أحمد الجندي
يصرّ رئيس وزراء حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، على أنّ الضغط وحده هو الوسيلة الوحيدة لفرض إرادته على المقاومة الفلسطينية، والخروج من الحرب منتصراً، وهو على قناعةٍ تامّةٍ بأنّ الضغط إذا لم ينجح فسينجح مزيدٌ من الضغط في تحقيق الأهداف المرجوّة، وهو ما عبّر عنه مراراً طوال شهور الحرب الماضية.
على أنّ الجديد في الضغوط التي تمارسها إسرائيل لم يعد يتعلّق بالنوع، بل بزيادة الكمّ؛ فأصبحت تعتمد إيقاعَ أكبر عددٍ من الضحايا المدنيين، وأعظم قدرٍ من الخسائر، ومنع دخول المساعدات، وتشديد الخناق على القطاع لفصل المقاومة عن حاضنتها الشعبية، لإجبارها في النهاية على القبول بالإملاءات والشروط الإسرائيلية. وأمام هذه الضغوط، وفي ظلّ تأخّر الردّ الإيراني (أو العدول عنه؟)، والتزام حزب الله المسار نفسه الذي اتخذه منذ بدء الحرب، كان على المقاومة إدخال أوراق أخرى جديدة/ قديمة إلى الصراع، لمحاولة معادلة الضغوط الإسرائيلية، فقرّرت العودة إلى تنفيذ العمليات الاستشهادية التي كانت علامةً بارزةً من علامات الانتفاضة الثانية. وهكذا نكون أمام معادلة ضغطٍ متبادلٍ، وتأخذ الحرب شكلاً مختلفاً من التوسّع، ليس الجغرافي فحسب، بل أيضاً النوعي؛ الذي يستهدف توسيع شريحة المتضرّرين منها من الإسرائيليين عبر إفقاد المجتمع الشعور بالأمن، وأن تصبح احتمالية التعرّض للخطر قائمةً لدى الجميع، بعد تراجع قصف المقاومة في القطاع للمدن الإسرائيلية خلال الأشهر الماضية.
جاء تفعيل المقاومة خيارَ العمليات الاستشهادية متزامناً مع مباحثات مُقترَح ما سمّيت “الصفقة”، الذي طرحته الولايات المتّحدة، بهدف تبريد موقفَي إيران وحزب الله بعد توعّدهما إسرائيل بالانتقام ردّاً على جرائمها في حقّهما، ويبدو أنها نجحت في ذلك، أو أنّ الطرفَين، إيران وحزب الله، كانا في حاجة إلى مُبرّر لمراجعة حساباتهما المهتمّة بعدم الانجرار إلى حربٍ شاملةٍ لا يريدانها لاعتباراتٍ تخصّ المشروع النووي الإيراني، والظروف الداخلية الضاغطة في لبنان، ومن ثمّ كانت المباحثات فرصةً مناسبةً لهذه المراجعة لتحديد طريقة في الردّ لا تُفضي إلى حربٍ شاملة. كذلك جاء إعلان المقاومة عودةَ العمليات الاستشهادية في الداخل المُحتلّ نتيجة تأكّدها من عدم جدوى المقترح الأميركي، وهو ما ثبتت صحّته بعد تسرّب بعض تفاصيله؛ إذ لم يتضمّن أيَّ انسحاب من محورَي فيلادلفيا ونتساريم، كما لم يهتم سوى بالمرحلة الأولى التي تتضمّن إفراج “حماس” عن كبار السنّ والنساء والأطفال من الأسرى الصهاينة، في مقابل تهدئةٍ وإفراجٍ عن أسرى فلسطينيين، قد تبعد إسرائيل بعضهم، وقد لا توافق على أسماء أخرى، بمعنى أن تبقى أسماء من ستفرج عنهم من هؤلاء الأسرى قابلةً للضغوط والتحفّظات الإسرائيلية. أمّا الأسرى من العسكريين الإسرائيليين فتُرك شأنهم للتباحث في المرحلة التالية، التي لا تهتمّ بها الولايات المتّحدة ولا إسرائيل أصلاً، إذ تعتبر إسرائيل العسكريين ثمناً يمكن دفعه لاستمرار الحرب، وهي جاهزةٌ للتضحية بهم مثلما ضحّت بغيرهم من المدنيين والعسكريين سابقاً. وهذا يعني أنّ واشنطن أرادت الوصول إلى تهدئة تنتهي بانتهاء الانتخابات الأميركية، يعود بعدها الجيش الصهيوني إلى الحرب والقتل، ويكون قد رفع عن كاهله ضغوط أهالي الأسرى، وتكون الإدارة الأميركية قد خدعت من يريدون وقف الحرب من ناخبيها.
