علي العبد الله
قاد التحرّك التركي لافتتاح معبر أبوالزندين بين مناطق سيطرة النظام والمعارضة السوريين في ريف حلب إلى إثارة مخاوف فصائل المعارضة المسلحة وحواضن الثورة والنازحين في المخيّمات من توجّه تركي لتسليم مناطقهم للنظام، كما حصل سابقا، تحقيقا لمصلحة تركية، فعبّروا عن مخاوفهم بمنع دورية روسية من الدخول إلى منطقة الباب، وهاجموا المعبر والشاحنات التي وصلت إليه من مناطق النظام، قبل أن تؤجج اعتداءات أتراك على السوريين في قيصري وغازي عنتاب غضبهم، وتدفعهم إلى التظاهر ومحاصرة المؤسّسات المدنية والسياسية والعسكرية التركية في مدن شمال غرب سورية وبلداته، وإنزال الأعلام التركية وحرق بعضها. سقط قتلى وجرحى منهم برصاص الجيش التركي، وبلغ سخطهم ذروة عالية بعد تصريحات مسؤولين الأتراك عن استعدادهم للتطبيع مع النظام السوري، ودعوة رئيسه إلى قمّة ثلاثية مع الرئيسين التركي والروسي في تركيا، والتي شكلت صدمة كبيرة، خصوصاً قول أردوغان “سنأخذ مصالح تركيا في الاعتبار في المقام الأول”.
لم يخفّف السخط والغليان الشعبي إعلان القادة الأتراك عن عدم تخلّيهم عن المعارضة وتمسّكهم بحقوق الشعب السوري، ففي ذاكرة السوريين مرارات من تخلي تركيا عنهم في حلب وإدلب وتحويل مقاتليهم إلى مرتزقة في حروبٍ في ليبيا وأذربيجان والنيجر، حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، خدمة لمصالح تركية.
ارتبط التحرّك التركي الجديد للتطبيع مع النظام السوري بعدة عوامل: أولها، المناخ الداخلي الذي ترتب على الانتخابات البلدية، التي حققت فيها المعارضة فوزاً واضحاً، وتغيير حزب الشعب الجمهوري سياسته إزاء النظام القائم وانتقاله من المقاطعة إلى الحوار ودخوله في حوار مع رئيس حزب العدالة والتنمية (الحاكم)، رجب طيب أردوغان، ومطالبته بالسماح لحزب الشعب الجمهوري بممارسة حقه في السياسة الخارجية خدمةً لخط الحزب. وقد اتصل رئيس الحزب أوزغور أوزيل برئيس النظام السوري، وتحدّث عن التحضير لزيارة سورية، ومطالبته بتزويده بتقارير رسمية عن مجريات السياسة الخارجية وما يحصل بين تركيا ودول العالم. ثانيها، حاجة النظام التركي لحلحلة ملف اللاجئين وقطع الطريق على استثمار أحزاب المعارضة فيه، والتخفّف من الضغوط التي يتسبّب بها سياسيا واجتماعيا. ثالثها، حاجة النظام التركي لفتح الطرق السورية أمام حركة النقل التركية باتجاه الأردن ودول الخليج العربية؛ بالإضافة إلى التبادل التجاري مع مناطق سيطرة النظام لتحسين الوضع الاقتصادي وخفض البطالة والتضخّم. رابعها، وأكثرها أهمية وإلحاحا، القلق من تبعات إجراء انتخابات بلدية في مناطق الإدارة الذاتية في شمال سورية وشرقها، والتي ستعني، في حال جرت، منح “الإدارة” شرعية شعبية، ما يفتح المجال للاعتراف بها سياسيا.
