عبد الله تركماني
تندرج إشكالية العلاقة بين الثقافة والسياسة في الفرق الكامن بين آليات عمل السياسة، باعتبارها وسيلة وليست غاية تعتمد تكتيكات متغيّرة تبعاً لتغيّر المعطيات، وبين مضامينها، أي استراتيجياتها التي تنطوي على التفكير في صياغة الحلول المجدية لسائر المشكلات والتحديات الداخلية والخارجية، لوضع الخطط والبرامج لتحقيق الطموحات الشعبية في حياة حرة وكريمة ومستقرة وآمنة لكل أفراده، بما يرمي إلى تقليل الخسائر وتعظيم المكاسب، وإلى توظيف الموارد الاقتصادية والبشرية المتاحة لحل المشكلات الموجودة.
إنّ مشكلة السياسة العربية تقوم، في أساسها، على عدم إعطاء النفس مساحة للتفكير العميق، وعدم وجود تعريفات دقيقة للمفاهيم التي يتداولها الناس حين يتناولون أمور السياسة. فمن أبرز مساوئ الثقافة السياسية في منطقتنا العربية توظيف المعلومات والمعطيات لتخدم أجندات سياسية محددة، لذا لا بدَّ من السعي للتأسيس لمعرفة موضوعية، والاشتغال على دراسات وأبحاث خارج الإسقاطات السياسية وتأثيراتها الأيديولوجية، كي نحسن استشراف ما هو متوقع ومحتمل، بعيداً عن التمنّي والرجاء وعن الاستغراق في الأوهام. إذ ثمة ثقافة بكاملها تحتاج إلى المساءلة، بمرجعياتها ومؤسساتها ونماذجها ورموزها وإعلامها وخبرائها، هي ثقافة المكابرة وتبجيل الذات والثبات على الخطأ والتستر على الآفات والهروب من المحاسبة، فضلاً عن القفز فوق الوقائع والخوف من المتغيّرات ومجابهة المستجدات بالقديم المستهلك، بل بالأقدم أو الأسوأ من المفاهيم والتقاليد أو الوسائل والأدوات والمؤسسات.
وفي هذا السياق يبدو أنّ الدور الأساسي للثقافة يندرج في المساهمة الجدية في صوغ الرؤى الجديدة والعمل على إشعاعها وتطبيقها في الواقع، وهذا يتطلب حساً نقدياً عميقاً وجرأة على التخلص من النماذج القديمة التي عفا عنها الزمن، وقدرة على التواصل مع قطاعات الرأي العام المختلفة، وارتفاعاً عن المصالح الآنية.
ويأخذ المثقفون، الحاملون لقضايا الشأن العربي العام، على أغلبية النخب الحاكمة ترهلها وفسادها وضعف إنجازاتها وتجاهلها للمصالح والحقوق الوطنية وتعلقها المتزايد بمصالحها الخاصة الفئوية وعجزها عن بناء استراتيجيات وطنية قادرة على التعاطي المجدي مع التحديات.
إنّ المرحلة القادمة تقتضي شحذ الوعي السياسي بمفاهيم وأساليب وآليات جديدة للتعامل مع أزمات غير مسبوقة، تتطلب ثقافة نقدية تستمد مكانتها من مطابقتها للقيم العقلانية والإنسانية دائماً، ومن عمق قراءتها للظواهر الجديدة. إذ يبدو لنا أنّ المنهج العقلاني النقدي، المستوعِب لحصاد التجربة العالمية، والمنفتح على كل التيارات الفكرية والسياسية، يمكنه أن يساهم في ترسيخ قيم ثقافية جديدة. فمن المؤكد أنّ الثقافة هي أحد أهم المداخل إلى معالجة مختلف إشكاليات العالم العربي، على أن تُفهم بمعناها الأوسع والأغنى والأكثر فاعلية، أي بوصفها تجسد حيوية التفكير بقدر ما تمثل منبع المعنى ومصدر القوة، وبقدر ما تجسد سيرورة التحوّل العربي الجديد. ومن أجل تجسيد حيوية التفكير بات من التبسيط والتضليل مقاربة الثقافة العربية من خلال فكر أحادي الجانب والمستوى، فالعالم هو في بناه ونظامه وصيرورته من التعقيد والتشابك والتحوّل، بحيث لا تفي بفهمه نظرية واحدة ولا ينجح في تغييره أنموذج أوحد.
إنّ الثقافة التي سادت لعقود في منطقتنا، ثقافة المؤتمرات والمهرجانات والجوائز، والمنابر العصماء، وجلها كان رسمياً، هي في طريقها إلى الزوال، لتحلَّ محلها ثقافة أخرى بديلة، لن تكون هذه المرة ثقافة أنظمة، بل هي ثقافة مولودة من رحم الشارع، من رحم الجموع العربية التواقة إلى حياة أفضل.