إعلان المقاومة الفلسطينية عودةَ العمليات الاستشهادية في الداخل المُحتلّ جاء نتيجة تأكّدها من عدم جدوى المقترح الأميركي
في هذا السياق، إذا اتّخذت المقاومة قرارها، وسعت إلى تنفيذ أولى عملياتها التي رغم فشلها في إيقاع خسائر مؤلمة في صفوف الإسرائيليين، فإنها نجحت، حسب عميل الشاباك السابق، جاي حين، حين اخترق مُنفّذُها الحواجز الأمنية كافّة، وتنقلّ بسهولة في قلب تلّ أبيب حاملاً عبوةً شديدةَ الانفجار، ليكشف فشل جهاز الشاباك مرّة أخرى مثلما فشل في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023. وقد انعكس صدى هذه العملية في ما كتبه المُحلّلون الإسرائيليون، وكشف درجةً كبيرةً من الخوف من عودة ذكريات تسعينيّات القرن الماضي. في هذا السياق، كتب الصحافي في “هآرتس”، جاكي حوري، أنّ العملية التي تبنّتها حركتا حماس والجهاد الإسلامي في تلّ أبيب، تعيد ذكرى العمليات المشابهة، التي شهدتها فترتَا التسعينيّات والانتفاضة الثانية، وتُقدّم مفهوماً مختلفاً عن مصطلح “وحدة الساحات”؛ فما يحدث في قطاع غزّة يُؤثّر في الضفّة الغربية، وما يشعر به الفلسطينيون في الضفّة يُؤثّر في المدن الكبرى في إسرائيل، وهكذا يمكن أن تتّسع خريطة العمل الفلسطيني لتشمل فلسطين كلّها بشكل متدرّج. هذا من ناحية الجغرافيا، أمّا من ناحية الوقت؛ فيركّز حوري في دلالة توقيت العملية، وأنّ اتجاه “حماس” إلى هذا الخيار لم يكن بسبب “ما يحدث”، بل بسبب “ما لا يحدث”، لأنّ الضغوط كلّها، الدولية والعربية، وضغوط المحكمة الجنائية الدولية، لا تصنع شيئاً، ولا تحمل أيّ أملٍ في إنهاء الحرب. وبالتالي، أصبح لدى السنوار خياران أساسيان؛ العصا والجزرة: الأسرى الإسرائيليون في مقابل الأسرى الفلسطينيين ووقف الحرب وانسحاب القوات الإسرائيلية، أو حرب عصابات في المناطق ومحاولة إشعال الضفّة وتنفيذ عمليات انتقامية داخل إسرائيل.
وهنا تحديداً يُطرح سؤال مهمّ عمّا إذا كانت الحركتان تمتلكان القدرة التنفيذية للعودة إلى مثل هذه العمليات في قلب البلاد أم لا؟ والأمر هنا لا يتعلّق بوجود أشخاص جاهزين للتضحية بأنفسهم، فالغضب لدى الشباب الفلسطيني في الضفّة الغربية وصل إلى درجاتٍ غيرَ مسبوقةٍ بسبب زيادة عمليات الجيش الإسرائيلي، واعتداءات المستوطنين في حقّ الفلسطينيين، فضلاً عما يرتكبه الجيش الصهيوني من مجازر في غزّة؛ وهذه كلّها عواملُ دافعةٌ نحو اختيار كثير من الشباب هذا المسار. فالسؤال الحقيقي هو إن كانت الإمكانات اللوجستية لدى المقاومة تسمح لها بالسير في هذا الطريق أم لا؟
وسبب طرح هذا السؤال أنّ ثمّة عدّة فروق بين العمليات الفردية والاستشهادية؛ فالنوع الأول يقوم به أفراد خارج الإطار التنظيمي، أو ما تُعرف بالذئاب المنفردة، وفيها يحتاج المنفّذ سلاحاً آليا أو مسدّساً أو سكّينا، فقط، ليقوم بمهمّته التي حدّدها وخطّط لها ونفّذها وحده، وهذا يجعل رصدَها أكثرَ صعوبةً على الأجهزة الأمنية، لكن في المقابل، تكون الخسائر المحتمل إيقاعها بالعدو أقلّ مقارنةً بالعمليات الاستشهادية. علاوة على أنّ الأخيرة تتطلّب، طبقاً للواء احتياط جابي سيبوني، أن يقف وراءها جهاز كامل، يتضمّن التوجيه، وتجهيز العبوات المتفجرة، والنقل، واللوجستيات، ما يجعلها أسيرةَ الإطار التنظيمي ويجعل ملاحقة الفريق المعاون للمنفذين أمراً ممكناً؛ ولذلك فإنّ المقاومة لا تكون منشغلة في هذه العمليات بعددها، بل بجودتها والتأكّد من تنفيذها بشكل صحيح، ولو في فترات متباعدة، بخلاف ما يحدُث في العمليات الفردية المتكرّرة.
