غازي دحمان
للمرّة الأولى، منذ بداية الحرب في غزّة، باتت الرؤية واضحة بشأن مستقبل التطوّرات في المنطقة؛ فلا حرب إقليمية أبطالها إسرائيل وإيران وأذرعها، بل المنطقة ذاهبةٌ إلى التهدئة وصناعة تسوياتٍ تضمن الهدوء بين الفاعلين سنواتٍ مقبلة، وذلك للتفرّغ إلى تسييل فوائد الحرب سياسياً، ودائماً على حساب الرصيد العربي.
بنصف ابتسامة، طلب الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، من اللبنانيين العودة إلى حياتهم الطبيعية، مُؤكّداً لهم أنّ الأمور ستعود إلى يومياتها العادية، أي في مستوىً منخفض من الضربات المتبادلة مع إسرائيل، فاللعبة باتت في خواتيمها، أو هي انتهت عمليّاً بعد ردّ الحزب، والحزب، عبر ابتسامات نصر الله، بدا وكأنّه تخلّص من عبء ثقيل أرهقه ثلاثة أسابيع، ويبدو وكأنّ نصر الله يكتم فرحاً غامراً بهذا المخرج.
ويكشف ذلك أنّ ردّ إيران الموعود لن يكون بالحجم أو المدى أو الاتساع الذي يستدعي من الذين دعاهم نصر الله إلى العودة إلى الحياة الطبيعية، الانتظار والحذر والتوجّس، فليس في الأفق ما يُؤشّر إلى احتمال حصول تغيّرات حادّة في مسارات المنطقة، وليس سوى أيام قليلة تفصلنا عن نهاية هذه التراجيديا. والمُؤكّد أنّ نصر الله ما كان ليخرُج بأنصاف ابتساماته التي تتأرجح بين الجدّ والهزل، لو لم يكن على علم بتطوّرات خلف الكواليس عن أكثر من نصف اتفاق بين طهران وواشنطن.
ما يُؤكّد هذا الاستخلاص تأكيد رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية، الجنرال سي كيو براون، من تلّ أبيب، أنّ الأخطار في المدى القريب لاتّساع رقعة الحرب في الشرق الأوسط انحسرت، لكن ما يفوق الخيال تطابق تصريحات مسؤولي إيران وإسرائيل بأنّ كلّاً منهما قد أحبط نوايا الطرف الآخر في جرّ المنطقة إلى حرب إقليمية (!)
تتعرّض مدن الضفّة وقراها لحرب منهجية يشنّها المستوطنون، بدعم واضح من الجيش والحكومة الإسرائيليين
اليوم، يبدو أنّنا وصلنا إلى عتبة “اليوم التالي”، الذي بدأ الحديث عنه منذ الأيام الأولى للحرب على غزّة، وصلنا إلى هنا وفي رصيد الحرب عشرات الآلاف من القتلى والجرحى والمُشوّهين والمُعاقين من الفلسطينيين، ودمار كارثي لقطاع غزّة، فإذا كان “اليوم التالي” الموعود سيكون مناسبةً لتبادل التهاني بمناسبة نجاة المنطقة من حربٍ إقليمية، وحافظت على توازناتها وقواعدها ونظم حكمها، فإنّه لن يكون كذلك في فلسطين.
في غزّة، الصورة واضحة بشكل جلي، بيئة مدمّرة اجتماعيّاً وعمرانيّاً واقتصاديّاً، لا يملك أحد، في المنطقة والعالم، سوى البكاء على تلك الأطلال، بعد أن حوّلت إسرائيل القطاع مكاناً غير صالح للحياة الآدمية، فلا بِنى تحتيّةً ولا فوقيةً يمكن ترميمها وإصلاحها، ثمّ إنّ إعادة الروح وضخّ الحياة في شرايين غزّة يحتاج شروطاً مختلفةً، وليس مُجرّد اتفاق هدنة، بل اتّفاق سلام دائم ضمن الاعتراف بدولة فلسطينية مستقلّة ووجود ضمانات دولية وروادع تمنع إسرائيل من تكرار فعلتها، وقبل ذلك، شعب غزّة كلّه بات يحتاج إلى عيادة نفسية، بعد ما عاشه أهل القطاع وشاهدوه من أصناف الموت وأشكال التنكيل والاستهتار بإنسانيتهم، وإلّا فإنّ مشهد الخراب والضياع سيبقى هو العنوان الدائم للأوضاع في غزّة.
لكنّ الوضع المعقّد بشكل كبير هو وضع الضفّة الغربية في المرحلة المُقبلة، إذ تتعرّض مدن الضفّة وقراها لحرب منهجية يشنّها المستوطنون، بدعم واضح من الجيش والحكومة الإسرائيليين، ولا يُخفي اليمين الإسرائيلي المُتطرّف الحاكم في إسرائيل، نواياه في السيطرة على أكبر مساحة ممكنة في الضفّة، وقد زادت وتيرة الاعتداءات، حتّى أصبحت حرباً يومية تشنّ على الضفّة وأهلها، في ظلّ تضييق اقتصادي رهيب، ومنع وصول الاستحقاقات المالية للسلطة في رام الله، والهدف من ذلك جعل السلطة تنهار بالإضافة إلى شلّ قدراتها على تقديم الخدمات التي تتطلّبها استمرارية الحياة، مثل الإدارة والتعليم والكهرباء والماء.
يتوجب التفكير بمقاربة مختلفة لحماية الضفّة الغربية تستبعد الحرب لأنّها خيار انتحاري
أثبتت التجارب السابقة صعوبةَ (إن لم يكن استحالةَ) تنظيم مقاومة مسلّحة في الضفّة الغربية، لا زالت ذاكرة الانتفاضة الثانية طرّيةً، وثمّة عواقب كثيرة تجعل من المقاومة المسلّحة في الضفة أشبه بعملية انتحار، في ظلّ سيطرة إسرائيل الكاملة على التلال المشرفة على التجمّعات الحضرية في الضفّة، وإشرافها على مداخل المدن والقرى ومخارجها، وعدم توفّر السلاح المكافئ، حتّى في ظل حرب لا متماثلة ستكون هناك مشكلة انعدام وجود طرق إمداد لوجستي مضمونة ودائمة، ورغم أنّ مساحة الضفّة الغربية تبدو أكبر من غزّة، إلّا أنّه في ظلّ وجود المستوطنات في مساحات واسعة من الضفّة تضعف هذه الميزة الجغرافية إلى حد بعيد، وتعدم هامش المناورة الذي يمكن أن تضيفه هذه المساحة.
على ذلك، يتوجب التفكير بمقاربة مختلفة لحماية الضفّة الغربية من خطر داهم، هذه المقاربة يجب أن تستبعد الحرب لأنّها خيار انتحاري، وبما أنّ الفلسطينيين لا يملكون أدوات تأثير مهمّة في صراعهم مع إسرائيل، فإنّ الدور العربي يجب أن يبرُز الآن وبكلّ قوّة، عبر الضغط على الولايات المتّحدة وأوروبا لإعادة حلّ الدولتين، وأنّ يستثمروا في علاقاتهم مع تلك الأطراف لإنقاذ ما تبقّى من فلسطين.
بينما تتهيأ الأطراف المختلفة ونُظم الحكم في المنطقة لليوم التالي بعد غزّة بحساباتٍ وترتيباتٍ مختلفة، هناك شعب في قطاع غزّة والضفّة الغربية يبحث عن مستقبل يبدو أنّه ضبابي وخطِر، ولا أفق في نهاية نفقه المظلم.
المصدر: العربي الجديد