رياض قهوجي
دخلت روسيا على خط التصعيد الذي تشهده منطقة الشرق الأوسط نتيجة اغتيال إسرائيل زعيم حركة “حماس” إسماعيل هنية في طهران، والقائد العسكري لـ”حزب الله” في الضاحية الجنوبية لبيروت. ويأتي تحرّك موسكو بعد فترة وجيزة من إعلان مسؤولين روس عن قرب التوصل لاتفاق إستراتيجي بين البلدين، يشمل تعاوناً في مجالات عدة، وتشمل التعاون العسكري. وكانت العلاقات الدفاعية بين الطرفين شهدت في العامين الأخيرين تقدّماً ملحوظاً، تمثل في تزويد طهران روسيا بمئات المسيّرات الانتحارية من طراز “شاهد” التي لعبت (وما زالت تلعب) دوراً ملحوظاً في الحرب الأوكرانية. كما ساهمت إيران في تزويد روسيا ذخائر وصواريخ للمجهود الحربي في أوكرانيا. في المقابل، تقوم روسيا بتزويد إيران بتكنولوجيا دفاعية متقدّمة تساعد في جعل صواريخها البالستية والجوّالة أكثر دقّة، وتمدّ قواتها الجوية بطائرات هليكوبتر هجومية ومقاتلات “سوخوي-35” وتعزّز دفاعات إيران الجوية.
وشهدت الأيام التي تلت إعلان القيادة الإيرانية نيتها الانتقام لاغتيال هنية بتوجيه ضربة لإسرائيل، وصول طائرات نقل عسكرية روسية طراز أل-67 تحمل منظومات دفاع جوي وأجهزة مخصصة للحرب الإلكترونية. هذه الأسلحة والمعدات تهدف لتعزيز إمكانات الدفاع الجوي الإيراني في التصدّي للمقاتلات الإسرائيلية التي قد تشنّ هجمات على منشآت استراتيجية إيرانية – خاصة النووية – في إطار الردّ على ضربة إيران الانتقامية. وكان سلاح الجو الإسرائيلي أحرج إيران في نيسان (أبريل) الماضي عندما شنّ غارة سريعة استهدفت الرادار الخاص بمنظومة دفاع جوي طراز أس-300 يحمي منشأة نووية قرب أصفهان. واعتبر الخبراء ذلك رسالة من إسرائيل بأنها تستطيع قصف منشآت إيران النووية متى شاءت، وهي لم تفعل ذلك نتيجة الضغوط الأميركية لإنهاء التصعيد حينها بين الطرفين.
تزامن وصول طائرات شحن السلاح من موسكو لطهران مع زيارة سكرتير مجلس الأمن الروسي سيرغي شويغو لإيران، حيث اجتمع بالمسؤولين هناك. ونقلت “رويترز” عن مصادر إيرانية أن شويغو نقل رسالة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للمرشد الأعلى علي خامنئي، حثّه فيها على تجنّب الردّ الإيراني استهداف مواقع مدنية إسرائيلية. وتساءل بعض الخبراء عن سبب اختيار بوتين وزير دفاعه الأسبق شويغو لهذه المهمّة بدلاً من وزير الخارجية، ورجحت أن يكون مردّ ذلك أن طبيعة المحادثات كانت عسكرية أكثر منها ديبلوماسية بين الحليفين.
تشكّل الساحة السورية جامعاً رئيسياً لكل من روسيا وإيران. فهما عملا سوياً على انقاذ نظام بشار الأسد هناك وضرب قوى المعارضة. ويستمر كلاهما في إدارة الأزمة في سوريا، يتنافسان على مغانم اقتصادية واستراتيجية فيها. وكان الرئيس السوري في زيارة لموسكو مؤخّراً، تحدث فيها عن خطورة التصعيد الذي تشهده المنطقة. ولم يشارك النظام السوري حتى الآن في ما يسمّى “وحدة الساحات” في حرب إسناد غزة، على الرغم من قيام المقاتلات الإسرائيلية باستهداف قادة للحرس الثوري وقواعد له في دمشق ومناطق سورية أخرى. وسُجّلت بضع عمليات إطلاق صواريخ من الجولان من قبل الفصائل التابعة لإيران، كان الردّ الإسرائيلي عليها سريعاً، وشمل قواعد للجيش السوري. لكن عدد هذه الحوادث كان قليلاً جداً، كما غاب الأسد عن حفل تنصيب الرئيس الإيراني الجديد. ويعكس موقف النظام السوري هشاشة وضعه وعدم تشجع موسكو لإقحامه في حرب الإسناد. وكان السيد حسن نصر الله أعطى في خطابه الأخير مبرّراً لعدم انخراط سوريا، العضو في محور الممانعة، بحرب الإسناد بسبب ظروفها الداخلية وحربها ضدّ قوى المعارضة.