تتحوّل الحرب غير المتكافئة سياسةَ عض أصابع، وضغطاً متبادلاً، وإذا كانت الضغوط التي يمارسها نتنياهو باتت تفضي إلى نتائجَ عكسيةٍ
وتكشف الأرقام المُعلَنة بشأن عدد العمليات الفردية التي أعلنت أجهزة الأمن الصهيونية إحباطها حجم الضغوط الكبيرة التي تتعرّض لها إسرائيل؛ فقد بلغت، وفقاً لتصريح مسؤول كبير سابق في الشاباك الإسرائيلي، أكثر من ألف منذ بدء الحرب، بما يعادل أربع عمليات في اليوم الواحد تقريباً. وهذا لا يشمل العمليات التي نجحت المقاومة أو الأفراد في تنفيذها وأوقعت خسائرَ في الإسرائيليين، كما أنّ هذا الرقم لا يتضمّن أيَّ عملية استشهادية بالطبع، التي ستمثل نقلةً مخيفةً بالنسبة لإسرائيل.
وهو خوف له أسباب منطقية، وفقاً لما كتبه المراسل العسكري ومحلّل صحيفة يديعوت أحرونوت، رون بن يشاي، الذي أشار إلى تقديرات استخبارية لأجهزة الأمن الإسرائيلية تتوقّع احتمال زيادة المواجهات في مدن الضفّة الغربية إلى درجة الانتفاضة. ويُحدّد بن يشاي فارقاً مهمّاً بين ما يحدث حالياً والانتفاضتَين السابقتَين، ففي السابق كان الفلسطينيون يخرجون بشكل جماعي إلى الشارع، بينما تتصاعد المواجهة الحالية تدريجياً، وفي كلّ مرّة يُضاف إليها عناصرُ جديدةٍ، فقد بدأت المواجهة في مدن الضفّة، بما في ذلك زرع العبوات المتفجّرة، بشكل فعلي قبل السابع من أكتوبر (2023)، واضطرّ الجيش حينها إلى سحب قوات من غلاف غزّة لتعزيز التواجد الأمني هناك، ثم تصاعدت كمّاً وكيفاً مع بدء الحرب؛ وتمدّدت الخلايا المسلّحة من مخيم جنين إلى مخيم عين شمس، ثمّ إلى باقي مناطق الضفّة. وهو ما دفع إسرائيل إلى إعادة استدعاء 15 ألف مدني للاحتياط من الفئة العمرية تحت 35 عاماً، ممّن سرّحوا من الخدمة سابقاً. ومن ثمّ يُصبح الخطر الداهم أن تتحوّل المواجهات الحالية، لا إلى انتفاضة على غرار الانتفاضتَين السابقتَين، بل إلى مواجهات مسلّحة واسعة، يغذيها انتشار الأسلحة المهرّبة عبر الحدود الأردنية، وعدم كفاية جهود السلطة الفلسطينية نتيجة ضعفها، وعدم قدرتها على التعامل مع الظاهرة. ورغم ذلك، يبقى وجودها مهما لأمن إسرائيل، حسب رأي المسؤول السابق في الشاباك، شالوم بن حنان.
هكذا تتحوّل الحرب غير المتكافئة سياسةَ عض أصابع، وضغطاً متبادلاً، وإذا كانت الضغوط التي يمارسها نتنياهو باتت تفضي إلى نتائجَ عكسيةٍ وتصاعدِ المقاومةِ وتمدّدها في مدن الضفّة، فقد بقي أن نشاهد كيف يمكن أن يكون أثر العملية الاستشهادية القادمة في الداخل الإسرائيلي، وفي مسار الحرب.
المصدر: العربي الجديد