محمد المختار الشنقيطي
“مرحبا بكم في المساحة الرمادية”! هذه جملة اعتدتُ تحيَّةَ طلابي بها، كلما بدأتُ تدريسهم مادة “الأخلاق السياسية”، أو مادة “الأخلاق في العلاقات الدولية”. وحين يتساءل الطلاب: “ما هي المساحة الرمادية”؟ أجيبهم بأنها هي منطقة الممارسة السياسية عموما.
فالممارسة السياسية الرصينة ليست تعلقا ذهنيا بمثاليات مجرَّدة، بل هي فنُّ تحقيق الممكن عبر بناء المساحات المشتركة، وضمن معادلات الزمان والمكان. فالفعل السياسي لا يتحقق إلا من خلال مساحات مشتركة، مع أبناء الوطن الواحد داخليا، ومع دول وهيئات أجنبية خارجيا. وكثيرا ما يستلزم بناء المساحات المشتركة الغضَّ عن أمور لا تسُرُّ، والتحالف مع مخالف ضد مخالف، والاستعانة بعدوٍّ على عدوٍّ.
ولا ينحصر بناء المساحات السياسية المشتركة في حدود الدين الواحد، أو المذهب الواحد، أو الأيديولوجيا المتفق عليها، لأن ما يحكمه هو منطق “المصالح المرسلة المعتبرة”، بمعناها المطلق في التشريع الإسلامي، الذي لا يتقيد إلا بالضوابط الأخلاقية والمصلحية.
وقد سنَّ لنا نبينا صلى الله عليه وسلم سُنَنًا سياسيةً هاديةً في هذا المضمار، حين احتمى بمكانة عمِّه المشرك أبي طالب من سطوة مشركي قريش، وبعث أصحابه لاجئين إلى ملِك الحبشة المسيحي من اضطهاد كفار مكة، واتَّخذ من عبد الله بن أريقط دليلا في هجرته “وكان مشركا على دين قومه” (صحيح البخاري)، ودخل في جوار المشرك المطعم بن عدي احتماءً من مشركي مكة، واستعار السلاح من المشرك صفوان بن أمية فقاتل به مشركي هوازن في حنين، واستخدم الشاعر المشرك معبد بن أبي معبد في الحرب النفسية على جيش المشركين بقيادة أبي سفيان، وحالف قبيلة خزاعة -وهي يومذاك خليط من المسلمين والمشركين- بناءً على صلاتهم التقليدية مع الأسرة الهاشمية في الجاهلية، فكانت خزاعة “عَيْبَة نُصْح لرسول الله بتِهامة مسلمُهم وكافرُهم” (سيرة ابن هشام).
ثلاثة شروط للنجاح
إن بناء المساحات المشتركة مع الآخرين ضرورة لا مناص منها في السياسة العملية، تقسيطًا للجهد المبذول، وتضييقا لساحات المواجهة، وتجنُّبا لقتال الجبهات العريضة. فالعاجز عن بناء المساحات المشتركة ليس له من فقه السياسة العملية نصيبٌ. وقد يصلح واعظا بليغا، أو كاتبا مبدعا، أو شاعرا حالمِاً، أو فيلسوفا غارقا في تجريداته، لكنه لا يصلح ممارسا سياسيا بكل تأكيد، لأن السياسة العملية تحتاج إلى ما دعاه المفكر الجزائري مالك بن نبي “المنطق العملي.”
إن النجاح في السياسة العملية، وما تستلزمه من بناء المساحات المشتركة مع الآخرين، يستلزم أمورا ثلاثة:
- أولها: ما دعاه المفكر السياسي الأميركي جوزيف نايْ “الذكاء السياقي”، وهو القدرة على استيعاب ظروف الزمان والمكان والإمكان، وما يترتب عليها من ترتيب الأولويات، واختلاف الواجبات، ومَراتب المسؤوليات. وأول ملامح الذكاء السياقي هو وعي أهل كلِّ ثغرٍ بواجبهم المتعيِّن في ثغرهم المخصوص، والسعي إلى سَدِّ ذلك الثغر بفاعلية، وعدم التشتُّت في مواجهات على ثغور أخرى لم يحمِّلهم الله أمرها، ولا يُجدي جهدُهم فيها، بل قد يضرُّ بواجبهم المتعيِّن دون فائدة يجنيها إخوانهم على الثغور الأخرى.
- وثانيها: الحاسَّة الاستراتيجية. وهي المرادف المعاصر لمفهوم “الحكمة” في التراث الإسلامي. فإذا كانت الحكمة تُعرَّف قديما بأنها “وضْعُ الشيء في موضعه”، فيمكننا تعريف الحاسَّة الاستراتيجية بأنها “وضع الجهد في موضعه”، والوصول إلى الغايات الـمُبتغاة بأرخص ثمن وأخصر طريق، أو التناسب بين التضحيات والثمرات في أقل تقدير. أما إذا تكشَّف أن التضحياتِ جليلةٌ والثمراتِ هزيلةٌ -كحال أغلب تجاربنا السياسية والعسكرية المعاصرة- فذلك دليل واضح على خلل في الحاسَّة الاستراتيجية.
- وثالثها: الوعي بالبيئة الإقليمية والدولية المحيطة. فهذا الوعي هو الذي يُعِين الثورات وحركات التحرر على وضع نفسها ضمن سياق مواتٍ لرسالتها. أما عدم الوعي بالبيئة الإقليمية والدولية فقد يدفع إلى خوض حروب سابقة لأوانها، أو متأخرة عنه، أو الفشل في إدارة المساحات المشتركة بالمراهنة المفْرطة على قوى إقليمية تُظهر غيرَ ما تُبطن، وتخذل الثوار من حيث أظهرت أنها تنصرهم، أو الانخداع بقوى دولية تسعى لتحويل الثوار أدواتٍ ضمن استراتيجيتها في تهشيم الدول وتمزيق الأوطان، مع منعهم من تحقيق الكرامة والحرية لشعوبهم.
