خرج الجنرال الفرنسي فيليب بيتان من الحرب العالمية الأولى كبطل لفرنسا بعد انتصاره في معركة فيردون الشهيرة عام 1916، وأخذ لقب الماريشال في 1918، وبعد ذلك تسلم عدة مناصب سياسية رفيعة في الدولة منها وزارة الحرب وفي العام 1940 كان رئيسًا للوزراء عندما رفض مواجهة الجيش الألماني وفضل عقد اتفاق مع هتلر كان أشبه باتفاق استسلام وبموجبه تركت له ألمانيا إدارة جزء من فرنسا في ظل حكومة سميت بحكومة فيشي ، برر بيتان ذلك بكون فرنسا في ذلك الوقت في حالة ضعف لا تمكنها من مواجهة ألمانيا ، وأن مثل تلك المواجهة ستحمل مخاطر خسائر كبيرة على البلاد دون جدوى .
لم يكن ذلك هو موقف زميله القديم الجنرال ديغول، بل وجد ديغول أن الانطلاق من حالة ضعف ليس واقعية بل نوع من الاستسلام والخيانة، وأن الشعب الفرنسي لن يقبل بالاحتلال النازي، وهكذا تزعم ديغول كيانًا سياسيًا في المنفى سمي بفرنسا الحرة، ومن هناك أدار عمليات المقاومة ضد الجيش الألماني واستمر كذلك حتى تدخل الحلفاء وتم تحرير باريس وأصبح ديغول بطل فرنسا بينما واجه بيتان تهمة الخيانة العظمى أمام المحكمة التي تشكلت في فرنسا بعد انتهاء الحرب.
لم يكن بيتان مقتنعَا بارتكابه خيانة فرنسا أبدًا، بل بأنه كان يقوم بما وجد أنه الطريق الأصوب لحفظ فرنسا من دمار بدون أية فائدة.
بيتان كان لا ينطلق من تقدير الإمكانات الكامنة لدى الشعب الفرنسي في المقاومة، ولا من روح الشعب الفرنسي في عشقه للحرية ورفضه الاحتلال ولا من كون احتلال فرنسا يجري في سياق حرب عالمية تواجه فيها ألمانيا تحالفًا قويًا شمل لاحقًا الولايات المتحدة بكل ثقلها الاقتصادي والعسكري.
بيتان لم يكن خائنًا بالتأكيد لكنه وقع في أسر لحظة ضعف تاريخية مرت بها فرنسا.
هكذا يخطئ كثيرًا من يقع اليوم أسير لحظة الضعف التي تعيشها سورية ويستسلم في تفكيره واستنتاجاته ومواقفه السياسية لتلك اللحظة.
ومن تلك المواقف التي نراها اليوم عند بعض النخب السورية الذهاب نحو تبرير وفلسفة التطبيع مع كيانات الأمر الواقع المفروضة ليس بإرادة الشعب ولا عبر الطرق الديمقراطية ولكن بقوة السلاح وبدعم الخارج.
ويتم الخلط هنا بين الحراكات الشعبية الديمقراطية في السويداء والشمال السوري وبين الكيانات الأخرى التي تم فرضها بقوة السلاح والتي تحكم بالحديد والنار وفق ايديولوجيات متعصبة لا تترك للإرادة الشعبية الديمقراطية هامشًا يذكر.
ومثل تلك الدعوات الغريبة عن روح الشعب السوري والمتنكرة لتضحياته العظيمة إنما تشرعن الحالة التقسيمة بدعوى الواقعية تارة ودعوى تجميع السوريين تارة أخرى، لكن هل يمكن أن يجتمع السوريون سوى على الحرية والديمقراطية ووحدة سورية الأرض والشعب؟
صحيح أن سورية تمر بحالة ضعف وتمزق، وقد مرت بمثل تلك الحالة من قبل، حين قسمها الاحتلال الفرنسي إلى أربع دويلات واستمر التقسيم بالنسبة لدولة الساحل من العام 1920 وحتى العام 1936 لكن ذلك انهار أمام مقاومة الشعب السوري وروحه الوطنية، وقد خسر وخاب كل من راهن على تلك الانقسامات تحت دعوى الواقع والواقعية وقوة الاحتلال الفرنسي وضعف سورية الشعب والوطن.
أما النخب الشاردة اليوم وراء مصالحها الضيقة وايديولوجياتها الليبرالية والتي بدأت تمهد للتطبيع مع كيانات الأمر الواقع المفروضة على الشعب السوري بالسلاح والدعم الخارجي وتسعى للمساواة بينها وبين الحراكات الشعبية الديمقراطية وهيئاتها المنتخبة والدعوة لإنشاء حوار بين تلك الحراكات التي بعثت الأمل في نفوس السوريين وبين كيانات الأمر الواقع الديكتاتورية المافيوية فعليها أن تراجع مواقفها قبل أن يصنفها الشعب السوري كما فعل الشعب الفرنسي مع الجنرال بيتان.
يستوي في هذا الموقف أدعياء الواقعية مع أدعياء انتظار الفرج يأتي لإنقاذ سورية من اميركا التي تحتل أرضًا سورية غالية وتفرض عليها كيانًا انفصاليًا متصهينًا معاديًا لهوية سورية العربية ووحدتها أرضًا وشعبًا ومؤسسات. كما أولئك “الانتظاريون ” الذين يكتفون بمتابعة الأحداث وتحليل المواقف الدولية وتتبع الأخبار والمعلومات التي تبثها أجهزتها الأمنية وأدواتها الإعلامية دون تكليف أنفسهم عناء السؤال ما العمل؟ وما هو المطلوب وطنيًا وشعبيًا لإنقاذ سورية وتحقيق أماني شعبها في إقامة دولة المواطنة والمساواة والعدالة. متأثرين في ذلك بمقولات الواقعية والاستسلام لمبعثها في أن الحل في سورية بيد الدول الكبرى متغافلين عن حقيقة أن أي حل يأتي عن طريق الدول المتداخلة في المسألة السورية لن يكون في صالح الشعب السوري طالما بقي هذا الشعب غائبًا يفتقد مؤسساته التنظيمية الوطنية المستقلة التي تعبر عنه وتتمسك بمطالبه الوطنية ووحدته ووحدة وطنه.
المصدر: موقع ملتقى العروبيين