عصام شعبان
عاودت إسرائيل تكثيف استخدامها سياسة الاغتيالات بعد 7 أكتوبر (2023)، ضمن استراتيجيةٍ للردع، مستهدفةً قياداتٍ سياسيةٍ وعسكريةٍ، متجاوزةً ساحةَ المواجهة في قطاع غزّة والضفّة الغربية، مخترقةً عواصم في الشرق الأوسط، هادفةً إلى تقليص إمكاناتِ المقاومةِ وإجهاضِ أفقِ تطوّرها، ما يحدُّ من فرصَ إعادة بناء وتنظيم صفوفها، وشلِّ قدراتها مستقبلاً. وإذا كانت جرائم الاغتيال حالياً تتشابه مع حالات وقعت إبّان الانتفاضتَين الأولى والثانية، إلّا أنّها أكثر كثافةً ومتتابعةً، وخريطةُ الاستهداف أوسع جغرافياً، كما ترتبط بسمات حربٍ انتقاميةِ الطابع، وشاملةٍ في جبهات عدَّة، ولا تقتصر على المواجهة الميدانية، فضمنها حروب الإعلام. وكشفت أجهزة أمنية في تلّ أبيب أنّ الاغتيالاتِ أداةُ حربٍ مع بداية العدوان. وخلال نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، أعلن المُتحدّثُ باسم جيش الاحتلال الاستعدادَ لملاحقة قادة المقاومة في كلّ مكان في العالم. كذلك، أكَّد رئيسُ الموساد، ديفيد برنيع، عقب اغتيال القيادي في حركة حماس صالح العاروري (هُدِّدَ بالاغتيال قبل 7 أكتوبر بأيّام)، استعدادَ الجهاز لتصفية الحسابات، كما كان قبل 50 عاماً، في إشارة إلى عملية ميونخ (1972). وضمن هذا التوجّه، تحدَّث رئيس الشاباك رونين بار عن توسيع صلاحياته. لذا، الاغتيالات مُرشَّحةٌ للتمدُّد أسلوباً للصراع مستقبلاً، ويمكن أن تطاول شخصياتٍ مُؤثِّرةً من غير المُنخرطين في العمل العسكري.
وتأتي الاغتيالات سياسةً مُكمِّلة للحرب، وبدعم استخباراتي أميركي، وفي سياق عربي. تسلّم معظم الدول العربية بهيمنة إسرائيل، إلى جانب تيَّار يتبنَّى التعاون مع تلّ أبيب على أرضية الأهداف والتهديدات المُشترَكة، وإقامة تحالفاتٍ لمواجهة مجموعاتِ التطرّف والإرهاب، وتحقيق ما تُسمّى “أهداف التنمية”. هذا يجعل الحرب على الفلسطينيين حربَين، بما تتَّخذه هذه النُظم من مواقفَ تشارك إسرائيل أهدافها، وتحمل موقفاً عدائيّاً من المقاومة وشخوصها، وتسنّ وسائل إعلامها ونُخبها سكاكينها في حملات هجوم يُتَّخَذ بعضها رداء التقييم والنقد والنصح، لكنّ مساعيها ترتبط بالاصطفاف مع مشاريع العدوّ. ما بين ذلك، وضمن حرب إعلاميةٍ لا يُستهان بها، ومع تصاعد وتيرة العدوان على غزّة، جاءت حملة الهجوم على رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنيّة، بعد اغتياله في طهران، وتضمَّنت تكراراً لأكاذيبَ استهدفت اغتياله نفسياً، قبل أن يُستهدَف عسكرياً، واستكملت أبواق التطبيع، والمنهزمين نفسياً أمام العدو، الهجوم على المقاومة، للشعور بالثقة، وبصدق رهاناتهم، وهم يشاركون الاحتلال أفراحه في مقتل قائد فلسطيني وحدوي، وذهب آخرون إلى التشكيك في صدق شعاراته، وهو الذى كان قيادياً في الحركة الطلابية في الجامعة الإسلامية، يدرس الآداب، وظلّ في مخيم الشاطئ للاجئين مُنخرطاً في العمل السياسي، لم يتركه إلّا مُبعداً في لبنان، أو سجيناً، ولم يدفعه تولّى منصب رئيس وزراء فلسطين (بعد أول انتخابات برلمانية ديمقراطية عربياً) إلى ترك المُخيَّم الذى ولد فيه لأُسرة هُجِّرَت من عسقلان.