وأصعب ما يكون بناء المساحات المشتركة حين تتعدَّد الثغور، وتتداخل الجبهات، كما هو حالنا اليوم، حيث أصبح جسد الأمة كلها مثخنا بالجراح، حتى تكسَّرت النِّصال على النِّصال. وفي هذا النمط من السياقات قد يصبح نصيرُ ك هو الذي يذبح أخاك من الوريد إلى الوريد، ونصيره هو الذي يذبحك من الوريد إلى الوريد. وهنا تلتَبِس السبل على السائرين، ممن يبحثون عن الأجوبة السهلة للأسئلة الصعبة، وتختلط المسائل المركَّبة على العقول البسيطة التي لا تحسن التعامل مع المساحات الرمادية.
غايات الداعم والمدعوم
لم يعرف تاريخ الثورات المعاصرة ثورة منزَّهة عن الدعم الخارجي، منذ الثورة الأميركية التي اندلعت عام 1776، ودعمتها فرنسا الملَكية، نكاية في الإمبراطورية البريطانية التي استنزفت فرنسا في حرب الأعوام السبعة (1756-1763) قبل ذلك بسنين معدودة. ومن المعلوم من التاريخ بالضرورة أن مَلِك فرنسا المستبد لويس السادس عشر (1754-1793) لم يدعم الثورة الأميركية اقتناعا بقيَمها الجمهورية، فقد كان من أعظم ملوك أوروبا استبدادا وفسادا. لكن الآثار أهم من المقاصد في العمل السياسي، وما كان يهم الثوار الأميركيين هو آثار الدعم الفرنسي، لا مقاصد الملك الفرنسي.
إن الثوار الذين يملكون ذكاء سياقيًّا، وحاسَّة استراتيجية، ووعيا بالبيئة المحيطة، يستطيعون التعامل مع الدعم الخارجي بحكمة وواقعية، بغضِّ النظر عن مقاصد الداعمين، بعيداً عن المزايدات والمثاليات الحالمة المتعالية على الدعم الخارجي الذي لا غنى عنه لأي ثورة، ودون الوقوع في شراك الداعمين وأهدافهم البعيدة عن أهداف الثورة.
فالعلاقة بين الثوار وداعميهم الدوليين هي أشبه ما تكون بقطع مسافة من الطريق مع رفيق له وجهته النهائية، ولك وجهتك النهائية. على أن اختلاف الوجهة لا يمنع أيا منكما من حسْن الصُّحبة مع رفيق الطريق، مستصحبا الحذر من أن يسحبه صاحبه -بلطْف الرُّفقة وحلْو الحديث- إلى وِجْهةٍ غير وِجْهته، في لحظة استغفال لم يحسب لها حسابا. ولعل أبلغ من عبَّر عن تعقيد هذه العلاقة التي تنشأ على قارعة الطريق هو الشاعر الفيلسوف محمد إقبال إذ قال:
أرافقُ في طريقي كل ســـارٍ وأعطيه نصيباً من طريقي
ولمْ أرَ في طريقٍ مستعـــداًّ يكون على نهايته رفيقي
فالداعم الخارجي للثورات وحركات التحرر الوطني لا يدعمها -في غالب الأحيان- إيمانًا واحتسابًا، وإنما لتحقيق مصالح له، تتلاقَى تلاقيًا ظرفيًّا مع مصلحة الثوار، وقد تكون غاياته البعيدة نقيض ما يسعى إليه الثوار، وأكثر ما يكون دافعه هو النكاية في خصومه لا الرغبة في انتصار الثوار:
- فحينما دعم قادة الشيوعية العالمية (ماو، خروتشوف، تيتو، هوشي منه) الثورة الجزائرية المجيدة (1954-1962) في الخمسينيات والستينيات لم يفعلوا ذلك إيمانا واحتسابا، ولا دفاعا عن حق الجزائريين في الاستقلال عن فرنسا، بل نكاية في المعسكر الغربي، واستنزافا ومشاغَلة له، في أوج الحرب الباردة بين الشيوعية الشرقية والرأسمالية الغربية.
- وحينما بدأ الأميركيون “عملية الإعصار” Operation Cyclon لدعم المجاهدين الأفغان في الثمانينيات لم يفعلوا ذلك إيمانا واحتسابا، ولا دعما لحق الأفغان في الاستقلال وبناء دولة إسلامية، بل اقتناصا لفرصة تاريخية لاستنزاف الإمبراطورية الشيوعية الشائخة، على أيدي الشعب الأفغاني الأبيٍّ، وفي أرض أفغانستان الوعرة، المتمنَّعة على جيوش الغزاة، حتى لقَّبها المؤرخون “مقبرة الامبراطوريات”.
- وحينما دعم الأميركيون الثوار السوريين بالمال والسلاح في عملية “خشب الجمّيز” Timber Sycamore لم يفعلوا ذلك إيمانا واحتسابا، ولا نصرة للثورة السورية، أو تشجيعا للثورات العربية. وإنما فعلوا ذلك استثمارا في بسالة الشعب السوري لتنفيذ “استراتيجية التهشيم” الذي ينتهجونها ضد الدول العربية المحيطة بالدولة اليهودية، وتخلصا من إرهاب “تنظيم الدول” دون ضريبة من الدم الأميركي.
