سمير الزبن
صنع المكان هويتنا قبل الوصول إليه، فقد تم تحديد قطعة أرض في قلب الغوطة المحيطة بمدينة دمشق، وبعيدًا على المدينة كمخيم للاجئين الفلسطينيين. قطع صغيرة من الأرض “نمر” وزعت حسب حجم العائلات، التي انتقلت من قلب المدينة إلى هامشها البعيد والموحل. في ذلك المكان النائي عن المدينة، كان على الفلسطينيين صناعة حياتهم في الموقت، بعد أن ضاعت البلاد وتشرد العباد. إنه مخيم اليرموك.
بدأ المخيم كتجمع للبؤساء يعيدون تأسيس هويتهم الوطنية، ويحلمون بوطنهم المسلوب، وهم يحتالون على حياتهم الصعبة، يعيشون على مساعدة الأونروا، يحفرون الآبار في المنازل بأيديهم ليحصلوا على الماء النظيف، ويشترون ماء الشرب الذي تحمله الطنابر إلى المخيم من أطراف دمشق. يحفرون في الجهة المقابلة لبئر الماء النظيف وخارج المنزل، بئرًا صغيرًا للصرف الصحي، الذي لن يصل إلى المكان، إلا بعد حوالي العقدين من تأسيس المخيم، وبعد أن توسعت المدينة ليصبح المخيم الهامشي في قلبها.
لم يكن سكان المخيم حياديين تجاه المكان، فهناك من أحب المكان كبديل عن وطن مفقود، وهناك من كرهه كتعبير عن بؤس اللجوء. وأنا ولدت في هذا المكان، وعندما لا تكون حياديًا تجاه المكان، حبًا أو كراهية، تكاد تعجز عن الكتابة عنه، لأنك تشعر كل كتابة قاصرة عن إيصال المعنى الذي تريد التعبير عنه. ولأن الأماكن الحميمة والقاسية محمولة على طيف هائل من المشاعر المتناقضة، تكاد تكون الكتابة عنها مستحيلة، وكل محاولة للوصول إلى المعنى يشوبها نقص وتشويش، لا يمكن سده سوى بالمشاعر المحمومة والمتطرفة، والتي غالبًا ما تكون الدموع، وأحيانًا البكاء الهستيري، أداتها المناسبة ليكتمل التعبير عن الأماكن الحميمة بحلوها ومرها.
عندما كنت أسأل نفسي: هل تحب المخيم أم تكرهه وأنت المولود فيه، لم أكن أجد الجواب تمامًا، كنت أشعر بتناقض مشاعري تجاه المكان. أي مشاعر سوية يمكن للمرء أن يحملها تجاه مكان ولد فيه لاجئًا ابن لاجئ، وأنجب فيه أولاد لاجئين؟! أي سخرية للقدر تجعل المرء غريبًا طوال عمره، يولد في مكان بائس، وينتمي إلى مكان آخر؟ هو المخيم المؤقت، الذي تحول إلى ثابت في حياة الفلسطينيين، وظيفته موقتة، يحتضن مقيمين موقتين ينتظرون العودة إلى مكان استحال عليهم، وبات الانتظار الدائم يقينهم الوحيد، لأن وطنهم تم تكنيسه تحت دولة أخرى ولدت بفعل عدوان حطم وطنهم ومجتمعهم وبنى على أنقاضهم دولة أخرى، كان نتيجته أن يشكل هؤلاء المقتلعون من وطنهم شعبًا في المنافي يسكن الحلم.
هل أحب المكان أم أكرهه؟
لم أهتدِ يومًا إلى جواب قبل انطلاق الاحتجاجات في سورية، وأُجبَر على مغادرة المكان ــ المخيم ــ دمشق. عندما كنت أعيش فيه لم أكن قادرًا على تحديد مشاعري تجاهه.
وعندما غادرته، لم يصبح الحال أفضل، إنما توصلت إلى الإجابة المتناقضة نفسها التي كنت أشعرها هناك، أي التناقض بين الحب والكراهية للمكان الذي يعيش المرء فيه، وهذا التناقض يطبع حياة اللاجئين عمومًا، وليس اللاجئين الفلسطينيين فحسب، بل مطلق لاجئين.
أصبحت الإجابة: أكره المكان وأحبه.
