علي العبد الله
لم يكتفِ التحرّك الشعبي المُعارِض في ريف محافظة حلب (1 يوليو/ تموز الماضي) بمنع فتح معبر أبو الزندين، واستهداف المصالح والرموز التركية هناك، ردّاً على مهاجمة مواطنين أتراك عنصريين، السوريين في ولايتَي قيصري وغازي عنتاب، وتحرّك القيادة التركية نحو التطبيع مع النظام السوري، وإغلاق مكاتب الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، والحكومة المؤقّتة في مدينة إعزاز، لتبعيتهما للنظام التركي وصمتهما عن تجاوزاته على مصالح الثورة… لم يكتفِ التحرّك بذلك كله، بل ذهب في اتجاه تشكيل هيئة سياسية من أبناء المنطقة تمثّلهم، وتعبّر عن مطالبهم السياسية، تحت اسم “الهيئة العامة لقيادة الثورة”، تتواصل مع القوى الإقليمية والدولية لعرض مواقف التحرّك ضدّ التطبيع مع النظام السوري، ومطلبه برفع الوصاية السياسية التركية على الثورة السورية، كذلك تدير الهيئة المذكورة المنطقةَ خدمياً
وقد كان لافتاً مطالبة القائمين على التحرّك الشعبي في بيانهم المُصوّر بـ”إلغاء الائتلاف وجميع الهيئات والمؤسّسات المنبثقة منه، من حكومة ولجنة دستورية وهيئة تفاوض”، آخر مطلب من ستّة مطالب؛ فتح تحقيق قضائي في حوادث إطلاق النار على المتظاهرين، ومحاسبة الفاعلين، وتعويض ذوي الشهداء والجرحى والمُتضرّرين (أحداث 1 يوليو/ تموز). رفض خطوات التطبيع مع النظام المجرم ومنع فتح المعابر؛ اعتبار الجانب التركي حليفاً للشعب السوري، على أن ينحصر وجوده في القواعد العسكرية وعدم التدخل والتحكّم في إدارة المنطقة؛ وقف جميع الانتهاكات والممارسات التحريضية والعنصرية تجاه اللاجئين في تركيا، ومطالبة الحكومة التركية بتحمّل مسؤولياتها تجاه اللاجئين وفقاً للقانون الدولي والاتفاقيات الدولية ذات الصلة؛ وإلغاء الائتلاف وجميع الهيئات والمؤسّسات المنبثقة منه، من حكومة ولجنة دستورية وهيئة تفاوض. وهذا أثار أسئلةً كثيرةً عن جدوى طلب إلغاء “الائتلاف”، وعن مدى قدرة التحرّك على تحقيقه، وعن انعكاساته السالبة على قوى الثورة وحواضنها الشعبية.
وقد زادت تصريحات المُنسّق العام للاعتصام، الحادّة والقطعية، برفضه الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، وإعلانه توجيهَ رسالةٍ إلى الأمين العام للأمم المتّحدة، والدول الأعضاء في المنظّمة الأممية، تدعوهم إلى وقف التعامل نهائياً مع “الائتلاف” والحكومة المؤقتة، تحت شعار “استعادة القرار الثوري وإسقاط الأجسام الهلامية التي كانت سدّاً في وجه الثورة، وتنفّذ أجندات مُشغّليها ولا تَمُتُّ إلى الثورة بصلة”. في الموقف دقّة وخطورة لأنه باشر في توجّه غير مضمون العواقب. فالرفض والشطب سهل، ويُغري الفاعلين السياسيين، لكنّه لا يقود بالضرورة إلى تحقيق الأهداف، خصوصاً إذا كانت أهدافاً كُبرى تمسّ مصيرَ شعبٍ ومستقبلَه. نشير هنا إلى ردّ الحكومة المؤقّتة الغبي الذي وصف التحرك بـ”الانفصالية”. في حين تقتضي الحصافة والعقلانية والحرص على مصلحة الثورة دراسة الخطوة ضمن ظروف اللحظة السياسية للكشف عن جدواها وإمكانية تحققها وتجنب المغامرة والقفز في المجهول.