- وحينما يدعم قادة إيران حركة المقاومة الإسلامية (حماس) اليوم فهم لا يفعلون ذلك إيمانا واحتسابا، بل لأن هذه المقاومة جزء مهمٌّ من طوق النيران الذي تطوِّق به إيران إسرائيل، وتحمي به نفسها، لتتمكن من مشاغلة الدولة اليهودية بعيدا عن حدودها، حتى تستكمل بناء سلاحها النووي الرادع. ولو كانت (حماس) مسيحية أو شيوعية فلن ينقص ذلك من أهميتها الاستراتيجية لإيران.
وكثيرا ما تحْدُث القطيعة بين الثوار وداعميهم الخارجيين إذا تحققت أهداف الداعم قبل تحقُّق أهداف المدعوم. بل قد يكون الداعم الخارجي أحيانا معاديا لأهداف الثورة التي يدعهما، ولا يمنعه ذلك من دعمها مؤقتا نكاية في خصومه، مع السعي الخفيِّ إلى تدمير الثورة ذاتها من الداخل. فالدعم المالي والعسكري الخارجي من أشدِّ الوسائل فعالية للتحكم في مسارات الثورات، وتخريبها من الداخل. وهذا أسلوب خبيث برعت فيه القوى الدولية الغربية في تعاملها مع الثورات وقوى التحرير الوطني، بينما كانت القوى الدولية الشرقية أقلَّ نفاقا وازدواجية في هذا المضمار.
فحينما تحققت الأهداف الأميركية في أفغانستان، من انسحاب الجيش السوفييتي مدحورا، وبداية تفكك تلك الإمبراطورية السوفييتية، انقلبت أميركا على المجاهدين الأفغان، وطاردت حلفاءهم من الأفغان العرب في كل مكان، وصنَّفتهم ضمن الجماعات الإرهابية. وحينما تحققت الأهداف الأميركية في سوريا، فتهشَّمت الدولة السورية، وخرجت من معادلة المواجهة مع إسرائيل، وتفكَّك تنظيم الدولة، وأصبح في خبر كان، تخلَّى الأميركان والتابعون لهم بإحسان عن دعم الثوار السوريين، وتركوا الشعب السوري منكشفا أمام الهمجية الأسدية.
بل إن بعض الحكام العرب الذين دعموا الثوار السوريين بالمال والسلاح سابقا تحت المظلة الأميركية اتجهوا في الأعوام الأخيرة إلى إعادة تأهيل بشار الأسد، وردّ الاعتبار لسلطته الغاشمة، من خلال دعوته لقمم الجامعة العربية. فبرهنوا بهذا أنهم لا يملكون قرارهم الاستراتيجي، وأنهم طوعَ الأيدي الأميركية، في تطبيق النظرية الأميركية الجهنَّمية: “إعطاء الحرب فرصة“، التي تناولناها في مقال سابق على هذا الموقع، وشرحنا ما يترتب عليها من تهشيم الدول وتمزيق المجتمعات.
ثُوارٌ للاستخدام العابر
لا يَسُوغ لوم المجاهدين الأفغان، ولا الثوار السوريين، ولا المقاومين الفلسطينيين، على قبول أي منهم دعم الداعمين. فليس لدى الغريق مناصٌ من التشبث بأي قشة تلامسها يده (الجزيرة)
وإذا كان المجاهدون الأفغان رأوا الحرب ضد السوفييت حربا وجودية -وهي كذلك يقينًا-واعتبروا النصر فيها مسألة وجود أو عدم بالنسبة للشعب الأفغاني، فإنها بالنسبة للأميركان والتابعين لهم بإحسان كانت مجرد تكتيك انتهازي، واستخدام عابر للمجاهدين الأفغان، في سبيل استنزاف الروس. أما الدم الأفغاني المِدرار الذي سال فيها فلم يكن -في نظر أولئك الداعمين- يستحق ثمنا من الحرية والقيم الإسلامية والاستقرار واستقلال القرار، وهي الغايات التي قاتل الأفغان ببسالة في سبيل تحقيقها.
وإذا كان الثوار السوريون رأوا الحرب مع نظام بشار الأسد حربا وجودية -وهي كذلك من دون ريب- فإن الأميركان وجدوها مجرد فرصة انتهازية، واستخدام عابر للثوار السوريين، من أجل تهشيم إحدى الدول العربية المحاذية لإسرائيل، واستئصال إرهاب “تنظيم الدولة” دون بذل للدم الأميركي، ودون السماح للشعب السوري بتحقيق ما يصبو إليه من تحقيق الحرية والكرامة الإنسانية في بلده، وكسْر قيد النظام الدموي الطائفي الذي حكمه أكثر من نصف قرن.
فالحرية السياسية واستقلال القرار الاستراتيجي في المشرق العربي تغيير للبيئة الاستراتيجية المحيطة بالدولة اليهودية، وذلك خط أحمر جِدِّيٌّ لن يسمح الأميركيون بتجاوزه إلا راغمين، بخلاف الخطوط الوهمية الأخرى التي تحدث عنها باراك أوباما لتخدير الأسماع العربية، مثل استخدام بشار الأسد السلاح الكيماوي ضد الشعب السوري.
وقد نشر الباحثان “سلفيك” و”رولاندسن”، من “معهد بحوث السلام” و”المعهد النرويجي للشؤون الخارجية” في أوسلو، بحثا أكاديميا مشتركا عام 2020 عن الدعم العسكري الأميركي للثوار السوريين، بعنوان: “متمرِّدون للاستعمال العابر” Disposable Rebels يصلح دراسة نموذجية للفجوة الشاسعة بين مطامع الداعم ومطامح المدعوم. كما أن عنوان البحث يَصْدُق على حالات دول وقوى سياسية عديدة في تاريخنا المعاصر، بحكم كوننا أمة رضيتْ بدور المنفعل، وتخلَّتْ عن دور الفاعل، مدة مديدة. فكم فينا من حكام وقوى سياسية، وحتى دول، للاستخدام العابر!
