د. عبد الرزاق مقري
من طبائع الاستعمار كما هو الاستبداد أن يحول الخير في الأفراد والمجتمعات إلى نقيضه إن شعر بأن ذلك الخير يضعف سطوته أو يقوض وجوده، وهكذا فعل الاستعمار الفرنسي بالحركات الصوفية التي قاد شيوخها المقاومات الشعبية بدوافع الدين والشرف والبطولة لمدة 70 عاما تقريبا أثناء توغله في الجزائر لاحتلالها كلها.
فبعد هزيمته كل المقاومات الشعبية استطاع بأساليب القمع وشراء الذمم ونشر الجهل والفقر والتدمير المنهجي للبنيات النفسية والاجتماعية أن يحول جل تلك الصروح الدينية لتعليم القرآن وعلوم الشريعة إلى مؤسسات تعمق الوثنية الدينية في المجتمع “حيث تذهب -كما يقول مالك بن نبي- الأرواح الكاسدة لالتماس البركات ولاقتناء الحروز ذات الخوارق والمعجزات”، وكذلك لحضور زردة الولائم ورقصات الغفلة التي يختلط فيها الحابل بالنابل، وتربط السكان بالخرافات والمعتقدات الفاسدة، وتبني بينهم وبين المستعمر علاقة الخضوع والاستسلام، باعتباره قدرا مقدورا من الله يجب الرضا به وعدم مغالبته، وكانت النتيجة هجودا عميقا في ليل مظلم كاد أن يُلحق مصير الجزائر بمصير الهنود الحمر في أميركا لولا هبّة رجال الإصلاح.
سجل الأستاذ مالك بن نبي هذه الهبّة قائلا “غير أنه ما إن سطع نور الفكرة الإصلاحية الباديسية حتى تحطم ذلك المعبد وخمدت نيران أهل الزردة”، وأتيح للإصلاح أن يمسك مقاليد النهضة الجزائرية بنشر الإيجابية والتدارس المستمر لأسباب الاستعمار واستمراره، وكان المنهج هو إصلاح الذات من داخلها وفق شعار الجمعية (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) والاعتزاز بالهوية العربية الإسلامية والانفصال الشعوري لمصير الوطن عن مسار الاحتلال وثقافته ونظمه وقوانينه، وكانت الوسيلة المثلى مدارس التعليم التي شبهها ابن نبي بمدارس النهضة العلمية المسيحية الأوروبية في عهد شارلمان التي كانت -حسب مالك بن نبي- أصل الثورة العلمية الغربية، علاوة على تحسين أذواق الناس بالأدب الهادف والفن الملتزم ومحاربة الانحرافات الخُلقية فيهم ورفع مستوياتهم العقلية في نوادي الحوار الداخلي البعيد عن مظاهر العجب والرياء والتباهي.
“مركب النقص”
لكن مالك بن نبي سجل بمرارة كبيرة التحول الذي وقع لجمعية العلماء المسلمين حين اعتقد قادتها أن الخلاص من الملاحقات والتضييقات وأحيانا الاغتيالات التي اتجه إليها الاستعمار حين تفطن لأثر العمل الإصلاحي في نفوس الجزائريين يكون باللجوء إلى السياسيين الذين يسعون للمطالبة بالحقوق، وبعضهم بالاندماج، ولا يهمهم استمرار الاحتلال، لقد كان نقد ابن نبي للجمعية مكلّفا له في علاقته ببعض رجالها رغم حسن الظن بها وتعلقه بها من قبل ومن بعد.
قد يكون مالك بن نبي قد بالغ في اختيار تلك العبارات الشديدة في حق الجمعية، كعبارة “مركّب النقص” الذي شعر به العلماء المصلحون -حسبه- إزاء قادة السياسة حين مالؤوهم وسايروهم ظنا منهم أنهم سوف يذودون عنهم نوائب الحكومة”.
قد تكون العبارة شديدة وغير مناسبة، حيث لم تتخل الجمعية عن فكرتها ووسائلها ولم تنخرط بذاتها في الوثنية السياسية التي حاربها مالك بن نبي حربا شعواء، وإنما ظنت أن المطالبة بالحقوق كفيلة بحماية مدارسها ومنجزاتها الحضارية، فضاعت منها الفرصة الحضارية بأن أخذت منها فكرة الاستقلال -التي جاء بها بعدها حزب الشعب- المبادرة.
لم تسبق الجمعية بسبب ذهنيتها الإصلاحية إلى نقل الشعب الذي صنعته إلى الثورة المسلحة في وقت صارت شروطها حاضرة تنقاد لكل من يطلبها.