وما زاد الموقف التباساً وغموضاً وجودُ تحرّك موازٍ تقوده شخصيات مُعارِضة في المنطقة ذاتها، لا يطالب بإلغاء “الائتلاف” وجميع الهيئات والمؤسّسات المنبثقة منه، بل يدعو إلى تشكيل جسم أو هيئة تنفيذية لتكون برلماناً يراقب ويحاسب الحكومة المؤقّتة في ما تتخذه من قرارات وتنفّذه من برامج، وقد تضمّنت مبادرتهم: رفض التطبيع مع النظام السوري المجرم ومحاسبته على جرائمه في حقّ الشعب السوري؛ مطالبة حكومات الدول، وخصوصاً دول الجوار بالوفاء بالتزاماتها بحماية اللاجئين السوريين وفق مبادئ القانون الدولي، ومحاسبة المُعتدين على حقوقهم؛ دعم الحراك الثوري والعمل على مطالب الشعب السوري في الداخل (بالدعوة إلى مؤتمر وطني ينبثق منه هيئة وطنية، وتشكيل إدارة وطنية محلّية مسؤولة أمام الهيئة الوطنية، وتشكيل هيئة سياسية تمثّل مصالح السوريين ومسؤولة أمام الهيئة الوطنية)؛ تهيئة المناطق المحرّرة لتشجيع اللاجئين السوريين على العودة الآمنة والكريمة، فأيّ التوجّهين أقرب إلى المنطق السياسي والعملي؟
كذلك جاء موقف النقابات والاتحادات الحرّة في سورية خالياً من المطالبة بإلغاء “الائتلاف” وجميع الهيئات والمؤسّسات المنبثقة منه، من حكومة ولجنة دستورية وهيئة تفاوض، حين طرحت مطالبها الـ11 خلال اللقاء مع رئيس الحكومة المؤقّتة؛ تأكيد حقّ الشعب السوري بالتعبير عن رأيه، والمطالبة بحقوقه بالطرق والوسائل السلمية كافّة، والتركيز على كرامة المواطن وحرّيته؛ التأكيد أنّ الحلّ في سورية يكون عبر هيئة حكم انتقالي وفق قرارات الأمم المتّحدة، وفي رأسها القرار 2254 (دعا إلى حكومة انتقالية وإجراء انتخابات برعاية أممية، مطالباً بوقف أيّ هجمات على المدنيين بشكل فوري)؛ رفض أيّ خطوة تُؤدّي إلى المصالحة مع عصابة الكبتاغون المُغتصِبة للسلطة في دمشق؛ تأكيد حقّ الشعب السوري في انتخاب قيادته المدنية ذات الصلاحيات الكاملة، التي تملك الشرعية الشعبية والقانونية، يكون مقرها المناطق المحرّرة، والعمل على تمكين مركزية المؤسّسات؛ عقد الاتفاقات مع أيّ جهة أو اتخاذ أيّ قرار في المناطق المحرّرة حقّ سوري يضمن مصلحة الشعب السوري وفق مبادئ الثورة من خلال قيادته المنتخبة؛ ضرورة إغلاق معابر التهريب وإلغاء المعابر التي تعيق حركة المدنيين بين المناطق المحرّرة، وتعزيز الأمن والسلامة فيها؛ المطالبة باتخاذ الإجراءات المناسبة وزيادة التواصل مع حكومات دول اللجوء السوري، وخصوصاً تركيا ولبنان، لتعزيز الحماية للسوريين التي نصّت عليها القوانين والمواثيق الدولية ذات الصلة، وتطبيق قانون الحماية المؤقتة بشكل كامل وصحيح، ومطالبة حكومات دول اللجوء السوري بتطبيق قانون الدولة ضدّ الاعتداءات والتجاوزات التي تعرّض ويتعرّض لها اللاجئون السوريون، وتدخّل مفوضية اللاجئين والقيام بدورها الأساس في حماية حقوق اللاجئين؛ مطالبة المؤسّسات المعنية بأخذ دورها في حلّ المشكلات المتعلّقة بهموم المواطنين، وخصوصاً مشكلة الـ PTT (مكتب البريد التركي)، وتدخّلات المنسقين الأتراك بالشأن العام، التي كان لها الدور الرئيس في انفجار الوضع في الشمال السوري؛ الالتحام مع الشارع الثوري والتواصل المستمرّ مع الحراك المدني؛ تعزيز الحقّ في المشاركة السياسية المتناسبة مع حجم المجتمع المدني، وخصوصاً النقابات والاتحادات في جميع مؤسّسات وهيئات الثورة؛ تشكيل هيئة رقابية مستقلّة من النقابات والاتحادات ومنظّمات المجتمع المدني الناشطة في هذا الشأن لمراقبة عمل مؤسّسات الثورة.