ومن الأفكار المهمة التي خلص إليها البحث أن الدعم الأميركي للثوار السوريين مثال على اختلاف الأهداف بين الداعم والمدعوم، وهو أمر وارد وطبيعي في الأحلاف السياسية والعسكرية، كما أنه مثال على الحرب بالنيابة لتحقيق أهداف السياسة الخارجية الأميركية، وهو أمر ليس جديدا في الاستراتيجية الأميركية. وأن ذلك الدعم كان محكوما بغايات أميركية خالصة، لا علاقة لها بانتصار الثورة السورية، ومن هذه الغايات:
- التحكم في كل الأطراف المتحاربة، مع الحيلولة دون انتصار أي طرف منها على الآخر.
- التحكم في مستوى دعم الداعمين الإقليميين، وفي سلوك المدعومين داخل سوريا.
- الاقتصاد في الدماء والأموال الأميركية خلال تصفية تنظيم الدولية في سوريا والعراق.
- تجنب الظهور الواضح للقوات الأميركية في بلاد لا يرغب أهلها في رؤيتها داخل بلادهم.
- منع الثوار من “التسوق المفتوح” للسلاح، لأن ذلك يمنحهم استقلال القرار الاستراتيجي.
- تفريق صف الثوار بتهميش القيادة السياسية للثورة والتعامل المباشر مع الفصائل المقاتلة.
- إبقاء الدعم أقل مما يحتاجه الثوار للانتصار، وربطه بمستوى “الولاء والطاعة” للداعم.
- التحكم في مدى العمليات العسكرية التي يشنها الثوار ضد النظام، وفي مسار ها ونتائجها.
- وضع سقف لاستخدام الدعم العسكري، بما في ذلك التحكم في تحديد الأهداف العسكرية.
- إبقاء الحرب مفتوحة لمدة مديدة، دون غالب ولا مغلوب، تدميرا لجميع الأطراف المتحاربة.
وقد قسَّم الباحثان أنماط الدعم العسكري للحركات الثورية إلى قسمين: دعم بهدف انتصار المدعوم، ودعم بهدف بقائه فقط، لأن ما يسعى إليه الداعم هنا هو تهشيم الدول، وتمزيق المجتمعات، من خلال استنزاف كل الأطراف. فكتبا عن ذلك: “أحيانا تكون غاية الداعم للمتمردين هي مجرد تمكُّنهم من إبقاء السلطة القائمة في حرب دائمة، وبقائهم هم على قيد الحياة فقط.” وهذا ما فعله الأميركان والتابعون لهم بإحسان مع الثورة السورية.
ولا أحد يستطيع التنبؤ بسلوك إيران السياسي مستقبلا، أو بعلاقاتها بالمقاومة الفلسطينية، بعد أن تنتج سلاح نوويا رادعا، يغنيها عن طوق النيران الذي تطوِّق به الدولة اليهودية، وتجعل منه ذريعة لاستباحة عدة بلدان عربية. فتحقُّق غايات الداعم قبل تحقق غايات المدعوم كثيرا ما يترتب عليه تغير في العلاقات بينهما في غير مصلحة المدعوم.
ولست أنكر أن إنتاج إيران للسلاح النووي سيخدم القضية الفلسطينية بآثاره الجانبية، وأهمها الأثر النفسي على المجتمع الصهيوني الملفَّق من أشتات بشرية قد تتفكك وتتبعثر في أرجاء العالم في رعب السباق النووي، بعد أن ينكسر الاحتكار الصهيوني لهذا السلاح في المنطقة. وإنما قصدتُ أن المقاومة الفلسطينية قد تحتاج التخطيط من الآن لإكمال الطريق مع رفقة جديدة بعد اكتمال المشروع النووي الإيراني، الذي سيترتب عليه مراجعة إيران لعقيدتها الاستراتيجية، وتغيرٌ جوهري في رؤيتها لنفسها، وفي رؤية العالَم لها، وفي علاقة القوى الدولية بها، بما في ذلك أميركا.
على أن كل ما ذكرناه لا يسوِّغ لوم المجاهدين الأفغان، ولا الثوار السوريين، ولا المقاومين الفلسطينيين، على قبول أي منهم دعم الداعمين. فليس لدى الغريق مناصٌ من التشبث بأي قشة تلامسها يده، وليس أمام من استُبيحت أرواحهم، وأُخرجوا من ديارهم بغير حق، سوى قبول الدعم المالي والسياسي والعسكري من الخارج.
كل ما في الأمر أن إدارة العلاقات مع الداعمين تستلزم وعيا بمقاصدهم الخفية، وغاياتهم الاستراتيجية، وعدم التعاطي معهم بحسن نية وصفاء طوية، والسعي إلى سحبهم إلى ساحاتك وغايتك، والحذر من سحبهم لك إلى ساحاتهم وغاياتهم، والاستعداد لأي تغير في العلاقة، خصوصا إذا حقق الداعم أهدافه أن تحقق أهدافك.