إن ما عابه مالك بن نبي على جمعية العلماء المسلمين -على فضلها وإنجازها العظيم- هو ما يمكن أن يعاب اليوم على الحركات الإحيائية الإسلامية من حيث إنها تحولت بشكل يكاد يكون كليا إلى العمل الحزبي الانتخابي وابتعدت كثيرا عن وظائف مجتمعية إستراتيجية لإصلاح الفرد والمجتمع وفق ما كانت عليه، مما يؤهلها فعلا للريادة الحضارية ويجعل انتقال الفكرة إلى الدولة آمنا صانعا لنهضة الأوطان.
وحين أرهقتها في الشأن الحزبي المضايقات والتزوير والانقلابات صار كثير منها يقبل بالاندماج في منظومات الحكم والرضا بالهوامش الضيقة من أجل البقاء في الساحة والمحافظة على المكتسبات لا غير، دون أي أفق للتغيير، وبلا جهود جادة في المقاومة السياسية لتكون المنافسة الانتخابية ذات جدوى حمالة للتداول بالأفكار ولو بعد حين، وصار الخوف على الهياكل والنظم والمكاسب السياسية والمقامات الاجتماعية مقدما على الخوف على الفكرة، وحين غابت الفكرة أو تراجع الاهتمام بها تحولت تلك المكتسبات إلى أوثان لا ينفع التعلق بها ولا يضر، وقد يضر ولا ينفع.
“إن من سنن الله في خلقه أنه عندما تغرب الفكرة يبزغ الصنم”، هكذا كان مالك بن نبي رحمه الله يقول، فقد كان ينظر إلى أؤلئك الناشطين في الساحة السياسية المطالبين بالحقوق قبل الثورة على أنهم لا يساهمون إلا في تجسيد الفكرة الاستعمارية وإطالة أمد الاستعمار، إذ كانوا يسيرون وراء سراب الانتخابات ويقودون الجماهير بالوعود الكاذبة لأخذ الحقوق التي لن يحققوها أبدا من الاستعمار حتى حولوا الحكومة الاستعمارية إلى مقام “الوثن الأكبر” الذي يُعتقد فيه النفع والضرر ويرتجى وحده لإصلاح الأحوال، وحوله أوثان صغيرة تتوسل بها الجماهير للوصول إلى رضا الوثن الأكبر، وذلك أن عملهم السياسي لم يكن يقوم على فكرة إصلاحية تقود تلك الجماهير للقيام بالواجبات التي يستحقون بها النهضة من خلال إصلاح أنفسهم ومجتمعاتهم ليصبح الفرد -كما يقول ابن نبي- “قادرا على القيام بوظيفته الاجتماعية، جديرا بأن تحترم كرامته، لكي يرتفع عنه طابع “القابلية للاستعمار”، وبالتالي لن يقبل حكومة استعمارية تنهب ماله وتمتص دمه، فكأنما بتغيير نفسه قد غيّر وضع حاكميه تلقائيا إلى الوضع الذي يرتضيه”.
الاستعمار والاستبداد
وكما هي الظاهرة الاستعمارية تكون ظاهرة الاستبداد، إذ يعمل المستبدون دوما على إفراغ الساحة الاجتماعية والسياسية من تدافع الأفكار حتى لا يكون الرأي إلا رأيهم على قول فرعون “ما أريكم إلا ما أرى”، فإذا غابت الأفكار نُصبت الأوثان، فيكون المستبد وثنا يُعبد من دون الله، ويصبح في ذهن زبنائه وكثير من رعاياه من حيث دروا أو لم يدروا هو الرازق وهو المانع وهو الرافع وهو الخافض وهو المنتقم وهو القاهر، يتنافس العالِم والجاهل والغني والفقير والإمام والمأموم في التقرب منه أو في تجنب سخطه، فيكثرون في سبيل ذلك الإشادة بإنجازاته الوهمية، وإذا ما رأى رأيا صفقوا لرأيه الحصيف، وإن تراجع عن ذات الرأي هللوا هم ذاتهم لحكمته البليغة.
ثم تُرسم المؤسسات الحكومية والمجتمعية على منواله، في كل مؤسسة تنشأ أوثان صغيرة، يُعظَّم قادتها وقراراتهم وتُعظّم نظمها وتنظيماتها دون أي تجديد ودون أي اعتبار لمقام الأفكار.
ليس العيب في الانتخابات، فقد اعتمدها مفجرو الثورة النوفمبرية وهم يعدون للثورة، وإنما العيب في اعتبارها هي المخرج، وليس العيب في المؤسسات والتنظيمات فهي ضرورية للإنجاز، وإنما عيبها أن تتحول إلى وثن، ولا إبراهيم لها ليبقيها وسيلة بكسره بمعوله الوثن.
المصدر: الجزيرة