خرج هنيّة مُجبراً إلى الدوحة في العام 2017، وبقي أغلب أفراد أسرته ما بين المخيَّم وحيّ الرمال، فُقِدَ منهم 60 شخصاً، غير مائةٍ من دائرة قرابة أبعد، كما ترصد تقارير صحافيةٌ، وحاله كما قادة في الفصائل والمجتمع المدنيّ، وموظَّفين عموميين، يستهدفهم الاحتلالُ هم وعائلاتهم، نوعاً من العقاب والانتقام، في حرب عدوانية تطاول الغزّيين كلّهم، وانتهت حياة هنيّة شهيداً في مهمّةٍ سياسيةٍ يمثّل فيها شعبه، وليس حركة حماس وحسب، ضمن مسيرة حركة تحرُّر وطني تقاوم المُحتلَّ، الذى كانت طائرته تُسقط أحياناً مناشيرَ بدلاً من القنابل، تشوِّه فيها المقاومة أخلاقياً وسياسياً، وهو الخطاب الذى تُردِّده أصواتٌ عربيةٌ، وضمنه أنّ أهل غزّة يُعانون مأساةً تحت القصف، وإسماعيل هنيّة، وقادة “حماس”، يعيشون في الفنادق.
هذه الدعاية، التي تُشوِّه هنيّة، والمقاومة عموماً، ليست منزوعةً عن التعاطي مع خطط إسرائيلية تتعلّق بالقطاع، بمشاركة دوائرَ ونظمٍ سياسيةٍ تريد استبعادَ الفصائلَ من القطاع مستقبلاً، وهذا يتطلَّب تشويهها وعزلها عن محيطها في كلٍّ من غزّة والضفّة، بل وفي المنطقة العربية، بما في ذلك الحطُّ من قدرات وتضحيات الشعب الفلسطيني، قادةً وتيّاراتٍ سياسيةً، للتمهيد لمرحلة تالية، تتعاون فيها أطراف إقليمية مع الاحتلال، بينما المسموح به اليوم صوتُ الاستجداء، وإيصالُ المساعدات لأهالي القطاع، من متباكين على الشعب الفلسطيني، يناوئون، في الوقت نفسه، أيَّ شكلٍ للمقاومة مهما كان لونها، مع تبرئةِ المُعتدِي، جيش الاحتلال، الذى يمارس “دفاعاً عن النفس”، وإدانةِ المقاومة على “أخطائها” بدلاً من إدانة تلّ أبيب، لأنّ قادتها فاقدون الضمير والتقدير. وعليه، يجب أن يُحاسَبوا عن المأساة التي يشهدها القطاع، بدلاً من الاحتلال.