استغل الرئيسان الروسي بوتين والتركي أردوغان انشغال الإدارة الأميركية بتطورات العدوان الصهيوني على قطاع غزّة وتبعاته المحلية والإقليمية والدولية، وانعكاسها على الحملة الانتخابية للرئيس الأميركي جو بايدن، وتطورات العدوان الروسي على أوكرانيا في ضوْء تغيّر في مواقف الكونغرس والحلفاء من دعم أوكرانيا عسكريا وماليا، ودخول الإدارة الأميركية مرحلة البطّة العرجاء، واحتمال فوز المرشّح الجمهوري دونالد ترامب في الانتخابات والتغيير الذي سيحصل في السياسة الخارجية الأميركية، وانشغال إيران بإنقاذ حركة حماس والحفاظ على مكاسبها الجيوسياسية عبر التفاهم مع الإدارة الأميركية على منع توسّع الحرب، عبر العمل على وقف إطلاق النار وحل الخلافات على البرنامج النووي، وتحرّكا لصياغة توازن جيوسياسي في سورية، يستند إلى تطبيع العلاقات بين النظامين التركي والسوري، هدفه دفع المعارضة السورية إلى المصالحة مع النظام والسماح بعودة مؤسّساته إلى مناطقها والتفاهم والتنسيق بينهما ضد “الإدارة الذاتية” في شمال سورية وشرقها، لوضع الإدارة الأميركية المقبلة، ديمقراطية أم جمهورية، أمام أمر واقع يفرض عليها الاستجابة لمطالبهما في ملفّات خلافية أو مواجهة ظروف سياسية وميدانية غير مواتية واضطرارها للانسحاب من سورية.
غير أن الإعلان عن الاستعداد للتطبيع لا يعني أن طريق التطبيع مفتوحة والتحرّك نحوه متاح وسلس في ضوء تباين في الأولويات، فأولوية النظام التركي مواجهة مشروع “الإدارة الذاتية” في شمال سورية وشرقها، وهو يعلم أن حلّ مواجهة هذا المشروع مع الولايات المتحدة، وأن ضربه لا يُنهي صداعه من القضية الكردية التي يسعى إلى مواجهة تفرّعاتها في دول الجوار، في حين يكمن الحل بمواجهة أصل المشكلة: حقوق الكرد داخل تركيا نفسها، وحل مشكلة اللاجئين وفتح الطرق أمام النقل والتجارة، في حين أولوية النظام السوري هي إعادة السيطرة على مناطق المعارضة. وقبول النظام بالأولوية التركية يحوّله إلى قذيفة في المدفع التركي. وقبول النظام في أنقرة بأولوية النظام السوري سيستدعي منه سحب قواته، أو وضع جدول زمني لسحبها على أقلّ تقدير، وتخلّيه عن دعم المعارضة السورية التي يعتبرها النظام في دمشق إرهابية، ما يجعله يدين موقفه السابق المناصر لها. وهذا إن حصل سيُحدث حالة فوضى وموجات نزوح كبيرة إلى الداخل التركي، ما يفاقم مشكلة اللاجئين، ويضعه أمام مأزق قاتل. لذا، وتحاشياً لقبول مبدأ سحب القوات، في وقت تنتشر فيه قوات أجنبية على مقربةٍ من حدوده الجنوبية، ربط النظام التركي دعوات التطبيع بقبول النظام المصالحة مع المعارضة وتشكيل كيان موحّد معها وعملهما معا في مواجهة “الإدارة الذاتية”، كما ربط سحب قواته بانسحاب القوات الأميركية والروسية والإيرانية، وهو ما لا يستطيع النظام السوري المطالبة به أو تنفيذه. لذا لم يعلق الأخير على الدعوات التركية، خصوصاً دعوة رئيسه إلى زيارة تركيا لحضور قمة مع أردوغان وبوتين، وربما رئيس الوزراء العراقي محمد شيّاع السوداني، لأنها تعني، بحساباته، تسليمه بالمطالب التركية وتجاهل مصالح داعمه الرئيس: النظام الإيراني، الذي لا تناسبه صفقة تطبيع برعاية روسية وبتجاهل تام له ولمصالحه. وهذا سيجعل مسار التطبيع طويلاً، ويركّز، في البداية، على حل قضايا إجرائية قبل بلوغ حد اتفاق سياسي شامل، فالنظام التركي يتحرّك بمعادلة مركّبة مكونة من عناصر عديدة: المحافظ على النفوذ والوجود العسكري في سورية، حتى تنفيذ حل يضمن مصالحه، التمسّك بالعلاقة مع المعارضتين السوريتين، السياسية والعسكرية، والانخراط في مفاوضات مع النظام السوري بشأن الحلّ السياسي لتحقيق أهدافه ومصالحه وتثبيتها على المدى الطويل.
