د. مخلص الصيادي
هذا الانفجار العنصري في تركيا ضد السوريين، ليس بريئا، وليس عارضا، وليس محدودا، ومن يقوم به ويغذيه لا يستهدف السوريين فحسب، وإنما هو عمقه يستهدف المجتمع التركي نفسه، الذي هو بطبيعته مجتمع متنوع غني بمكوناته، وبتاريخه، وبالعناصر المكونة لهذا التاريخ.
صحيح أن العنصرية تيار صاعد في المجتمعات الغربية، لكنها – على قبحها – ليست غريبة عن تلك المجتمعات، ولا غريبة على الإرث الحضاري لتلك المجتمعات، ويمكن أن تعتبر مفاهيم التسامح والإخاء، والمواطنة، والإنسانية، هي القيم الجديدة على تلك المجتمعات، لكن بالنسبة لتركيا ليس الأمر كذلك، لذلك فإننا نرى في التاريخ العثماني / التركي ظاهرة تنوع الأعراق. والأديان، والمذاهب، والتعايش في إطار من التسامح، حتى غدت مدينة مثل استانبول، وهي العاصمة لتلك الامبراطورية ملجأ كل من يريد الأمن والسلام والراحة والنمو والتقدم، أيا كانت عرقيته أو دينه، أو مذهبه.
ما تفجر في تركيا الآن لم يحدث صدفة، ولا فجأة، وإنما هو أمر “بيت بليل”، وظهرت له بدايات وبوادر في مرات عديدة سابقة، لكن يبدو أن تقدير حجم الأخطار الناجمة عن البوادر ودلالاتها، لم ترق إلى إدراك خطورتها. ولعل وقوع الأحداث العنصرية الأخيرة في “قيصري”، وهي معقل رئيسي للناخب التركي المؤيد لحزب العدالة والتنمية، يؤشر إلى خطورة خاصة لهذه الأحداث.
ليست العنصرية قيمة فكرية وسلوكية يمكن أن تتفق أو تختلف عليها القوى السياسية في تركيا، ولكنه جرثومة خبيثة معدية إذا تمكنت من هذا المجتمع فسوف تدمره: سوف تفتت بنيته الاجتماعية، وتقسم جغرافيته السياسية، وتنهي فرص التقدم والنمو الذي يسير فيها هذا المجتمع.
من داخل المجتمع التركي هناك من يغذي هذه العنصرية، ويرى في مآلاتها انتصارا لغاياته البعيدة، ومن خارج المجتمع التركي إقليميا ودوليا من يغذي هذه العنصرية، ويرى في مآلاتها تحقيقا لأهدافه، وإخمادا لروح النهوض الذي تسعى إليه القوى الحية في تركيا.
إن وعي هذه الحقيقة ضروري لجميع هذه القوى، يجب إخراج “العنصرية”من نطاق الفكر والبرامج السياسية لكافة القوى والأحزاب السياسية في تركيا، وتجريم هذه العنصرية. والعمل معا على مواجهتها.
مهم جدا للمجتمع التركي أن يقف موحدا ضد هذه العنصرية تماما كما وقف موحدا ضد الانقلاب العسكري في ١٥/ ١٦ تموز ٢٠١٦، حيث حسم الجميع أمرهم معتبرين أن الديموقراطية ليست محل نزاع، وأن الدكتاتورية العسكرية ليست خيارا مطروحا في الصراع السياسي بين الأحزاب.
وحدة القوى السياسية التركية في مواجهة هذه العنصرية. واليقين بأنها خطر عى الجميع: على القوى السياسية كلها. وعلى حدة الوطن ومستقبله، هذا اليقين هو الخطوة الأولى للنصر على هذه العنصرية وهزيمتها والكشف عمن يقف وراءها.
وهنا مهم جدا الاشارة إلى أن هذه اليقين لوحده لا يكفي ليهزم العنصرية.
ما يهزمها بعد توفر هذا اليقين، وحدة الحركة الشعبية والسياسية التركية في مواجهة هذه العنصرية.
القضية هنا ليست قرارات حكومية وإجراءات أمنية على أهمية هذه وتلك، وقد اتخذت السلطات التركية عددا من هذه الاجراءات، ولكن المبادرة الشعبية السياسية والاعلامية والفكرية والدينية في تصدي جميع من يعادي العنصرية، لا بد للشعب التركي أن يبادر في التصدي لهذه الجرثومة الخبيثة، لابد أن يحاصرها، يحاصر رموزها، وفكرها. وسلوكها، لا بد أن يشكل الجميع سياجا يمنع وقوع الجرائم العنصرية، ويلاحق مرتكبيها بكل أنواع الملاحقة القانونية والاجتماعية من العقوبات الى الازدراء والعزل الاجتماعي.
والأتراك حينما يفعلون ذلك، وأتوقع وأنتظر أن يفعلوه فإنهم لا يدافعون عن السوريين – في هذه المرحلة، وعن غيرهم في مراحل أخرى – وإنما يدافعون عن وطنهم تركيا، عن وحدة هذا الوطن، وعن قيمه، وعن حقه في التقدم والنمو. وعن دوره الاقليمي والدولي.
وملاحظة أخيرة لابد من الوقوف عندها، وهي ردود الفعل التي ظهرت في المناطق السورية الواقعة تحت السيطرة التركية على هذه العنصرية.
وهي ردود فعل يقف وراءها إحساس عميق بأن السلطة التركية في تلك المناطق – وهي التي تسيطر على كل مفاتيح الحياة العامة فيها – لم تتعامل كما كان منتظرا منها في تلك المناطق، فاتخذت اجراءات عديدة تعقد من حياة السوريين في مناطقهم، وسمحت لقوى الأمر الواقع أن تقيم سلطات ظالمة ومتجاوزة، جعلت البعض بوعي أو بغير وعي تسترجع ولو من سبيل المقارنة سلطات النظام الغاشم في دمشق، الذي بدأت القيادة التركية تقاربا منه لم تفهم المعارضة السورية المتحالفة مع تركيا دواعيه أو حدوده.
ولا يمكن استبعاد أن تكون قوى ذات صلات بالنظام السوري، أو بقسد، أو بقوى الأمر الواقع في هذه المناطق تقف مباشرا أو من وراء ستار خلف ردود الفعل هذه التي امتدت لتشمل رموز الدولة التركية، وهذا خطأ تستفيد منه القوى العنصرية في المجتمع التركي ذاته، وها يبرز الدور الضروري والمهم لقوى المعارض السورية الغائبة أو المغيبة في ترشيد ردود الفعل، والحفاظ عليها في إطار إظهار الموقف الضروري دون تجاوزات، ودون أن ينجح العنصريون في توظيفها لصالحهم، وللأسف لم تظهر قوى المعارضة السورية المتحالفة مع النظام التركي فعالية معتبره للقيام بهذه المهمة.هناك ضرورة لتشكيل خلية أزمة دائمة للتصدي لهذه الظاهرة وأمثالها بين السلطات التركية والمعارضة السورية، لكن يبدو أن هذه المعارضة السورية لا تملك حتى الآن رأسا موحدا ومعتبرا يطالب ويعمل لبناء هذه الآلية العملية الدائمة والمجربة.