مصرياً، ورغم خسائرَ من تداعيات العدوان، واستفزازاتٍ إسرائيليةٍ، وضغوطٍ متتاليةٍ، لم تكن مواقف القاهرة تتناسب مع فداحة الجريمة، وما يمثّله الاغتيال من رسائل لإثبات هيمنة المُحتلِّ وفرض إرادته. بالتزامن مع ذلك، وضمن موجةٍ عربيةٍ، شهدت وسائلُ التواصل الاجتماعي حالةً بين نُخَبٍ وإعلاميين أقرب إلى حملةٍ مُخطَّطةٍ شاركت فيها أصواتٌ قريبةٌ من السلطة، وشملت كتابات لعشرات من قيادات وعاملين في مُؤسَّساتٍ إعلاميةٍ تحت السيطرة، وموجهة، تناول فيها هؤلاء، الذين يمثلون جبهةً، واقعةَ اغتيالِ هنيّة بالتشفِّي، وبالشماتة، وبالتشويه، ما يُعبِّر عن اتجاهٍ مناوئٍ للمقاومة ظهراً وبشكل جماعي، ويبدو مُنسَّقاً ومتشابهاً في ما يُردِّده، بما في ذلك استهزاءٌ وتعبيراتٌ مُنحطَّةٌ، لا تليق بواقعة موت أو استشهاد قائدٍ فلسطيني خلال العدوان، ولا بجرائمَ لا تنقطع تستهدف مدنيين بالجملة. ومن أجل تبرير التشفِّيَ، طرح المشاركون في حملة التشوية مقولاتٍ تبدو وطنيةً دفاعاً عن الحدود، وضدّ جرائمَ إرهابية، يتهمون فيها حركة حماس، بينما هذه الأصوات ظلَّت صامتةً أمام سيطرة الاحتلال على محور فيلادلفيا، وتخطّيه خطوطاً حمراءَ أصبحت خضراءَ، ما يسوّقه نتنياهو نصراً عسكرياً وسياسياً، ضمن أهداف الحرب التي حقَّقها متجاوزاً أيَّ ضغوط، بينما ذهب هؤلاء إلى البحث في دفاترَ قديمةٍ لتشوية فصائل المقاومة، واتهامها بتنفيذ عمليات إرهابية في سيناء، بما يخلق غبار معركة يغطُّون بها جرائم الاحتلال الحالية، وتستعير بعض اتهاماتها من قاموس الثورة المضادَّة؛ التربُّح والعمالة لأطراف خارجية، بجانب الإرهاب، معتبرةً حركةَ حماس خطراً يستلزم بناء حلفٍ ضدّها، وهو ما يتوافق مع دعوة نتنياهو في خطابه بالكونغرس، وكذلك حواره مع مجلة التايم (8 أغسطس/ آب الحالي) قائلاً، إنّه لم يكن ممكناً القضاءُ على “حماس” في حرب 2014، لعدم توافر دعم محلّي ودولي. وأخبرنا بخططه مستقبلاً؛ التوجه إلى الشركاء الإقليميين لإقامة حكمٍ مدنيٍّ في قطاع غزّة (والضفّة الغربية)، بما لا يُهدّد أمن إسرائيل وحدودها، زاعماً تهريب السلاح من سيناء، الذى اعتبره التهديد الأكبر.
تستدعي تصوّرات نتنياهو من شركائه استبعاد المقاومة ونفيها من أيّ تحرّكات مستقبلية. لذا لم يكن غريباً أن تجيء تصريحات وبيانات عربية عدّة غيرَ متناسبةٍ مع جريمة الاغتيال، بجانب حضور رسمي محدود لجنازة إسماعيل هنيّة في الدوحة، ومعها يُقارن متابعون بين مشهدَين؛ مشاركة أربع دول عربية في جنازة شمعون بيريز 2016، وجنازة إسماعيل هنيّة. وربّما لو كانت الجنازة تاليةً على اتفاقيات التطبيع (أبراهام)، كانت ستحظى بمشاركة أكبر، بحكم أنّه مُبشِّرٌ بالتطبيع الإبراهيمي، شارحاً خطوطَه ومرتكزاته، ضمن رؤيته للشرق الأوسط، التي زاد عليها نتنياهو فِكَرَه بشأن التعاون مع دول عربية ضدّ تنظيمات الإرهاب، التي تهدّد السلام والأمن الإقليميين، وتمثّل تجسيداً للبربرية كما يقول، وهو توصيف إماراتي لعملية 7 أكتوبر؛ “هجوم بربري ووحشي”. تجاهلت بلدان جريمةَ اغتيال هنيّة، ولم تره بربرياً، لأنّه “دفاع عن النفس”، بل و”دفاع عن الحضارة”.