والأهم من ذلك بالنسبة لموضوعنا هو أن إدارة الدعم في ظروف الثغور المتعددة تستلزم تجردا وموضوعية، وإنصافا من كل أهل ثغر لأهالي الثغور الأخرى، إذ ليس من الإنصاف أن أترخَّص في الدعم السياسي والعسكري من عدوِّ أخي، ثم ألوم أخي إذا قبل الدعم من عدوِّي. ومن المهم أيضا التركيز على الفاعلية المحلية أكثر من المناصرة العامة. فظهور بؤر متعددة من الانتصارات، وانفتاح ثغرات في الطريق المسدود هنا وهناك، يخدم الأمة اليوم، ويحيي فيها الآمال، أكثر مما يخدمها التناصر العاطفي واللفظي من بعيد، دون أثر فاعل على الأرض.
عبرة الثورة الجزائرية
كان الثوار الجزائريون على قدر كبير من الذكاء السياقي والحاسة الاستراتيجية، فقد فجَّروا ثورتهم في أوج انشطار الحرب الباردة بين الشرق الشيوعي والغرب الرأسمالي (مواقع التواصل)
ويقدِّم تاريخ الثورة الجزائرية المجيدة (1954-1962) عبرة ثمينة للثورات وحركات التحرر في هذا المضمار. فحينما تفجَّرت الثورة الجزائرية- وهي أعظم تجربة جهادية في تاريخنا المعاصر- كان من أول التحركات الدبلوماسية للثوار الجزائريين زيارة تاريخية لفيتنام بدعوة من زعيمها الشيوعي “هو شي منه”، وللصين بدعوة من زعيمها الشيوعي “ماو تسي تونغ”. وكان من أول الدول اعترافا بحكومة الثورة الجزائرية في المنفى ثلا ث دو ل شيوعية اعترفت بها خلال أسبوع واحد، وهي الصين، وكوريا الشمالية، وفيتنام الشمالية (قبل توحيد فيتنام). كما كان الزعيم الشيوعي اليوغوسلافي جوزيف تيتو من أهم الداعمين للثورة الجزائرية عسكريا وسياسيا.
وقد كان الثوار الجزائريون على قدر كبير من الذكاء السياقي والحاسة الاستراتيجية، فقد فجَّروا ثورتهم في أوج انشطار الحرب الباردة بين الشرق الشيوعي والغرب الرأسمالي، مدركين أنهم سيكسبون الكثير من ذلك الانشطار في النظام الدولي، لأن كل من ثار على الهيمنة الغربية حينها وجد الدعم السخيَّ من المعسكر الشيوعي نكاية في الغرب. كما كان الثوار الجزائريون على وعي بمراتب المسؤوليات، وبأن مسؤوليتهم الشرعية والإنسانية الأولى هي تحرير الشعب الجزائري من نير الاستعمار الفرنسي.
ولم يكن خفيًّا على الثوار الجزائريين -وجلُّهم إسلاميون وقوميون محافظون ووطنيون متديِّنون- أن قادة الشيوعية العالمية الذين يدعمونهم كانوا من عتاة الإلحاد في العالم، وأنهم كانوا يضطهدون حينها شعوبا مسلمة عريقة في الإسلام، في غرب الصين وآسيا الوسطى والبلقان. لكن الثائر الجزائري لم يكن في وْسْعه يومها أن يفعل شيئا لإنقاذ المسلمين الطاجيك أو الأوزبك أو البوسنيين أو الإيغور من الاضطهاد الشيوعي، رغم تعاطفه القلبي معهم.
ولم يكن من الحكمة أن يفرِّط في واجبه المتعيِّن -وهو تحرير شعبه من الاحتلال الفرنسي- بمزايدات كلامية ضد قادة الشيوعية العالمية وعدائهم للإسلام، وهي مزايدات كانت ستضر قضيته دون أن تعين إخوانه في الدين بشيء. وهذا درس مهم في فقه الثغور المتعددة ومساحاته الرمادية، وهو أن الثائر لا يحق له التفريط في واجبه المتعيِّن، بحجَّة التعاضد مع إخوة في الدين لا يملك من أمرهم شيئا، وأن فاعليته على ثغره المخصوص أجدى له ولهم في نهاية المطاف.
ورغم استفادتهم العظيمة من الانشطار الدولي في الحرب الباردة، ودعم المعسكر الشيوعي لهم سياسيا وعسكريا، حرص ثوار الجزائر على عدم التماهي مع الكتلة الشيوعية، لدوافع مبدئية ومصلحية. وقد عبَّر عن ذلك رئيس حكومة الثورة الجزائرية في المنفى فرحات عباس بالقول: “إن كسب تعاطف الشعوب الشيوعية مع قضيتنا لا ينبغي أن يتحول إلى ارتباط بالمعسكر الشيوعي.” ومثله قول وزير الخارجية في حكومة الثورة كريم بلقاسم: “نوايا الكتلة السوفيتية حسنة نحونا. وبالتالي يمكن أن نستفيد من هذا الاستعداد، دون أي التزام، أو رهن للمستقبل من جانبنا.”
ولم يكن الأمر سهلا حينها، فقد استطاعت بعض العناصر الشيوعية اختراق الثورة، وكادت تَحْرفها عن مسارها الإسلامي، كما ظهر فاقعا في مؤتمر طرابلس عام 1959. لكن وعي القيادة الثورية الجزائرية، والمناعة الإسلامية التي زرعها علماء الإصلاح الإسلامي في قلوب الشعب الجزائري، لم يتركا للقوى الشيوعية الداعمة فرصة لاختراق الثورة.
