقراطية، إذ تجري الانتخابات، ولكن في ظلّ حيّز سلطوي مُغلق. وديمقراطية، فتُحترم المواعيد الدستورية، وتُجرى الانتخابات، وتُؤدّي إلى تناوب سلمي على السلطة.
يتمثل الاتجاه الأساس الحالي في عودة الاستبداد في شكل انقلابات دستورية، وإعادة عسكرة السلطة، فمن أصل 54 دولة في أفريقيا تصنّف 23 دولة باعتبارها أنظمة شبه سلطوية، أي تُقدّم شكلاً ديمقراطياً، ولكنّها تمارس السلطة ممارسة استبداديّة، وتُنظّم الانتخابات، هناك، وفق التقويم الدستوري. ولكن، بطريقة لا تترك أيَّ إمكانية للتناوب. ولذلك، تتميّز هذه الأنظمة بتركيز السلطة في أيدي عدد قليل من الناس، وبطول عمر القادة أو الحزب الحاكم، أو كليهما، وبالتضييق على المعارضة، ومنع حرّية التعبير أو على الأقلّ حصرها في أضيق نطاق.
الشكلان الآخران للأنظمة الاستبدادية، هما المجالس العسكرية والدكتاتوريات، التي تتميّز بغياب الانتخابات. وتندرج أنظمة الأقلّيات، هذه، كلّها، في سياق الصراع بين القوى الدولية، وتنزاح أحياناً إلى حروبٍ أهلية طاحنة، وقد عادت المجالس العسكرية، التي يُعتقد أنّها تنتمي إلى ماضٍ سياسي مُظلم منذ عام 2020. ومن الخرطوم إلى كوناكري، استعاد الجيش السلطة بين عامي 2020 و2022. ودشّنت مالي عودة الجيش في عام 2020، ووصل وباء الانقلابات إلى السودان وغينيا وبوركينا فاسو. وكانت الديمقراطيتان، المالية والبوركينابية الفتيّة (بعد انهيار نظام بليز كومباوري الطويل الذي بدأ في 1987 ثم طُرد بثورة الشوارع في 2014) الضحيتين الجانبيتين للحرب في منطقة الساحل. ويستمرّ الإغراء العسكري في أفريقيا، كما يتضح، في الانقلابات المتلاحقة التي شهدتها النيجر والغابون.
وإذا كنت الأنظمة العسكرية معروفة بمصادرتها كلّ مظاهر الحياة السياسية، فإنّ الدكتاتوريات المدنية تفضي، أحياناً، إلى حالة من الصراعات الطويلة تمنع تطبيع الوضع السياسي في البلاد. وعلى سبيل المثال، انزلقت دولة جنوب السودان الجديدة إلى حرب أهلية بعد عامين من الاستقلال، وعانت إريتريا من صراع طويل مع جارتها إثيوبيا. علاوة على ذلك، يكون الخطّ الفاصل بين الدكتاتوريات العسكرية والديكتاتوريات المدنية غير واضح في أحيانٍ كثيرة (نموذجا مصر وإريتريا). أمّا الأنظمة المُصنّفة ديمقراطية في القارّة الأفريقية، فلا يزيد عددها على 18 دولة، وهي، واقعياً، بصدد التناقص. وإذا كان هذا النظام قد ترسّخ في البلدان، منذ القرن العشرين، مثل جنوب أفريقيا والسنغال إلى حدّ ما، فإنّ بلداناً أخرى هي ديمقراطيات القرن الحادي والعشرين. لقد تعثرت هذه الديمقراطيات الحديثة وواجهتها مشكلات حادّة في إنجاح انتقالها السياسي، وشهدت تناوبات انتخابية سلمية (نيجيريا، وغانا، والسنغال، وتونس). وفي بعض الحالات، أدّى ترسيخ الروح الديمقراطية إلى مقاومة الرغبات المُناهضة للديمقراطية لدى من هم في السلطة. ففي السنغال، حالت تعبئة المواطنين دون محاولة الرئيس ماكي سال الترشّح لولاية ثالثة. ومع ذلك، دفعت الاتجاهات المثيرة للقلق بعض البلدان نحو الاستبداد، وأضعفت الديمقراطيات الحالية، وربّما كان النموذج التونسي أكثرها وضوحاً، فبعد عشر سنوات من نجاح ثورتها وبداية خطواتها الديمقراطية سنة 2011، جاءت الإجراءات الرئاسية لسنة 2021، لتعيد السؤال بشأن مستقبل الحرّيات ومصير التناوب السلمي على السلطة.
لقد تضاعفت المراجعات الدستورية الرامية إلى توسيع السلطات الرئاسية الحالية في أفريقيا، وهي خطواتٌ عبّرت عن حالة من الردّة عن مكاسب الانتقال السياسي، خلال موجة التحوّل الديمقراطي في بداية القرن الحالي، أدرجت الدول في دساتيرها بنوداً تحدّ من عدد الولايات للرئيس نفسه، وتفرض قيوداً على سنّه، وتحدّد صلاحياته. لكن، في السنوات الأخيرة، ومع تصاعد الردّة عن التحوّل الديمقراطي، شهدنا استهتاراً بمراجعة أو حذف هذه البنود بالوسائل البرلمانية، مثلما حصل في بوروندي في عام 2015، وفي زامبيا في عام 2018، وفي ساحل العاج في عام 2018، أو حتَّى من خلال إصدار دستور جديد وفق رغبات الرئيس، مثلما حصل في تونس (2022).
تعكس حالة التجاذب التي تعرفها أفريقيا بين هيمنة الاستبداد والديمقراطية الهشّة، وغير القادرة على التجذّر والثبات، عمق الأزمة التي تعانيها الشعوب الأفريقية، التي لم تعرف الاستقرار إلى اليوم، وظلّت حبيسة الصراعات الدولية، ومثلما عكست “الموجة الديمقراطية” في أفريقيا السياق الدولي، وقتها، فإنّها تستفيد اليوم من حالة نقيضة، إذ تشجّع الدكتاتوريات في الساحة الدولية، وبعد فشلهم في إنتاج نموذج محلّي، انجذب الزعماء الأفارقة إلى نماذج سلطوية مثل الصين وروسيا، التي تعرض عليهم دعم بديل سياسي للنموذجين، الأوروبي والأميركي.
المصدر: العربي الجديد