وفي حين وصفت القاهرة محاولةَ اغتيال الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، المُرشَّح حالياً للرئاسة، بالحادث الغادر، لم يذكر بيان الخارجية المصرية اسم من اغتيل، المفاوض، الذى تربطه بالقاهرة علاقات ممتدَّة، وتنسيق متَّصل منذ 2017، منذ جاء رئيساً للمكتب السياسي، وفى ملفّات المصالحة والتفاوض، والحدود. تجاهل ذكر هنيّة في بيان تالٍ على الجريمة يُمثّل خطأً في التقدير السياسي، وافتقاداً للحكمة في التعبير، وحتّى مخالفاً قواعد فنية بديهية، منها أن تكون التصريحات والبيانات الرسمية تستوفى شروطها من الوضوح والدقَّة، وبيان الحدث، والموقف منه بوضوح، ولا يمكن تبريره بنقص في القدرات، حتّى من دون أن تحمّل القاهرة نفسها موقفاً سياسياً لا تريده. كان ممكنا إصدارُ بيان متوازنٍ، ولا نقول منحازاً للحقّ والعدل وحسابات مصالح القاهرة في إنهاء الحرب.
وهنا مُهمٌّ التأكيد أنّ حملات الشماتة ومهاجمة حركات المقاومة، عربياً، تتزامن مع سيناريوهات ترسم خريطةَ للمستقبل السياسي في غزّة والضفّة، تُستبعَدُ منها فصائل المقاومة الفلسطينية، حسب رؤية نتنياهو وشركائه الإقليميين. لذا، اغتيال قياداتٍ وشخوصٍ حركاتِ المقاومة وتشويهها تمهيدٌ لما تطرحه إسرائيل من مخطَّطات، يجري التجهيز لها وترويجها إعلامياً، وهي غير ممكنة من دون الضغط على حركات المقاومة، بما في ذلك حملات تشويهها والنيْل منها، بالتزامن مع تكثيف العدوان على قطاع غزّة، كما اختلف موقف مصر الخافت تجاه اغتيال هنيّة عن موقفها من اغتيال صالح العاروري، الذي دانته القاهرة إدانةً واضحةً، وهدّدت بوقف وساطتها ردّاً على الجريمة، وفى السياق ذاته، تُفسّر هذه المعطيات الغياب الرسمي عن جنازة هنيّة بالدوحة، بجانب عدم إعلان إرسال مندوبٍ من هيئة المراسم، وعدم إرسال برقية عزاء إلى رئاسة السلطة الفلسطينية، باعتبار أنّ هنيّة شغل منصباً رسمياً، وعلى اعتبار أنّ البرقية ضمن أنشطة دبلوماسية، كما إعلان الخارجية المصرية تضامنها الكامل مع الهند حكومةً وشعباً، إثر حوادث الانهيارات الأرضية التي وقعت في منطقة واياناد، وكذلك التقدّم بالتعازي وصادق المواساة إلى الشعب الإثيوبي الشقيق، في ضحايا الانهيارات الأرضية، ولم يكن ضرورياً اعتبار اغتيال هنيّة حادثةً غادرةً، كما وُصِف استهداف ترامب، لكن تعزية الشعب الفلسطيني كانت تكفي.
عموماً، كان الموقف من اغتيال هنيّة خصماً من رصيد مصر وصورتها، وحتّى مع أدوار إيجابية تقوم بها على مستوي الوساطة والإغاثة، ولم يكن هناك موقفٌ مغايرٌ يستر العوار سوى التعليق على جريمة الاغتيال، في بيان شجاع لشيخ الأزهر، وبيت عزاء دعا إليه حمدين صباحي في حزب الكرامة شاركت فيه قوىً وطنيةٌ، لكن لم يسلم أيضاً من الهجوم من ذات الأصوات التي هاجمت هنيّة.
المصدر: العربي الجديد