مهند القاطع
المركزية واللامركزية
تخضع دول العالم لأشكال مختلفة من أنظمة الحكم، أبرزها المركزية، واللامركزية، بدرجات متفاوتة لكلّ منهما، لكنّ مركزية الدولة ارتبطت -بهذا القدر أو ذاك- بالسلطة الدكتاتورية القائمة، ومن ثم فإن كثيرًا من المظلوميات المناطقية للشعب السوري، خصوصًا ما يتعلق بالتهميش وعدم توزيع التنمية بشكل عادل، لدى شريحة واسعة من السوريين، ارتبطت بمركزية الدولة، وصار البعض يبحث عن سبل لطرح اللامركزية للدولة، ويرى في ذلك حلًا لهذه المعضلة.
لا اتفق كثيرًا مع الآراء التي تحاول تصوير النظام المركزي بأنه نظام سيئ السمعة بالضرورة، أو تحاول تحويل معاناة الشعب السوري وصراعه مع السلطة الحاكمة التي يمثلها النظام الدكتاتوري الراهن، إلى مسألة لها علاقة بشكل نظام الحكم (المركزي/ اللامركزي). ويكفي أن نعلم أنه يوجد أكثر من 165 دولة، من أصل 193 دولة عضوًا بالأمم المتحدة، تعتمد نظام الحكم المركزي، ومنها على سبيل المثال (السويد، جنوب أفريقيا، فرنسا، تركيا، فنلندا، إيرلندا، النرويج، أوكرانيا…الخ).
فموضوع تحديد الشكل الأمثل لسورية القادمة هنا لا يخضع للآراء أوالرغبات ولا للتخيلات الفئويّة والجهويّة، بل هناك جملة من الشروط والظروف والمتطلبات التي تساهم في تحديد شكل الدولة. وتتطور أشكال الدولة عادةً، من النموذج البسيط لعدة دول أو أقاليم أو إمارات متجاورة تقرّر الاتحاد فيما بينها، فتشكّل مجتمعة صيغة الوحدة الفيدرالية (الاتحادية) بمسمّى (فيدرالية).
إذن، الدول تختار النظام المناسب لواقعها السياسي والجيوسياسي بالدرجة الأولى، ولظروف تشكيل الدولة بالأساس، ومدى قدرة الدولة على إدارة مناطقها، فدولة مثل (روسيا) التي هي أكبر دولة في العالم من حيث المساحة، وتضمّ تنوعًا كبيرًا لمجتمعات لغوية واثنية ودينية شكّل كلٌّ منها سلطات محليّة في الماضي، توحّدَت ضمن صيغة اتحادية (فيدراليَّة)، وكذلك الولايات المتحدة الأميركيّة التي تأسست بصيغة اتحادية (فيدرالية) لتوحيد الولايات تحت علم وخريطة سياسية واحدة، وقس على ذلك.
في الحالة السورية، بوصف سورية دولة بسيطة، ذات مساحة جغرافية بسيطة، لا يوجد فيها أقاليم معزولة بحواجز جغرافية، أو تقطنها جماعة سكانية مختلفة، ثقافيًا وحضاريًا ولغويًا، عن باقي الأقاليم أو المناطق السورية، حيث تمثل مساحات التداخل الديموغرافي والثقافي واللغوي والحضاري والهوياتي الشكل الأبرز للواقع السوري؛ لا يوجد هنا أي مبرر لإعادة تعريف سورية المستقبل، كدولة لا مركزية سياسية (فيدرالية) مثلًا، وهي بالأساس دولة بسيطة واحدة، كذلك يجب أن ننتبه جيدًا إلى محاولات الالتفاف على الحالة السورية، بأزمتها الحقيقية المتمثلة بنظام الحكم الحالي، والإفرازات الميدانية بقمع الثورة، وواقع الجيوش الأجنبية والميليشيات متعددة الأجندة والولاءات، والذهاب باتجاه تكريس حالة الانقسام، بطرح صيغ غير متناسبة مع الواقع الديموغرافي والجيوسياسي السوري.
وعلى الرغم من كلّ ما تقدم، يمكن أن تكون صيغة الإدارات المحلية (اللامركزية الإدارية) صيغة مقبولة وأكثر مرونة، مع تفعيل صلاحيات أكبر للبلديات والمحافظات، من دون أن يكون هناك مساس بالمركزية في قطاع الخارجية والمؤسسة العسكرية واقتصاد الدولة. وإلا فإننا نقوّض مشروع الدولة السورية الجديدة الديمقراطية التي تنشد تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية، ونكون أمام صيغ محاصصات على أسس اثنية ومناطقية، لا تكرّس إلا مزيدًا من فشل الدولة، تمامًا كالنموذج العراقي!
الأمن والتعليم
أشكاليجب أن تكون هناك بكل الأحوال إدارة مركزية لقوات الجيش والوحدات الأمنية التي تحمل السلاح، ولا مانع أن تكون بعض القطاعات، مثل الشرطة والدفاع المدني، من مسؤولية الإدارة المحلية، ولا يجب أن يكون هناك أي تشكيلات عسكرية بإدارات محلية، لأن ذلك سيجعلنا أمام واقع شبيه بواقع سورية اليوم، ميليشيات في الشرق بأجندة معينة، وميليشيات في الغرب بولاءات معينة، وميليشيات بالجنوب وأخرى بالشمال! وهكذا تكون هناك حالة من الفوضى وعدم الاستقرار. ولا ننسى أننا بالنهاية في بلدٍ يعاني القمع والجهل والتجهيل، وتسود فيه النزعات الفئوية وولاءات ما قبل الدولة، ولم نصل إلى حالة من النضج لنطرح تجاربَ ربّما معظم دول العالم الثالث المتشدقة بالديمقراطية لم تطبّقها بعد، فكلّ ما يُطرح اليوم من مشاريع وأفكار نجد أنها تميل إلى فكرة الاستقلالية، عنوانها ربما (إداري)، لكنها تُطرح -مع الأسف- غالبًا من قوى سياسية، شُكّلت على أساس قومي أو طائفي، وهذا ما يجعل الأمر معقدًا إلى حد كبير، ولا يعكس الأهداف والرؤى الحقيقية أو رغبات الشعب السوري.