نعم، ما يقال كلّه عن “الائتلاف” من ملاحظات ونقد صحيح، لكنّه جاء متأخّراً جدّاً، إذ إنّ مشكلة “الائتلاف” بدأت من لحظة تأسيسه بتواطؤ دول عربية وأجنبية للتخلّص من المجلس الوطني السوري من جهة، ولحجز موطئ قدم فيه منذ البداية عبر تأسيسه على قاعدة المحاصصة وتقاسم النفوذ فيه، من جهة ثانية، ما حوّله ساحةً لصراع بالوكالة بين قوى وشخصيات تتبع هذه الدول، قبل أن تتراجع أهمّيته في نظرها في ضوء تطوّرات الصراع، وتراجع فرص إسقاط النظام السوري، فانفرد النظام التركي به، وحوّله غطاءً لتحرّكه في سورية، وورقةً للمساومة والبيع والشراء مع الدول المُنخرطة في الملفّ السوري. لذا يمكن النظر إلى التحرّك القائم على رفض “الائتلاف” لَعِبَاً في الوقت الضائع، لأنّ العمل على إخراج “الائتلاف” من المشهد السياسي ليس متاحاً من جهة، وليس مفيداً، من جهة ثانية، بل يمكن عدّ التحرّك نحو هدف كهذا ضارّاً لأنّه سيُفقِد المُعارَضةَ ورقةَ الاعتراف الدولي التي يتمتّع بها “الائتلاف”، ويسقط القرارات الدولية التي ترتّبت عن الاعتراف به، من وجود جهة تنازع النظام على الشرعية والحقوق، وهذا إن حصل سيصبّ في مصلحة النظام السوري، ويمنحه فرصةً لتقوية حُجّته في عدم الانخراط الجادّ في المفاوضات بشأن بنود قرار مجلس الأمن 2254، بالتذرّع بعدم وجود مُحاوِرٍ سوري.
ولن تكفي أطرٌ سياسيةٌ واجتماعيةٌ محلّيةٌ لاستعادة قرار الثورة المستقلّ، عبر إلغاء “الائتلاف” ما لم يكن الموقف منه شعبياً عاما، وما لم يهيّأ لهذا الجهد الوطني العظيم ظهير عربي أو أجنبي يوازن الدور التركي، ويحدّ من تغوّله على القرار الوطني لقوى الثورة السورية. نعم، العمل على إقامة أطرٍ اجتماعية وسياسية محلّية وعامّة للضغط على “الائتلاف”، لدفعه إلى موازنة مواقفه وقراراته بدلالة أهداف الثورة، ما سيلزمه بالعمل على استعادة استقلاليته، أو جزء منها في الأقل، وعلى الحكومة المؤقّتة لتطوير عملها وتوفير مستلزمات صمود مناطق الشمال الغربي، من غذاء ودواء وخدمات صحية وتعليمية… هذا كلّه منطقي وضروري، من دون أن ننسى الضغط على الفصائل المسلّحة، التي قاد صراعها على النفوذ وعلى الموارد المالية إلى البحث عن ظهير خارجي، ما دفعها إلى تسليم أوراقها كاملةً للجانب التركي، وإلى العمل بتوجيهاته وأوامره من دون اعتبارٍ لنتائجها وانعكاساتها في مصالح الثورة وحواضنها، فمراقبة “الائتلاف” والحكومة المؤقتة والكشف عن أخطائهما وتقصيرهما ومحاربة مظاهر الفساد والبذخ وهدر المال العام فيهما والتشهير بالفاسدين أكثر جدوى في هذه المرحلة من هدر الجهد في معركة ضارّة بالعمل على إلغاء “الائتلاف”.
المصدر: العربي الجديد