كرهته لأنه الشاهد على بؤسنا وعلى الظلم التاريخي الذي وقع علينا، كرهت أن أولد غريبًا في مكان ليس لي، كرهت ذكرى الصف على دور الحليب في مدرسة الأونروا، لنشرب مجبرين حليبًا فاترًا بطعم التراب، ونتناول دواء الغدة وزيت السمك، كرهت رؤية أمي في دور الأونروا، بانتظار حصتنا من “الإعاشة”، يصرخ بها وبغيرها رجال قساة وأجلاف، بؤساء يقمعون بؤساء. كرهت زيارة المسؤولين الدوليين الذين كانوا يأتون ليتلصصوا على حيواتنا، وكأننا حيوانات مخابر، وكيف تسير حياتنا نحن البؤساء من سكان المخيم بفضل رعايتهم، التي تجعلهم يستبيحون حياتنا، كرهت الملابس والأحذية المستعملة التي كانت الأونروا توزعها علينا… وإلى ما هناك من الذكريات الأليمة التي وسمت حياتنا بالأحزان والندوب العميقة، وجعلتنا نعيش حياتنا في الموقت من دون يقين من أي شيء سوى الانتظار المديد، في حصار خانق من سلطات، لا تمل من تذكيرنا أننا لاجئون، ولسنا من هنا، وأن لنا وطن مسلوب، وكأننا نسينا، ونحتاج إلى تذكيرهم الفج والبوليسي.
لكن ما الذي أحبه في المكان؟
أحببت طفولتي هناك، كانت طفولتي في أزقة المخيم، شقية وفرحة، لم أكن (كما كل أطفال المخيم) أرى البؤس من حولي، كنا موحدين على هذا الصعيد، صنعنا الفرح من الأشياء الصغيرة، باللعب بكرة من بقايا الملابس محشورة بجراب نسائي. بالنسبة إليّ كانت هذه الكرة أجمل كرة في العالم. سيارات مصنوعة من الأسلاك التالفة التي كنت أصنعها بيدي وأجمع موادها من المخلفات، كانت أجمل الألعاب في العالم. كانت الأشياء الصغيرة تفرحنا فرحًا كاملًا بلا نقصان. قد تبدو أشياء تافهة، مثل، سرقة باذنجانة من الحقول المحيطة بالمخيم، فهي مغامرة كبرى لطفل يركض وراءه الناطور وهو يطلق ساقيه للريح، أو أن تصبغ قشور الجوز أيدينا بلون الحناء، وهي التي كنا نجمعها من أشجار الجوز في محيط المخيم بعد أن ينتهي الفلاحون من جمع محصولهم. نقشرها ونحن نحكها على جدران المخيم، صانعين خطوطًا بنية اللون طوال الطريق. نعم، أحب طفولتي في المخيم وأكره المكان.
المخيم المكان، حيث الأبنية المتلاصقة، والتي تحتضن بعضها بعضًا، بسبب بؤس المكان، طبع أهله بطابعه، فكانت حميمية البشر. في المخيم، ليس لك حياة خاصة، أو شخصية، أصدقاؤك وأقاربك يستطيعون اقتحام حياتك في أي وقت ليلًا ونهارًا. المخيم المكان الوحيد الذي تجد فيه الشهيد الحي يزور قبره، الذي صنعوه له قبل أن يعود من استشهاده، وهو موضوع روايتي الأولى “قبر بلا جثة”. المخيم فائض مشاعر، تجتاح البشر الذي عاشوا هناك، هم يحنون إلى الجزء الجميل من حياتهم فيه، ولا يحنون إلى الجزء البائس منها.
هنا في المنفى، عندما يسألونني عن خسائري في المخيم، أقول، لا شيء مهما، سوى اثني عشر دفترًا، دونت فيها حياتي ومشاعري ومواقفي ووقائع فارقة، على مدى سنوات طويلة، كنت آمل استخدامها في مشاريع أعمال روائية كنت أنوي كتابتها يومًا ما. قد لا تكون لهذه الدفاتر أي قيمة، وقد تكون في غاية التفاهة، لكنها، بالنسبة إلي، حياتي كلها مدونة بالحبر، وبخط يدي.
عندما شاهدت القذائف تدمر المخيم، مخيمي، عرفت أن تدمير المكان يعني تدمير الأماكن التي قضيت فيها طفولتي، تدمير المكان يعني تدمير الذاكرة، وتدمير الذاكرة يعني تدميري شخصيًا، ومحو ذاكرتي التي كتبتها في الدفاتر التي خسرتها تحت أنقاض الحرب هناك. تدمير المكان يعني تدمير المعمار البشري الذي كان قائمًا، وبالتالي تدمير البشر وتاريخهم في المكان.
المصدر: العربي الجديد/ الضفة الثالثة