ابراهيم فريحات
انتهيتُ من المشاركة في مؤتمر علمي في هيروشيما في اليابان، بحثَ في كيفية بناء نظام أمني عالمي غير معتمد على الأسلحة النووية. ومن الطبيعي أن تستضيف مؤتمراً في هذا الخصوص، وهي التي كرّست جهداً كثيراً لمحاربة خطر وجود الأسلحة النووية وانتشارها. وكان طبيعياً أن تكون الإبادة الجماعية الجارية في غزّة حاضرة في جوهر النقاش، ذلك أن الحديث عن إبادة جماعية في الحالتين، وبأدوات مختلفة.
رغم جدال طويل، أصرّ الزملاء المشاركون في المؤتمر من الدول الغربية على رفض تصنيف ما يحدُث في غزّة “إبادة جماعية”، وتنازلوا، أحياناً، الى اعتبار أن هناك “جرائم حرب” وليس إبادة. يعيش الغرب، حتى بكثيرين من مفكريه، كما في هذه الحالة، في حالة نكران لما يحدث من فظائع في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية. الحقيقة صادمة، ويصعب عليهم التعايش معها، لوعيهم أن الإبادة تُرتكب بأدوات غربية وصمت وتواطؤ غربيين مطبقين، فالاعتراف بالإبادة يعني انهياراً قيمياً لكثير مما آمنوا به وتربّوا عليه. والأخطر أنهم يرفضون الاعتراف بالفجوة التي تُحدثها الإبادة في غزّة ما بين نصفي الكرة الأرضية، الشمالي والجنوبي.
ورغم جهودٍ كبيرة حاولتُ بها شرح (وتبسيط) الآثار التي أدّت إليها الإبادة الجماعية في غزّة على العلاقات، ليس فقط ما بين الغرب والعالم الإسلامي، ولكن مع عالم الجنوب أيضاً، إلا أن هناك رفضا حتى لسماعها أو رؤية أن من قاد حملة محاكمة إسرائيل في محكمة العدل الدولية دول من الجنوب، مثل جنوب أفريقيا ونيكاراغوا. هناك حالة من النكران سببها ما تسمّى في علم النفس حالة التنافر الإدراكي (Cognitive Dissonance)، وهي الحالة التي يحدُث فيها إرهاق وتوتر عقلي عند الفرد الذي يحمل أفكاراً متناقضة في وقتٍ واحد. وللتخلّص من حالة الإجهاد العقلي، يعمل الفرد على التخلص أو رفض المعلومات أو الأفكار التي تتناقض مع ما يحمله أصلاً، وهذا ما يحدُث هنا على اعتبار ان الإبادة في غزّة كمعلومة، والتي تتم بيد غربية وسلاح غربي تتناقض مع ما يحمله الغرب من رؤية لأنفسهم بالتفوّق الأخلاقي على الآخرين.
لفتني أن كثيرين من زوار “متحف هيروشيما التذكاري للسلام”، والذي يضم مبنى في وسط هيروشيما، بقيت أجزاء منه واقفة بعد إلقاء القنبلة الذرية على المدينة عام 1945، يأتون من الولايات المتحدة، ربما ليروا ما ارتكبه أجدادهم من فظائع في اقصى الشرق من الكرة الأرضية. كان لا بد لي أن أسأل أحدهم عن سبب هذا الاندفاع للزيارة، وكيف يشعرون إزاء ما اقترفته حكومات بلادهم هناك. كانت الإجابة أن هيروشيما جزء من تاريخنا الذي من الضروري التعرّف عليه، كما عبر عن الشعور بالأسى عن حجم الضحايا الذين وقعوا بعد القصف، وعندما سألته عما إذا كان عليهم الاعتذار عن ذلك، أجاب بأن إلقاء القنبلة، كان لوقف الأعداد المتزايدة من قتلى الجيش الأميركي في الحرب، ولوقف الحرب أيضاً.
استنفرت إجابة هذا السائح تفكيري، وبدأتُ أتساءل بشأن ما إذا كانت الأجيال المقبلة من الإسرائيليين ستعتذر عما ترتكبه حكومتهم اليوم من إبادة جماعية في غزة. للأسف، إننا نبدو أمام موقف مشابه، فلربما نحن أمام مشهد من التبرير يسود الخطاب مستقبلاً بشأن الفظائع بحق الإنسانية، فإذا كانت الإبادة تبرّر في العالم الغربي، وهي تجري اليوم وعلى شاشة التلفاز أمام أعينهم، فكيف سيكون الحال مع الأجيال المقبلة التي ستسمع عنها فقط. استوقفني أيضاً أن حكومة الولايات المتحدة لم تعتذر عن هيروشيما رغم العلاقة الوطيدة التي تربطها باليابان، والسلوك الياباني الأكثر من مهذّب، والتقدّم التكنولوجي الذي وصلوا اليه. أجبتُ نفسي بأن عالم السياسة، كما في أحوال كثيرة، تحكُمه “علاقات القوة”، وليس الأخلاق وقيم الصواب والخطأ. بمعنى أن الاعتذار عن جرائم الحرب يتم انتزاعه، ولا يُهدى على طبقٍ من ذهب، فالتقدم التكنولوجي الذي وصلت إليه اليابان أبقاها في حالة ضعف أمام الولايات المتحدة التي تحتمي بمظلتها الأمنية. عندها، استحضرتُ كلمات محمود درويش مخاطباً أنكيدو “ما نفعُ حكمتنا بدون فتوة؟”، أي ما نفع التقدم الاقتصادي الياباني بدون قوة، وهو لربما كان السبب في عدم تقديم أميركا اعتذاراً عن الذي اقترفته في هيروشيما.
عدتُ، بعد انتهاء زيارتي هيروشيما، إلى العالم العربي، وقد لاحظتُ مقارنات على وسائل التواصل الاجتماعي ما بين غزّة وهيروشيما من حيث حجم ما ألقي على المدينتين من متفجّرات (الفكرة هنا أنه ألقي على غزّة أضعاف ما ألقي على هيروشيما) ومساحة المدينتين (وغزّة هنا أصغر مساحة) وكذلك عدد الضحايا (العدد في هيروشيما أكبر حيث سقط حوالي 140 ألفا في الأيام الأولى). اتفهّم فكرة المقارنة، والتي تهدف إلى تبيان حجم التضحيات في غزّة اليوم، ولكن أيضاً من المهم التنبيه إلى أن المقارنة ربما توقعنا في إشكالات أكبر منها “التنافس على الألم” ما بين الضحايا و”احتكار الضحية”، في حين أن الظلم والاضطهاد مرفوض من حيث المبدأ، وأن إزهاق روح واحدة فقط عدد كبير. ولنتذكّر أن “مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً”. المهم هنا هو المبدأ، فللإبادة الجماعية وجه واحد وهوية واحدة والفاعل أحياناً واحد في كل من غزّة وهيروشيما.
بالإضافة إلى ذلك، لا تهم الطريقة التي تقتل بها الضحية، وهو ما حاولتُ شرحه للزملاء المشاركين من الغرب في المؤتمر، والذين يجهدون في مقاومة وجود الأسلحة النووية وانتشارها وخطرها على السلام العالمي، أنه، في نهاية المطاف، هل يهم الضحايا حقيقة أن يموتوا بسلاح نووي أو تقليدي؟! كنت أودُّ أنهم يقرأون اللغة العربية لأشاركهم شعر مظفّر النواب، حيث يقول: “أيهمّ الميت أن القبر يزخرف/ أم تكترث الشاة لشكل السكين”
المصدر: العربي الجدبد