إنّ ثقافتنا العربية تحتاج لأن تكون ثقافة عقلانية غايتها الاستنارة، ونقدية لتجاوز ما هو سطحي وتنميطي، ومستقبلية تطرح الإشكالات وترتاد الآفاق غير المسبوقة، ثقافة ترشد السياسي في مواجهة الاستبداد والفساد الداخلي. ثقافة مؤسسية تتضافر فيها جهود الجميع لبناء إنسان عربي جديد قادر على المساهمة في بناء الحضارة الإنسانية تحت شمس عالم لم يعد فيه البقاء إلا للأصلح.
إنها لا تعني الثقافة التي تردد مفردات الثورة السياسية وشعاراتها، ولا المجتمع الذي يشارك في المظاهرات أو يصوّت لقوى الثورة في الانتخابات، وإنما تعني الثقافة التي تعيش ثورة في داخلها كثقافة تتغيّر بها قيمها التقليدية المتأخرة: ثقافة النقد، والإبداع، والتفكير العقلاني، والاجتهاد، والنجاعة العملية. وتعني المجتمع الذي يعيش ثورة في داخله تعيد إنتاج القيم الإيجابية في منظومته: مجتمع المساواة بين الجنسين لا المجتمع الذكوري، المجتمع المدني الحديث لا المجتمع الأهلي العصبوي، مجتمع التسامح لا مجتمع التعصب، مجتمع الإنتاج والمبادرة لا مجتمع الكسل والريع، مجتمع التضامن الوطني الشامل لا مجتمع الانتماءات العائلية والجهوية والفئوية. وما أغنانا عن القول إنّ ميلاد هذه الثقافة وهذا المجتمع سيأخذ وقتاً طويلاً يُحْسَب بالعقود والأجيال، ولن يكون حصيلة فورية لثورة سياسية مهما كانت عظيمة. ثم إنّ ميلادهما يقتضي ثورة حقيقية في التربية والتعليم ومناهج التدريس، وفي السياسات الإعلامية والثقافية، تماماً مثلما يتطلب نجاحات متواصلة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية وفي التوزيع العادل للثروة والفرص، واستقراراً في النظام السياسي وتطويراً له.
ويبدو أنّ سؤال المستقبل هو عنصر تكويني في هذا الوعي وعلامة عليه، سواء في حرصه على الارتقاء بالإنسان من مستوى الضرورة إلى مستوى الحرية، أو الانتقال بالمجتمع من التأخر إلى التقدم. وإزاء ذلك يبدو أنّ الخطوة الأولى في محاولة التعاطي مع أسئلة المستقبل تكمن في فهم لغة الخطاب العالمي المعاصر، التي يتم التعامل بها بين أطراف هذا العالم الجديد، وبالتحديد فهم توجهات هذا العالم نحونا. إذ إنّ البحث في الاعتماد المتبادل بين العالم العربي والخارج هو بحث في المستقبل، وأية دراسة للمستقبل لا بدَّ أن تنطلق من نماذج تطور النظام العالمي في أبعاده السياسية والاستراتيجية والاقتصادية والثقافية.
إنّ المقاربة العقلانية النقدية التي نعتمدها بشجاعة، في كل كتاباتنا ومواقفنا، هي التي سترتفع – كما نعتقد – بالسياسة العربية من المستوى التبشيري العاطفي، إلى مستوى القاعدة السياسية الثابتة في الفكر السياسي. إذ ما زلنا نلاحظ شمول الخطاب السياسي العربي على لغة إنشائية خطابية لا تقدم حلولاً ملموسة ولا تتعامل مع الواقع، خطاباً هائماً يسبح في فضاء واسع وفضفاض ولا يتعامل مع قضايا محددة وفق رؤى نابعة من قضايا الواقع ومشكلات وطموحات شعوبنا.
إن العالم يشهد مرحلة إعادة نظر جذرية في قضية الثقافة، بل إعادة اعتبار لها من زاوية استراتيجيات المستقبل، خاصة وأنّ التطورات الجارية تبشّر بمستقبل جديد على مستوى الإنجاز المادي والتقدم التكنولوجي، ومراكز البث الإلكتروني، وبرامج التنفيذ في مجالات الإدارة والعمل الوظيفي، ناهيك عن المؤسسات التي تقتضي طبيعة عملها صرامة متناهية في التنفيذ. فهل استوعب سياسيونا دلالات هذه التحولات في العالم؟