لم تثر التصريحات والدعوات التركية قلق المعارضة السورية، السياسية والعسكرية، وقلقها فقط، بل ووضعتها في موقف دقيق وحرج، على خلفية ارتباطها السريري، سياسيا وعسكريا، بالنظام التركي الذي سبق ووصفته بأنه ضامن مصالحها، فهي غير قادرة على مواجهة داعمها الوحيد ومقاومة توجّهاته السياسية، خصوصاً إذا اقتضت مصلحته الضغط عليها، أو على بعضها، كما في مسار أستانة، للتفاوض مع النظام خارج مقتضيات القرارات الدولية ذات الصلة، وغير قادرة على التخلّي عن مطالبها في تنفيذ القرارات الدولية ذات الصلة، قرار مجلس الأمن 2254 بشكل خاص، لأنها ورقتها الوحيدة للاحتفاظ بما تبقّى لها من شرعية شعبية، ما وضعها أمام خياراتٍ محدودة. لقد غدت كبالع الموس عالحدّين، فاتفاق النظام التركي مع النظام السوري واعترافه به ممثلا للدولة السورية يفقدها كثيرا من شرعيتها، ولا سيما بعدما تآكل الدعمان العربي والدولي لها، وتراجع زخم التحرّك الأممي للاتفاق على تنفيذ القرار 2254، وتراجعها عن مطالبها التي أقرتها القرارات الدولية يفقدها الشرعية الشعبية.
ليست لدى المعارضة أوراق كثيرة تستخدمها لاحتواء المخاطر والتقدّم على طريق تحقيق بعض المكاسب وانتظار تغير التوازنات لصالحها، لذا اكتفت بإصدار بيانات ضد اعتداء الأتراك على السوريين، وأبدت تحفّظها بصيغ مخفّفة على الدعوات التركية إلى التطبيع مع النظام السوري، في حين أن المطلوب تحرّك جادّ للحفاظ على موقعها وما تبقّى لها من شرعيةٍ لدى حواضن الثورة. وهذا يستدعي العمل على أوراقٍ يمكن أن تمنحها القوة. الورقة الرئيسة هي التلاحم مع القوى الشعبية وتشجيعها على التظاهر ضد التطبيع التركي مع النظام السوري. وهذا يستدعي تعاطياً مختلفاً عن السائد، قائماً على التفاعل والوجود بينها وبقربها، وعلى العمل على توفير ظروف صمود هذه القوى وتماسكها، عبر العمل على توفير دعم إغاثي ومساعدات كافية وخدمات صحية وتعليمية ومشاريع استثمارية لتوفير فرص عمل. الورقة الثانية، التمسّك بالقرارات الدولية مرجعية للتفاوض، والعمل على وضعها موضع التنفيذ. الورقة الثالثة، التنسيق مع منظمّات المجتمع المدني في تحرّكه لكشف انتهاكات النظام لحقوق الإنسان، والعمل مع المنظمّات الدولية لصدور إدانات قضائية ضده. الورقة الأخيرة، الدخول على خط التوازنات الإقليمية والدولية وإقامة تقاطعات معها، بما يتيح لها تحقيق حضور وتوفير حماية وحجز مقعد على طاولة الحل. ويتطلّب هذا كله “نفضة” قوية لمؤسّساتها وتغييراً شاملاً في كوادرها وتعزيزها بدماء جديدة من حواضن الثورة.
المصدر: العربي الجديد