د. عبد الناصر سكرية
سؤالٌ يتبادر إلى الأذهان في كل مرة يثور حديثٌ عن الوضع العربي جملةً أو تفصيلا على حالة أي بلدٍ بمفرده، في كل استعراضٍ لواقع العرب الراهن المتردي المشتت، في كل حديثٍ عن فلسطين وقضيتها كقضية مركزية لكل العرب، ولكل عربي فرداً كان أو جماعة، أو لكونها قضية فلسطينية بذاتها؛ ففلسطين بلدٌ عربي فيهِ من المقدسات الدينية والأماكن التاريخية ذات الدلالات العريقة المتصلة بالهوية والوجود والحضارة والدور المستقبلي..
في كل حديثٍ عن أرضٍ عربية محتلة، أو اقتتالٍ داخلي عربي، في كل مرة يُعاني فيها بلدٌ عربي من تدخلاتٍ إقليمية أو أجنبية خارجية تُهدِّد هويته وتماسكه الاجتماعي دون أن يمتلك طرفاً فيه المقدرة على حسم الأمور لصالح اتجاهات وطنية تحفظ للبلاد وحدتها وتماسك نسيجها الاجتماعي..
في كل حديثٍ عن التنمية والتقدم والنهضة العلمية والثقافية والعمرانية سياسيةً كانت أم اقتصادية..
في كل مقارنة بين حال بلادٍ متقدمة مع تأخر حال العرب في مجالات كثيرة وميادين حياتية وإستراتيجية متعددة..
في كل معاناة يعيشها إنسانٌ عربي في الداخل أو المغترب ويعجز عن تجاوزها أو تخطيها، وتعجز سلطات بلاده في إيجاد بيئة مناسبة تساعده في تجاوزها، وأولها وأخطرها إحساسه بالانتماء والمشاركة الحقيقية في تقرير مصيره ومصير بلاده، إحساسه بذاته وهويته وانتمائه في كل اختراقٍ أمني، أو غزو ثقافي، أو تعثر عمراني لأي بلدٍ يثور ذاك الحديث المزمن: ماذا لو توحد العرب؟..
في كل صرخة عربية حرة لا تلقى استجابةً من مُغيثٍ أو منقذ..
في كل دم شهيد يسقط على أرض فلسطين بإجرام الحقد الصهيوني الغادر، ولا من يغيث ولا من يجير..
في كل هذا وذاك يثور ذاك الحديث المصيري:
– ولماذا لا يتحد العرب؟!!
إن استعراض ما يملكه العرب من مصادر القوة والتفوق في أكثر المجالات حيويةً واستراتيجية يكفي ليكون الرأي واضحاً وفاصلاً بين أمرين – موقفين:
الأول: إن اتحاد العرب يجعل منهم قوةً عُظمى ذات إمكانيات وتفوق، مما يجعلهم ذوي سلطانٍ ونفوذ به يستطيعون حماية أمنهم وتحقيق آمال شعوبهم وأحلامه، وتطوير حياتهم، ونقل بلادهم نقلات نوعية في كل مضمار تنموي وعمراني ونهضوي..
الثاني: وهو ينتج عن تصور الأول، فيثير هلع وذعر كل دولة إقليمية طامعة، وكل قوى النفوذ الأجنبي ذوي التطلعات الاستعمارية والتاريخ العدائي المزمن من الوجود العربي ومكوناته ومقومات وحدته وقوته..
هذه القوى التي ترتعب من اتحاد العرب في قوةٍ واحدة، تشكل اليوم مُجمل القوى التي تمسك النظام العالمي السائد وتتسيد عليه وتحركه لتحقيق أهدافها التوسعية ومطامعها الاستعمارية، فهي باختصار قوة النظام العالمي الراهن..
يتضح بناءً على هذا جملة حقائق ينبغي إيرادها وبيان دلالاتها وتأثيرها على ما يتعلق بوحدة المصير العربي:.