أما قطاع التعليم، فيجب أن يكون هناك معايير محددة وواضحة تضبط توجهات العملية التعليمية، وأن تكون السياسات التعليمية والمقررات متلائمةً مع هويتنا الوطنية والحضارية والثقافية، كذلك يجب أن تشتمل تلك المعايير على نبذ أي أجندة سياسية أو فئوية أو أي أفكار متناقضة مع قيم المجتمع الأخلاقية.
اللغة الرسمية
بالنسبة إلى اللغة الرسمية في سورية، نجد أنه لا يوجد في سورية لغات أخرى مرشحة لإدراجها كلغات رسمية في البلاد، ولذلك ينبغي أن تكون اللغة العربية هي اللغة الرسمية الوحيدة في البلاد، مع حرية استخدام اللغات المحلية المحكيّة الأخرى وتشجيعها والحفاظ عليها أيضًا من قبل مؤسسات الدولية.
واللغة العربية عمليًا هي لغة عالمية، لكونها واحدة من ست لغات رسمية في رواق الأمم المتحدة، وتمثل اللغة الأم لأكثر من 90% من سكان سورية، واللغة المشتركة في الحياة اليومية لجميع السوريين، حتى بالنسبة إلى الأقليات الاثنية واللغوية الأخرى في سورية مثل (السريان، الأكراد، الأرمن، التركمان، الشركس)، تعتبر اللغة العربية هي لغة الكتابة الوحيدة المتداولة بينهم، كذلك لا يوجد لغة مرشحة لأن تكون لغة رسمية في أي بلد بالعالم، من دون أن يستطيع على الأقل 50% من الشعب استخدامها أو فهمها، أو تكون هناك حاجة ملحة إلى ذلك، مع ضرورة أن تكون لغة مكتوبة لها قواعدها وقابلة للانتشار، في كندا مثلًا هناك مقاطعات بأكملها لغتُها الأم الفرنسية، ومقاطعات أخرى لغتها الأم إنجليزية، وهناك ضرورة لاستخدام لغتين رسميتين في الدولة، ولا سيما أننا أمام لغات حيّة مكتملة قواعديًا. أما أن نجعل من لغة محكية لا يعرف قواعدها المتحدثون بها أنفسهم لغةً رسمية في سورية، فهذا أمرٌ غير عملي وغير قابل للتطبيق.
الاسم الرسمي لسورية المستقبل
بالنسبة إلى ما يطرحه البعض من مسألة إعادة صياغة التسمية الرسمية لسورية، أرى أنه ليس هناك ما يدعو لتبني تسمية جديدة لسورية، فأول تسمية لسورية بعد الحقبة العثمانية كانت (المملكة السورية العربية)، ثم أصبحت الدولة السورية، ثم الجمهورية السورية، وبعد الانفصال عن الوحدة مع مصر، اعتُمد اسم الجمهورية العربية السورية. فإذا كنا نمتثل لحقيقة جغرافية سورية التاريخية والثقافية، بوصفها جزءًا من التكوين الحضاري العربي من ناحية، وبوصفها بلدًا عربيًا وعضوًا مؤسسًا لجامعة الدول العربية، حتى مع وجود تنوع اثني يتمثل بأقليات غير عربية في سورية، فإن كل ذلك لا يكفي لطرح مقترح تغيير الاسم الرسمي، ولا سيما أن طرح هذا المقترح يأتي من قوى وتيارات سياسية قومية “غير عربية”، وتحديدًا من الأحزاب والقوى الكردية، في ظل تبني تلك القوى لمشاريع قومية كردية، لها علاقة بالخارطة السياسية السورية، مما يدفع السوريين إلى مزيد من التحفظ حول طرح مثل هذه المشاريع، علمًا أن الاسم بشكله المجرّد لا يشكل فارقًا في مسألة تعزيز الهوية أو إلغائها، بدليل أن جميع الدول العربية (ربما باستثناء السعودية والإمارات) لا تحمل اسم (العربية) في تسميتها الرسمية. لكن طرح الموضوع بالنسبة إلى سورية في هذا الوقت، وبهذه الصيغة والمبررات، انطلاقًا من وجود مكونات اثنية غير عربية الأرومة في سورية، فهذا -برأيي- يحمل مغالطة كبيرة، ومغالاة في تفسير مقتضيات التنوع، فالتنوع لم يكن يومًا مبررًا لتعويم أو إلغاء الهوية التاريخية والثقافية المشتركة لغالبية السكان في أي مجتمع، هذا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن معظم المجتمعات والدول التي أخذت أسماءها من هويتها الثقافية والقومية تضمّ تنوعًا قوميًا ودينيًا، على سبيل المثال (ألمانيا، فرنسا، روسيا، البرتغال، تركيا.. الخ).
تنويه:
كُتِب هذا المقال بطلب من إدارة برنامج “حوارات السوريين”، وبمناسبة مشاركة الكاتب في جلسة حوارية لمناقشة موضوع “المركزية واللامركزية في سورية القادمة”. وهو يعبّر عن رأي الكاتب وموقفه من الموضوع.
رئيس التحرير
المصدر: مركز حرمون للدراسات المعاصرة