وإذا كان ما تمناه قادة الشيوعية الدولية من السوفييت والصينيين هو إزاحة النفوذ الغربي من الجزائر، وإحلال الحكم الشيوعي محله، فإن الثوار الجزائريين استفادوا من الشِّق الأول، وقاوموا الثاني. فبنوا مساحة مشتركة مع المعسكر الشيوعي ضمن دائرة محدَّدة، هي مناهضة النفوذ الغربي، ثم قاوموا أي اختراق شيوعي لصفوفهم، أو تحريفٍ شيوعيٍّ لمسار ثورتهم، التي نحتْ منحىً إسلاميا منذ شرارتها الأولى، ونصَّ بيانها الأول الصادر فجر الفاتح من نوفمبر 1954 على “إقامة الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية ذات السيادة ضمن إطار المبادئ الإسلامية.”
تلكم هي معالم الممارسة السياسة الرصينة: ذكاء سياقي عميق، وحاسة استراتيجية مُرهفة، ووعي بالبيئة المحيطة، وترتيب للواجبات والمسؤوليات طبقا لمعادلات الزمان والمكان والإمكان، مع حرص على كل ما ينفع القضية، وبناء للمساحات المشتركة مع كل من يفيدها، وقطْع جزء من الطريق معه، بغضِّ النظر عن مقاصده وغاياته النهائية. أما السياسة الساذجة الحالمة فيظن أصحابها أنهم يتحركون في كون خالٍ إلا منهم، فلا يسعون لبناء المساحات المشتركة.
وإن دفعتهم الضرورات العملية إلى الاستعانة بطرف غير مرغوب فيه ارتبكوا وجادلوا، وتمحَّلوا في تبرئة ذواتهم “الطاهرة” وأفعالهم “المطهَّرة”، دون داع لكل ذلك التكلف. ثم هم يبالغون في التهجُّم على من يترخَّصون مثل ترخُّصهم في استلام الدعم الخارجي من أطراف تمارس الظلم والعدوان في ثغر آخر من ثغور الأمة الكثيرة الدامية، فيضعفون موقف إخوانهم من أهل الثغور الأخرى بالمزايدات التي لا طائل من ورائها.
وقد يكون ممكنا في الماضي لقاء قادة المجاهدين الأفغان بالرئيس الأميركي ريغان في البيت الأبيض، ثم الادِّعاء في الإعلام أنهم زاروه لدعوته إلى الإسلام، وإنكار أي تلقِّ لأي دعم أميركي، صونا للصورة أمام البسطاء من عامة الناس. لكن الأوْلى في عصر ثورة الاتصال الحالية هو التحرر من الطفولة الثورية، وممارسة السياسة العملية على أصولها: بذكاء عملي، وتواضع أخلاقي، ودون رياء أو مراء. فحتى الاستعانة بعدوّ على عدوّ أمر طبيعي في الممارسة السياسية، وجزء أصيل من مساحاتها الرمادية. وكما قال المفكر الاستراتيجي من مؤسسة (راند) الأميركية روبرت ووهلستتر: “ليست أهدافنا متناقضة بالضرورة مع أهداف عدوّنا”.
فلا فرق بين غرفتي (إسلام آباد) و(بيشاور) لدعم المجاهدين الأفغان قديما، وغرفتي (المُوكْ) و(الموم) لدعم الثوار السوريين حديثا، فكلها غرف استراتيجية تدير من خلالها القوى الإقليمية حروبا نيابة عن القوى الدولية. ولا فرق بين صواريخ “ستينغر” المضادة للطائرات التي زودت بها أميركا المجاهدين الأفغان في الثمانينيات، وصواريخ “التاو” المضادة للدروع التي زودت أميركا بها الثوار السوريين منذ بضع سنين. فكلها أسلحة أميركية لا تُمنح لوجه الله، ولا تباع دون رخصة أميركية. ولا يُعاب المجاهدون الأفغان قديما، ولا الثوار السوريون حديثا، في قبولها، أو قبول غيرها من أوجه الدعم، بغضِّ النظر عن نيات الداعمين.
وربما يجادل البعض بأن المبادئ لا تتجزأ، فلا يسوغ الاستعانة في ثغر من الثغور بمن يحارب الأمة في ثغر آخر. وبأن وحدة الأمة تستلزم وحدة جبهات المواجهة. والحقيقة أن المبادئ لا تتجزأ على المستوى التجريدي فقط. أما على المستوى التطبيقي فالمبادئ تتجزأ، وتتزاحم، فيتعين فيها التقديم والتأخير، ومراعاة السياقات في التطبيق. وأعظم تحدٍّ للممارس السياسي هو التعامل مع المبادئ المتزاحمة، والمصالح المتضاربة. ولو كانت الأمور بالأبيض والأسود، لكانت الممارسة السياسية بسيطة كشربة ماء، لا معقدة كتركيب الكيمياء.
ونحن نتفق مع هؤلاء المجادلين في مبدأ وحدة الأمة، أما وحدة الجبهات فهي لا تصلح إلا في عالم مثالي: الأمة فيه متحدة سياسيا، وذمَّتها واحدة قانونيا. فهذه الحالة المثالية هي التي ينطبق الحديث النبوي: “المسلمون تكافأ دماؤهم، ويسْعَى بذمَّتهم أدناهم، وهم يدٌ على من سواه.” (مسند أحمد). ويمكن في سياق مثالي كهذا رفع السقف الأخلاقي عاليا، ومطالبة أهل كل ثغر أن يتعاملوا مع الثغور الأخرى على قدم المساواة، باعتبار كل الثغور جبهة واحدة، وأن يجعلوا ذلك قاعدة للولاء والبراء، ومعيارا ضابطا للعلاقات السياسية.
