معقل زهور عدي
هناك إشكالية في فهم البعض للقومية العربية، فالقومية العربية لديهم مشتقة من القوميات الأوربية، وبما أن القوميات الأوربية توصف بكونها ايديولوجيا فالقومية العربية أيضا هي محض ايديولوجيا، وطالما أن عصر القوميات الأوربية قد زال منذ زمن، فلابد أن عصر القومية العربية قد زال، وما تبقى منها فهو مجرد حلم ماضوي.
لكن من الضروري تعريض المقولات السابقة لشيء من النقد، والبحث أبعد مما تقرره بطريقة مبسطة ونقلية.
صحيح أن القومية العربية قد تأثرت بالفكر القومي الأوربي، لكن ككل فكر إنساني من الخطأ التوقف عند مسألة المنشأ، فالفكر- ونحن هنا بصدد الفكر السياسي بصورة خاصة – كائن حي، فهو يمر بمختلف المراحل، والطفولة مرحلة هامة، وكذلك المؤثرات الخارجية التي ينشأ من خلالها، لكن ذلك ليس كل شيء، وربما علينا أن نتفحص بدقة تحولات ذلك الفكر، وتجلياته في مختلف المراحل، والعلاقة الجدلية التي تخلق تأثيرا متبادلا بينه وبين الواقع المتبدل.
أيضا فداخل ذلك الفكر هناك أكثر من تيار، وعندما نفكر في تقييم إجمالي للفكر السياسي فلابد من وعي التعددية التي تميزه، تماما كما هو الحال في الفكر الاشتراكي الذي تتعدد فيه المدارس والتيارات، فهناك الاشتراكية الثورية التي تؤمن بالعنف والنزعة الانقلابية والاشتراكية الاصلاحية التدرجية السلمية، وهناك الاشتراكية الأممية التي لم توافق قط على مسألة إمكانية تطبيق الاشتراكية في بلد واحد كما كانت تطرح (اللينينية)، بل ذهبت إلى فكرة الثورة المستمرة وأن الاشتراكية لابد أن تكون عالمية (التروتسكية).
وعندما نأتي إلى الفكر القومي فلا يمكن أن نضعه أيضا في سلة واحدة متجاهلين التنوع داخله، وما يقال عن الايديولوجية القومية ليس في الحقيقة سوى تيار ضمن الفكر القومي، وما يحدث أنه يجري في كثير من الأحيان وضع الفكر القومي كله في سلة ذلك التيار واعتبار القومية مجرد ايديولوجيا وذلك ليس حقيقيا بدليل التحولات التي طرأت على الفكر القومي، ويتضح ذلك مع إلقاء نظرة أكثر قربا من إحدى مراحل الفكر القومي العربي بين 1908 – 1920.
ولابد من الاشارة هنا إلى أن نطاق البحث المحدد منذ بداية تشكل الفكر القومي وحتى نهاية العهد الفيصلي لا يكفي في تفحص التحولات التي أصابت الفكر القومي العربي وينبغي متابعة دراسة تلك التحولات وصولا للمرحلة الراهنة.
بالعودة لظروف نشأة الفكر القومي العربي كمحاولة لبعث الهوية العربية والرد على التعصب القومي التركي لدى الاتحاديين والذي ظهر منذ صعودهم للسلطة عام 1908 , نرى كيف أن ذلك الفكر بدأ إصلاحيا سلميا لا يهدف سوى إلى الحصول على الحقوق القومية العربية ضمن الرابطة العثمانية , لكن ازدراء الاتحاديين للمطالب العربية والمضي قدما في محاولة تتريك المناطق العربية بفرض اللغة التركية في كل مناحي الحياة خاصة التعليم والقضاء , والمظالم التي رافقت عهد جمال باشا دفعت القوميين العرب باتجاه الدعوة إلى حكم لامركزي ( وهي صيغة مخففة للفدرالية في الواقع ) , ثم لعب المثقفون اللبنانيون خاصة المارونيون والقريبون من السياسة الفرنسية , وكذلك الشريف حسين وثورته دورا هاما في دفع الحركة القومية العربية في بلاد الشام نحو طلب الاستقلال التام والتوجه للدول الأوربية للمساعدة في تحقيق ذلك الانفصال .
في العهد الفيصلي انتقلت القومية العربية من فكرة إنشاء الدولة العربية الكبرى إلى فكرة الدولة العربية النواة مع الاحتفاظ بهدف الوحدة حسب ما تسمح به الظروف السياسية الدولية، هكذا نزلت القومية العربية من عليائها المثالي إلى الواقع السياسي ومن الرغبة والارادة إلى الممكن، ويظهر ذلك أن القومية العربية لم تكن في ذلك الوقت ايديولوجيا صماء ولكن فكرا سياسيا قابلا للتحول، كما تمثل التحول اللاحق في قبولها الوطنية السورية والتشارك معها في ” المملكة العربية السورية “.
