مدى الفاتح
استقبال الموت عند العرب مُختلف ووجعه أقلّ. هذا هو المعنى الذي يُكرّره أعداؤنا للقول إنّ وجع فَقْدِ الأحبة عند أبناء هذه المنطقة مختلف عن نظائره في مناطق أخرى. يمكن لحَسَن النيّة أنّ يأخذ هذه الملاحظة على محمل المديح، على اعتبار أنّ فيها ثناءً واعترافاً بالقدرة على الصبر وتجاوز المصائب، لكنّ مقصد مُردّدي هذه العبارة مختلف، فكأنّهم يُبرّرون لأنفسهم، وفقاً لها، قتل مزيد من الأبرياء، والتوسّع في الجرائم ضدّ الشعوب الصابرة، أو كأنّهم يحاولون تسويغ الفكرة العنصرية، التي تَعتبِر أنّ مقتل شخص واحد منهم يمكن أن يُبرّر الثأر باستهداف مدينة، لأنّ الدماء والآلام لا تتساوى.
مقتلً رمزٍ كبيرٍ كإسماعيل هنيّة، يوظّف أيضاً في هذا السياق، للقول إنّ هذه الشعوب تتجاوز بسرعة أصعب الآلام. هذه الخلاصة، وعوضاً عن أن تجعل المُحتلَّ يُفكّر في وسائلَ أخرى للتعاطي مع الثورة، وأعمال المقاومة التي لا تتوقّف، فإنّها تجعله، على العكس، يُبالغ في القصف والتدمير واستهداف المدنيين. هذه العمليات المُعتمِدة على مبدأ الانتقام الأعمى جعلت الكيان يفقد أعداداً ممّن كانوا يحملون له بعض التعاطف انخداعاً بما كان يروّجه من سرديّة الحقّ في الأرض.
هكذا، يمكن القول إنّ الإمعان في المجازر والقتل الجماعي، الذي يمارسه الاحتلال الإسرائيلي، ليس مُجرَّد خيارٍ آنيٍّ بلا مُسوِّغات، بل هو مبنيٌّ على نظريةٍ تستند إلى ضرورة إشاعة إحساس عام بالصدمة يدفع إلى الاستسلام، وهي نظرية طبّقت في أكثر من مكان، وأدّت إلى تحقيق نتائجَ مذهلة، لعلّ أبرزها إطلاق القنبلة النووية الأميركية على اليابان. ذلك الانتقام التاريخي، الذي اتّفق الجميع على أنّه كان أقوى بكثير من المطلوب، أدّى إلى نتائجَ مُهمّة غيّرت وجه العلاقات الدولية إلى الأبد.
بهذه القوّة المُفرِطة، وبذلك السلاح غير التقليدي، لم تنجح الولايات المتّحدة في ردع اليابان وحدها، ومنعها من التفكير قرناً مقبلاً في إعادة محاولة مقارعة الأميركيين، فقط، بل إنّها استطاعت ردع العالم كلّه، الذي اعترف لها بالريادة، وبأنّها القوّة الأكبر التي يجب أن يحسب لغضبها ألف حساب.
مارس الاحتلال الصهيوني سياسة الإمعان في العنف، منذ وَطِأَت عصاباته الإجرامية أرض فلسطين، وكأنّه كان يحلم بتكرار التجربة الأميركية مع الهنود الحمر، الذين أُبيدوا في غالبيتهم، في حين كان الأميركيون يدّعون أنّهم اكتشفوا أرضاً جديدة وبلداً بلا شعب. في مدى قرنٍ، وأرضُ فلسطين الطاهرة تقدّم كلّ يوم أعداداً من الشهداء من دون أن يفتّ ذلك عضد المقاومة أو يجعل أصحاب الأرض يُفكِّرون في الاستسلام، وليست مأساة غزّة الحالية إلّا مُجرَّد واحدٍ من فصول ذلك العقاب الجماعي لشعب جريمته إصراره على الاحتفاظ بأرضه. سياسة الإمعان في العنف فشلت في فلسطين، ولكنّها فشلت أيضاً حينما جرّبت في العراق، وفي أفغانستان، بل حتّى في الصومال، الذي ظنّ المُستعمِرُ أنّ السيطرة عليه، وهو البلد الفقير المُمزَّق، لن تكون سوى نُزهةً.