أما في عالم التمزُّق والتفرُّق الذي نعيشه اليوم فرحم الله من عرف قدره، وركزَّ على حسن الأداء في ثغره. وكما يذكّرنا الشيخ راشد الغنوشي -فرَّج الله بالحرية والعزِّ كرْبَه- فإن الأمة الإسلامية لم تسقط جملةً واحدة في يوم واحد، بل سقطت لَبِنةً لبنةً، “وكذلك إعادة البناء”. فلا حاجة لمزايدات بعض أهل الثغور على بعض اليوم، بل الأوْلى أن يمارس أهل كل ثغر سياستهم العملية بفعالية في ثغرهم وساحتهم، وأن يفرحوا بما يحققه إخوتهم الأحرار في أي ثغر آخر، حتى وإن كان ذلك عبر الاستعانة بقوى إقليمية ودولية تعاني من حيفها ثغور أخرى.
إن تاريخنا مشحون بأمراء من المسلمين ظلموا المسلمين واستباحوا دماءهم في صراعات سياسية داخلية، ثم جاهدوا الكافرين الصائلين على الأمة من خارجها بجِدٍّ وشجاعة. وقد استنكر علماء الأمة على أولئك الأمراء ظلمهم، لكنهم لم يترددوا في الوقوف معهم في جهادهم ضد العدو الصائل على الأمة من خارجها، صونا لذات الأمة ووجودها، ومستقبل الإسلام ورسالته، لا محبةً في أولئك الظلمة أو اقتناعا بشرعيتهم.
ولو كان علماء الإسلام نظروا لهذه التناقضات النظرة الطُّهورية الحِجاجية الشائعة اليوم لعطّلوا الجهاد ضد العدو الصائل على الأمة، بحُجَّة أن من يقتل المسلمين أو يظلمهم لا يُقبَل منه دفعٌ للعدو الصائل عنهم، ولا يجوز تأييده في جهاده وذبِّه عن حياضهم. لكن علماء الإسلام أدركوا أن الأمر محكوم بالمصالح النسبية، وأن الله تعالى “يؤيِّد هذا الدين بالرجل الفاجر وبأقوام لا خلاق لهم،” كما ورد في النصوص النبوية، فضلا عن وفرة أعداد الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا من البشر.
ولذلك أوضح علماء الإسلام أن المسلم يمكن أن يُحب أقواما من وجهٍ، ويبغضهم من وجهٍ آخر، وأن يواليهم من وجهٍ، ويعاديهم من وجهٍ آخر. وما أكثر ما تكررت هذه الفكرة في كتابات ابن تيمية رحمه الله، وقد عاش في عصر معقَّد مثل عصرنا، استبيحت فيه بيضة الأمة، وقلَّ فيه النصير والظهير، ولم تخل فيه ساحة إسلامية من شوائب.
فكان ابن تيمية حريصا على نصرة “كتيبة الإسلام” في عصره، وهي دولة المماليك الفتيَّة في مصر والشام، وعنها كتب: “هذه العصابة التي بالشام ومصر في هذا الوقت هم كتيبة الإسلام، وعزُّهم عزُّ الإسلام، وذلُّهم ذلُّ الإسلام. فلو استولى عليهم التتار لم يبق للإسلام عزٌّ، ولا كلمة عالية، ولا طائفة ظاهرة عالية، يخافها أهل الأرض، تقاتل عنه” (ابن تيمية، الفتاوى).
ففي تلك اللحظة التي تفككت فيها عرى الأمة، وتمزقت أوصالها، واجتاحها العدو الصليبي من الغرب، والعدو المغولي من الشرق، كان ابن تيمية مدركا لواجبه المتعين، وهو دعم “كتيبة الإسلام” في زمانه ومكانه. وهو لم يكن يجهل تعدد الثغور، وكثرة الجراح في جسد الأمة، لكنه وضع يده على قلب الصراع. وقلب الصراع الذي تلتقي عنده الخيوط يومها، وفيه تتكثَّف التحديات والمخاطر، كان الهجمة المغولية التي اجتاحت العراق، والشام، وأوشكت أن تصل مصر عبر بوابة فلسطين، لولا أن كسرها جيش المماليك في معركة عين جالوت قرب بيسان! فبوابة فلسطين هي التي سعى المغول عبرها لسحق آخر قوة إسلامية فتيَّة، وهي دولة المماليك في مصر، وبوابة غزة هي التي استباح منها البريطانيون -بقيادة الجنرال ألَنْبي- مدينة القدس قادمين من مصر عام 1917، ففتحوا الجرح الذي لا يزال ينزف حتى اليوم.
فالمجاهدون في غزة اليوم يصدق عليهم قول ابن تيمية عن أهل مصر والشام أيام الهجمة المغولية: “عزُّهم عزُّ الإسلام، وذلُّهم ذلُّ الإسلام”. كما يصدُق على الملحمة التي يخوضها أهل غزة اليوم أنها حرب فاصلة في رسم مستقبل هذه الأمة لجيل قادم: انبعاثا وعزة، أو انكسارا وذلة. فما أحرانا بالاقتداء بذلك العالِم المجاهد ذي الروح العملية، ونصرة “كتيبة الإسلام” في غزة، لأن نصرتها تقوِّي جهاز مناعة الأمة بأسرها، وبانكسارها -لا قدر الله- تستباح الأمة بأسرها. وما أجدر أهل الثغور كلها أن يفهموا هذه المعادلة الكثيفة التي تمثلها ملحمة “طوفان الأقصى” اليوم.