أما في ما يخص دعم موسكو لطهران في هذه المرحلة تحديداً، بخاصة مع تصاعد الخشية من انزلاق المواجهة بين إيران وإسرائيل لحرب أوسع تشمل تدخلّاً أميركياً في نزاع عسكري مباشر مع إيران، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: ماذا قد تستفيد روسيا من تصاعد النزاع العسكري الحالي في المنطقة وجرّ أميركا إليه؟ انخراط الولايات المتحدة إلى جانب إسرائيل في حرب في المنطقة ضدّ إيران ومحور المقاومة سيؤدي إلى تخصيص مخزونها من الأسلحة والذخائر لهذه الحرب، وسيأتي ذلك على حساب دعم أوكرانيا عسكرياً. سيجد بوتين في هكذا حرب فرصة للردّ بالمثل على أميركا بعد دعمها العسكري الكبير لأوكرانيا، ما أثّر سلباً على مسار خطط روسيا ضدّ كييف. وقد يشجع الدعم العسكري الروسي الحرس الثوري الإيراني على أخذ خطوات أكثر جرأة ضدّ إسرائيل، وربما الذهاب أبعد من ذلك. وطبعاً، أي حرب واسعة بين هذه الأطراف قد تؤدي إلى تضرّر منشآت النفط والغاز في إيران وإسرائيل، ما يرفع من أسعارها عالمياً، وما يخدم الاقتصاد الروسي بشكل كبير. وإضعاف النظام الإيراني في هذه الحرب سيكون لصالح دور روسيا في سوريا، حيث يزداد نفوذها وتستفرد بالمكاسب الاقتصادية هناك. وعليه، فإن موسكو قد لا تشجع أي طرف على الحرب، إنما ستكون لها فرص لتحقيق مكاسب منها إذا اندلعت.
تجدر الإشارة إلى أن تجربة التعاون العسكري بين إيران وروسيا في سوريا في مواجهة إسرائيل ليست مشجعة بتاتاً لطهران. فمنظومات الرادار الخاصة بصواريخ أس-400 الروسية في سوريا تستطيع رصد المقاتلات الإسرائيلية من مسافات بعيدة، لكنها لا تشاطر معلوماتها مع الإيرانيين. كما أن منظومات الدفاع الجوي التي زودت روسيا بها النظام والميليشيات الإيرانية في سوريا لم تتمكن من إسقاط أي من المقاتلات الإسرائيلية ووقف غاراتها الأسبوعية على مواقعهم. بالتالي، بديهي ألّا تكون هناك ثقة كبيرة لدى بعض القيادات الإيرانية بالمنظومات الدفاعية التي توفرها لهم روسيا الآن. هذا إضافة إلى أن الدفاعات الجوية الروسية امتحنت بنجاح في أوكرانيا إنما ضدّ مقاتلات روسية الصنع تعود إلى حقبة الاتحاد السوفياتي. وبدأت أوكرانيا هذا الشهر باستلام مقاتلات أف-16 الأميركية لتستخدمها في ساحة المعركة.
إنما في نهاية الأمر، فإن القيادة السياسية في إيران لا تريد الدخول في أي حرب مباشرة مع أميركا، وهذا موقف تستمر بالتأكيد عليه. ومن هنا، سعت سابقاً – وعلى الأرجح ستسعى مستقبلاً – للحدّ من فعالية أي ضربة توجّهها لإسرائيل، وتنسيقها مسبقاً إن أمكن مع واشنطن لمنع أي تداعيات تصعيدية لها.
مشكلة طهران اليوم هي في وجود حكومة إسرائيلية يمينية متشدّدة يقودها رئيس وزراء يريد استفزازها وجرّها إلى حرب واسعة، ويستغل استراتيجية “وحدة الساحات” لإسناد غزة لتوجيه ضربات قوية لمحور الممانعة. فكيف يمكن إيران أن تتصرف في الفترة التي تفصلها الآن عن الانتخابات الأميركية المقبلة في مطلع تشرين الثاني (نوفمبر) إذا استمر بنيامين نتنياهو بتوجيه ضربات مؤذية واستفزازية لها؟ هل ينفع الصبر الاستراتيجي ويصمد مهما بلغ حجم الاستفزاز، أم تعيد طهران النظر في هذه الاستراتيجية؟
أجمع أغلبية الخبراء، وحتى بعض المسؤولين في الغرب ومن داخل إسرائيل، على أن نتنياهو يحاول استفزاز “حزب الله” وإيران عمداً لتوسيع الحرب وجرّ أميركا إليها عبر عدم التزامه بقواعد اشتباك وضعها “حزب الله” تهدف لعدم توسيع الحرب. وها هو نتنياهو يعمد إلى إفشال هذه الاستراتيجية بشنّ ضربات كبيرة بهدف توسيع الحرب. والخيار المتبقي أمام حزب الله وإيران اليوم هو إما قبول تحدّي نتنياهو وتوسيع الحرب، أو فصلها عن حرب غزة وتحمّل عواقب ذلك في ما يخص العلاقة مع “حماس”.
ربما محور الممانعة غير مقتنع أن نتنياهو قد يُقدم على عمل عسكري كبير نتيجة الضغوط الأميركية. وفي هذه الحالة، ستكون الساحة اللبنانية مكان تجربة هذه النظرية. فإما تنجح وتبقى خسائر لبنان محدودة بما جرى حتى الآن، أو تفشل وتصبح عدة مدن وقرى لبنان غزة جديدة نتيجة الضربات الإسرائيلية لاستعادة هيبة الردع.
المصدر: النهار العربي