أعمال القتل الغادر والاغتيال، التي ترتكبها الأجهزة الإسرائيلية، وتُكلِّفها كثيراً من الوقت والإعداد، قد تنجح في لحظتها الأولى في رفع الروح المعنوية لمن يؤمنون، تحت وقع التحليلات الخادعة، بأنّ أعمال المقاومة مُرتبطةٌ بشخصياتٍ بعينها، أو بأنّ هناك أجنحةً يمكن بالتخلّص منها إنهاء حالة العداء من دون المساس بواقع الاحتلال. لن يمرّ وقت حتّى يتأكّد الجميع أنّ الهدف الرئيس، وهو إيجاد حالة انكسار، لم يتحقّق، بل في العكس، وكما تُثبت التجاربُ، فإنّ هذه الاغتيالات تدفع إلى مزيد من الحماسة، وتبقي جذوة المقاومة مُشتعلةً في صدور الملايين.
يتعجّب الأعداء في تعامل شعوبنا مع الموت، ومعهم في ذلك الحقّ كلّه، فنظرتنا إلى الحياة وللهدف منها مختلفة، أمّا المقاومون فيبدون مؤمنين بقول الشاعر: “فإمّا حياةٌ تسرُّ الصديقَ/ وإمّا مماتٌ يُغيظ العِدا”. الموت بالنسبة إلى هؤلاء، وعلى عكس كثيرين غيرهم، ليس نهاية القصّة. وفي مقتل إسماعيل هنيّة، الذي كان كما جميع قادة المقاومة، لا يستبعد فرضية أنّ يُستهدَف في أيّ مكان، وفي أيّ لحظةٍ، هناك مثال آخر على استقبال الفلسطيني الموت. العائلات، التي تُفرحها عمليات المقاومة الناجحة، التي يشارك فيها أبناؤها، يُفرحها بالقدر ذاته انضمام أولئك الأبناء إلى زُمْرَة الشهداء، الذين هم أعلى درجةً من الجميع. كان هنيّة نفسه مثالاً لهذا، فنذكر كيف استَقبل قبل أشهر خبرَ استهدافِ عائلته، وهو الهجوم الذي أدّى إلى مقتل ثلاثةٍ من أبنائه مع أبنائهم. هنيّة، الذي استَقبل ذلك الخبر عبر مكالمة هاتفية، بدا رابط الجأش وهو يُردِّد: “الله يسهّل عليهم”، ثمّ، وفي تصريح آخر، قال إنّ دماء أبنائه وأحفاده ليست أغلى من دماء الشعب الفلسطيني.
لم تفقد عائلة هنيّة أولئك الأبناء وحدهم، بل عشرات ممّن قضوا نتيجة القصف الجماعي وحرب الإبادة الشاملة في غزّة. كان لذلك أثرُه في دحض الدعاية القاتمة، المبنية على أساس أنّ القيادات وعائلاتهم هم في مأمن من الحرب، وأنّهم لا يفعلون سوى الدفع بأبناء الآخرين ليكونوا وقودَ الصراع.
سوف تزيد حادثة الاغتيال تسليط الضوء على القضية الفلسطينية، التي باتت تشغل منذ بداية أعمال الإبادة الجماعية في غزّة العالمَ، والضميرَ الحيَّ لشعوب الأرض كافّة، التي ما عاد أسلوب قلب الحقائق والتلاعب الإعلامي قادراً على خداعها. التعاطف مع مأساة غزّة واضح في الأحداث العالمية كلّها، التي كان منها دورة الألعاب الأولمبية الحالية في باريس، التي كانت مناسبةً لإعلان كثيرين تضامنهم مع الشعب الفلسطيني. في مقابل ذلك الإحساس الإنساني، كان لاعبو الاحتلال، وجمهوره، يتحرّكون تحت حراسة مُشدّدة خشيةَ التعرّض لغضب الناقمين، وما أكثرهم!
المصدر: العربي الجديد