1- إن جميع القوى صاحبة النفوذ والسلطان الراهن في العالم تتضرر من وحدة العرب، تخسر بوحدة العرب، لذا فهي تُعادي وحدة العرب وتعمل على عرقلة وتخريب أية محاولة أو دعوة أو رسالة أو حتى فكرة عربية تُشير من قريبٍ أو بعيد لمصيرٍ عربي واحد، وتشوه حتى أصغر رمز يجمع عليه الضمير العربي أيَّاً كان دوره ومستواه..
هذه القوى تملك من الإمكانيات الشاملة المتكاملة ما يفوق التصور، تملك من الأدوات والامتدادات المباشرة وغير المباشرة حتى في بلاد العرب ما يفوق التصور أيضاً، فهي لذلك تمتلك من المقدرة الهائلة على التأثير في مجريات الأحداث ما يكفي لتعطيل أية محاولة، وتشويه أية فكرة تقترب من حديثٍ جدي عن وحدة للعرب لازمةً وضرورية..
ليس هذا فقط، بل إنها تملك من الواجهات المحلية ما هو كثيرٌ وخطير يُمارس دوراً تخريبياً في مستوى العمل والحركة والتوجه، وحتى في مستوى الأفكار، وبث أفكار نافيةً لأي وجودٍ قومي، أو أية مقومات لوحدة محتملة؛ لقطع الطريق وبث اليأس والإحباط، وهد عزائم كل من لا يزال يتحدث عن مصيرٍ عربي واحد مهما بدا مثل هذا الحديث بعيداً غائراً في المثالية، أو في عدم الواقعية التي تحض على تركه والتخلي عنه..
2- فماذا إذن لو اتحد العرب؟؟
* تبلغ مساحة الأرض العربية 13 مليون وخمسمئة ألف كلم مربع، وإذا أضيف إليها الأحواز العربية التي وهبتها بريطانيا لإيران قبل مئة عام، فإن المساحة الإجمالية ستقترب من 14 مليون كلم مربع، فتكون ثاني أكبر دولة في العالم من حيث المساحة بعد روسيا الاتحادية..
* يبلغ عدد سكان الأرض العربية من العرب أنفسهم حوالي 450 مليون مواطن، وهذا يجعلهم ثالث أكبر دولة من حيث عدد السكان بعد الصين والهند..
* يبلغ الناتج الإجمالي العربي ما يقارب 6 تريليون دولار، وهو رقم هائل يكفي لصنع مستقبل عربي باهر إذا تمَّ توظيفه لمصلحة البلاد وتقدمها..
* تتنوع البيئة الطبيعية للبلاد العربية بما يجعلها تمتلك قدرة فذة على الاكتفاء الذاتي غذائياً، لا بل تصدر الكثير منها، فالسودان لوحده يملك 84 مليون هكتار من الأرض الصالحة للزراعة تكفي لإنتاج ما يزيد عن 700 مليون طن قمح، وهو مادة إستراتيجية مصيرية..
* تنتج 4 ملايين برميل بترول يومياً، ما يُشكل أكثر من 30 بالمئة من إنتاج النفط العالمي، وهذا وحده يجعل منهم قوةً عالمية تستطيع التأثير الفعَّال في مجمل الأحداث العالمية وتوجيهها لمصلحة العرب منفردين ومجتمعين..
* الطاقة الشمسية المتوفرة في الصحاري العربية كبديلٍ صحي للطاقة يكفي لتوليد كهرباء تغطي حاجات مُعظم بلاد العالم..
* الجيش العربي سوف يصل تعداده إلى حوالي 4 ملايين جندي، عدا آلاف الطائرات والدبابات والأجهزة العسكرية المتنوعة، الأمر الذي يجعله من أقوى الجيوش في العالم، ويملك إمكانيات حماية الأمن الوطني لكل بلدٍ عربي والأمن القومي للجميع..