وحاصل فقه الثغور المتعددة الذي نريد إبرازه هنا هو أنه ليس للفلسطيني أن يحرِّج على السوري في تلقي الدعم العسكري الأميركي، أوفي شكر الأميركيين عليه، كما تقتضيه بدَائهُ العلاقات السياسية والتعامل الدبلوماسي. وبالمثل ليس للسوري -أو العراقي- أن يحرِّج على الفلسطيني في تلقِّي الدعم العسكري الإيراني أو شكر إيران على ذلك، كما تقتضيه بدَائهُ العلاقات السياسية والتعامل الدبلوماسي أيضا. وإنما تقتضي الحكمة السياسية أن يعتبر كل منهم قوة الآخر قوة له، وأن يحرص كل منهم على ما ينفعه.
فليس من الإنصاف في شيء اليوم التشهير بالمقاومين الفلسطينيين من حركة (حماس) وغيرها لقبولهم الدعم المالي والعسكري من إيران، بغضِّ النظر عن نيات إيران واستراتيجيتها، ودورها السيء في ثغور دامية أخرى، مثل الثغر السوري. فلا تطلبْ من أخيك البراءة من عدوك، وأنت تستمد الدعم من عدوِّه، بل تفهَّمْ ظروفه وتوقعْ منه أن يتفهم ظروفك. ورباط القلوب الدائم أقوى من تباين المصالح السياسية الظرفية، إذا صحَّت النيات، وصدقت السَّرائر.
ويبقى دائما من حق الجميع على الجميع أن لا يعين أحدهم ظالما على أخيه، وأن لا يسوغ أحدهم لظالم ظلم أخيه، فهذا أقل ما تستلزمه أرحام الدين والدم والتاريخ والجغرافيا، وهو -بحمد الله- أمر يلتزم به السواد الأعظم من أهل هذه الثغور التزاما مبدئيا، لدواع إيمانية وإنسانية، تتجاوز الاعتبارات السياسية وتعلو عليها.
كما أن كل هذا الحديث الطويل عن المساحات المشتركة لا يمكن -بحال من الأحوال- أن يشمل الاستعانة بالعدو الوجودي المشترك، وهو دولة الكيان الصهيوني التي دفعت كل شعوب الإقليم -ولا تزال تدفع- ثمن وجودها وعدوانها، وعدوان ظهيرها الدولي الغربي. وما معاناة العراقيين والسوريين بأقلَّ من معاناة الفلسطينيين جراء وجود هذه الشوكة المزروعة في قلب الأمة.
بل إن كل العوائق الموضوعة أمام تحرر شعوبنا من الفساد والاستبداد والتمزيق والتفريق لم توضع إلا ضمانا لتفوق هذه النبتة الشائكة على محيطها العربي والإسلامي. فإدخال الدولة الصهيونية ضمن هذا النقاش جدل عابث ومراء لا طائل من ورائه.
وليس فيما ذكرناه ما يمنع من تقديم النصح وتوجيه النقد لمستوى الأداء في إدارة أهل كل ثغر لعلاقاتهم السياسية، وقد كتبنا على هذا الموقع أكثر من مرة في نقد إدارة (حماس) لبعض علاقاتها السياسية أو تعبيرها عن تلك العلاقات. لكن توقيت النقد مهم، باعتباره جزءا من المعادلات السياقية التي تحتاج مراعاة، وهو في أوقات السِّلم والهدوء أسلمُ وأحكمُ، أما حين يكون أهل ثغر من الثغور يواجهون حرب استئصال دموي -كما هو حال أهل غزة اليوم- فإن الدعم والمناصرة مقدَّم على النقد والمناصحة.
فمهاجمة حركة “حماس” في لحظة الاستئصال والإبادة الحالية، ومحاسبتها بقسوة على بضع مجاملات لفظية منها لقادة إيران مقابل الدعم الاستراتيجي الإيراني لها في ساعة العسرة، يكشف عن أمراض طفولية في الثقافة السياسية العربية اليوم، منها الإفراط في المزايدات، وتجنب طريق الإنصاف، وضعف الحاسة الاستراتيجية، وانعدام الذكاء السياقي.
ولعل المتجادلين من أهل الثغور المتعددة اليوم يتعلمون من إخوانهم في مصر. فلم أرَ في موضوع الثغور المتعددة أوسعَ أحلاماً، وأوطأ أكنافاً، وأعظم إيثاراً، وأعمقَ تفهُّما لظروف أهل الثغور، من أحرار مصر: فقد عانوا في بلدهم التقتيل والتنكيل، والسَّجن والتشريد.. لكنك لن تسمع منهم كلمة قدح في أحرار فلسطين إذا تواصلوا مع السلطة المصرية أو جاملوها بمدح وثناء، ولا كلمة اتهام لأحرار اليمن والسودان إذا استعانوا بها أو لجأوا إليها.. فهل هو “قلب الأمّ”، أمِّ الدنيا؟
والخلاصة أن الثائر الذكي يحرص على ما ينفع قضيته، ويُحكم سَداد ثغره، ويركز على الفاعلية حيث هو، ويتفهم ظروف إخوانه على الثغور الأخرى، ولا يحرِّج عليهم فيما ينفعهم، ولا يضيق عليهم في تحالفاتهم السياسة والعسكرية، ويستثمر “لعبة الأمم” بدهاء وروية، فيناور في الصدوع بين الكبار لخدمة قضيته، دون أن يقع في شراكهم. وهو لا يتوقع من داعم إقليمي أو دولي أن يدعمه إيمانا واحتسابا، وإنما هو يدعمك لتحقيق أهدافه الخاصة التي قد لا تكون في صالحك، وأنت تستثمر دعمه لتحقيق أهدافك الخاصة التي قد لا تكون في صالحه، ولكلٍّ بحسب بلائه ودهائه، وكلٌّ محشورٌ على نِيَته.
المصدر: الجزيرة