منذ تأسيس حزب الاتحاد السوري ( جمعية اللامركزية سابقا ) في كانون أول / يناير 1918 تم وضع برنامج سياسي من أربعة عشر مادة يهدف لتكوين دولة سورية ” بوحدتها القومية ” من طوروس شمالا إلى العقبة جنوبا ومن الفرات والصحراء شرقا إلى البحر المتوسط غربا على أن تكون مستقلة استقلالا تاما بضمانة عصبة الأمم تحكمها حكومة ديمقراطية على مبدأ اللامركزية بقوانين مدنية ماعدا ما يتعلق منها بأحكام الأحوال الشخصية فإنها تبقى على ماهي عليه ونص البرنامج على حماية حقوق الأقليات وتعيين مقر الحكومة الاتحادية في دمشق صيفا وفي بيروت شتاء كما نص على وجوب توحيد برامج التعليم وقبول الانضمام إلى الوحدة العربية في حال قيامها مع المحافظة على” كيان البلاد القومي” .
واختير كل من ميشيل لطف الله اللبناني لرئاسة الحزب، ومحمد رشيد رضا وكيلا والدكتور عبد الرحمن الشهبندر وسليم سركيس سكرتيرين وانضم اليه رفيق العظم والشيخ كامل القصاب وخالد الحكيم وغيرهم.
من الواضح أن برنامج الحزب يعكس التحول الذي طرأ على الفكر القومي العربي قبيل الحرب العالمية الأولى أو على الأقل على أحد فروعه , فبينما كان الفكر القومي العربي يضع نصب عينيه حشد القوى العربية دون تمييز بين أوطانها من أجل انتزاع حقوق العرب داخل الدولة العثمانية والتي كانت ستصبح حقوقا متماثلة بغض النظر عن الأقاليم العربية التي هي تحت السيطرة العثمانية , فقد أصبح بعض المثقفين العرب وهم أعضاء الاتحاد السوري ومن خلال ما حصلوا عليه من وعود معلنة من بريطانيا بدعم استقلالهم عن الدولة العثمانية ” مذكرة السبعة والاعلان المرتبط بها عام 1918 ” يتطلعون لما هو أبعد من الانفصال عن الدولة العثمانية وهنا بدأت تظهر فكرة الدولة القومية السورية التي لابد من إقامتها أولا وبعد ذلك تأتي مسألة الوحدة العربية .
لم يكن حزب الاتحاد السوري مؤيدا للشريف حسين في تمدده نحو بلاد الشام ولا في خضوع سورية الطبيعية لحكم الأسرة الهاشمية. وإذا كانت الفكرة هي إنشاء الدولة السورية على أسس اللامركزية (وهي عبارة غامضة يمكن تفسيرها بالاتحاد الفدرالي وربما وضعت لإرضاء الخصوصية اللبنانية) فلا يمكن تصور الوحدة العربية في المستقبل سوى على الأساس ذاته أو على أسس كونفدرالية.
يمكن أن نشاهد بعد ذلك كيف أن برنامج حزب الاتحاد السوري قد قام بتعديل القومية العربية لجمعية العربية الفتاة دون إسقاط هدف الوحدة العربية وساعدته في ذلك السياسة الدولية التي لم تكن لتسمح بتكوين دولة عربية كبرى مهما كانت صديقة للغرب.
بوجود مثل تلك الواقعية السياسية لا يمكن وصف القومية العربية في ذلك الوقت بالأيديولوجيا، أقلها من حيث تجلياتها في سياسة العهد الفيصلي.
وطالما مرت القومية العربية بذلك السياق التاريخي الذي يمكن وصفها فيه بكونها فكرا سياسيا متحولا، فهناك مبرر في الاعتراض على المقولة المتسرعة التي تصر على اعتبار القومية العربية محض ايديولوجيا.
وبدلا من ذلك يمكن القول بوجود تيار فكري ضمن القومية العربية ذهب في مرحلة لاحقة نحو أدلجة القومية العربية.
كما يمكن متابعة تحولات الفكر القومي العربي في نهاية الستينات ومطلع السبعينات في تأثره بالأفكار الاشتراكية، وولادة ما يمكن تسميته بالفكر القومي – الاشتراكي الذي يختلف تماما عن الفكر القومي الذي حملته الأرستقراطية الشامية في مطلع القرن العشرين.