* تُسيطر الدولة العربية المفترضة على أهم المضائق والبحار والممرات البحرية الاستراتيجية التي تجعل منها عقدة مواصلات العالم، ومحور توصيله ببعضه..
* الثروات المعدنية الطبيعية المتنوعة تتوفر بكثرة في أرض العرب، وعلى رأسها الذهب والفوسفات وغيرها، فضلاً عن المياه والأنهار العذبة الصالحة للشرب..
* ثروةً حيوانية هائلة تُمكنهم من الاكتفاء الذاتي، لا بل والتصدير للعالم بكمياتٍ وفيرة..
3- يمتلك العرب ثروةً بشرية هائلة ونوعية أيضاً، حيث الأعداد الضخمة من العلماء والأطباء والمهندسين والمخترعين العرب المنتشرين في كل دول العالم، فإذا ما توفرت بيئةً عربية مشجعة وجاذبة وحريصة على امتلاك الثروة البشرية العلمية وتوظيفها، فإنَّ هؤلاء العرب الذين يُساهمون بفعالية في صناعة التقدم في العالم سوف يُسهمون في صناعة مستقبل عربي زاهر ومتقدم..
4- إن أعداد المسلمين المنتشرين في كل دول العالم بات كبيراً جداً ويقدر بعشرات الملايين، وسواءٌ كان هؤلاء عرباً أم مسلمين غير عرب فإنهم يحملون معهم ثقافتهم وإيمانهم الديني الذي يستلزم منهم معرفة اللغة العربية نطقاً على الأقل، وهذا ما يجعلهم في تواصلٍ وتفاعل دائمين مع العرب فكرياً ونفسياً وحتى مصلحياً، باعتبار الاتحاد العربي المنشود سوف يمدهم بالإمكانيات والخبراء والمدرسين والتعليم الديني، كما كان يحصل في كثيرٍ من المراحل التاريخية يوم أن كانت للعرب رسالة وكان لهم مشروع، الأمر الذي سيجعل من كل جالية مسلمة في أي بلدٍ في العالم جسر تواصلٍ وتأثير إيجابي مع العرب وثقافتهم وقيمهم الأخلاقية والاجتماعية، وهذا سيُساهم في بلورة نموذج إنساني حضاري بديل عن النموذج المادي النفعي الاستهلاكي..
5- إن أي بحث أو سعي في اتحادٍ عربي يستلزم أن يكون لهم رؤية وجودية شاملة لدورهم وأهدافهم ومصالحهم ومتطلبات أمنهم ومستقبلهم، بمعنى أن يكون لهم مشروع مستقبلي مبرمج وفق إمكانياتهم وتطلعاتهم، الأمر الذي سوف ينتج عنه ثقلاً نوعياً لهم يحميهم ويرد الأخطار عنهم، ويوظف إمكانياتهم لبناء مستقبل لهم أفضل يستفيدون منه جميعهم دون استثناء، ويشاركون جميعهم في بنائه وتحمل تبعات ومسؤوليات حمايته وتطويره والدفاع عنه..
إن أحد أهم أسباب حالة الوهن العربي الراهن انعدام أية توجهات تضامنية أو توحيدية جامعة؛ نتيجةً لتخلي الجميع عن أية مسؤولية قومية مشتركة، وأية تطلعات أو رؤى مصيرية استراتيجية..
ومع أن كل جزء بمفرده يتكلف أثماناً باهظة لشراء حماية أجنبية له، ليس من ماله فقط، بل من أمنه ذاته، ومن دوره وتوجهاته وتطلعاته المستقبلية وموقعه على خريطة السياسة والمصالح الدولية، فإن اتحاد العرب يوفر على كل جزء تلك الأثمان، بل يزوده بالمزيد من أسباب القوة والمنعة والاستقرار..
فهل يتفاعل الموحدون فيفعلون ويقتربون من بناء المستقبل العربي الأفضل؟؟